أخبار - 2019.10.19

عبد العزيز قاسم: كيــفــمـا تــكونوا يُـوَلّـى عليــكـم

عبد العزيز قاسم: كيــفــمـا تــكونوا يُـوَلّـى عليــكـم

1 - هنيئا للسيد قيس سعيد بفوزه الساحق بالرئاسة وأرجو ألاّ يندم ناخبوه ندامة الكُسَعي. ولنكن متفائلين ومن يدري لعلّ الخير كلّ الخير سيتدفّق على تونس ببركة الرئيس الجديد الذي أجمعت على مساندته كلّ النقائض. أهنّيء السيد قيس سعيد مع الاعتراف بأنّي لم أفهم من خطابه إلا نزرا يسيرا كما أنّي لم أجد لاستشهاداته، خلال مناظرته مع منافسه، بأقوال الجنرال دي غول، وهي بالمناسبة غير دقيقة، سياقا يبرّرها. وسأبقى منتبها على الدوام لكلّ ما سيصدر عن السيد الرئيس من أقوال وأفعال...

2 - أمّا نحن فلا بدّ لنا من أن نستخلص النتائج العامّة ممّا جرى خلال حملات انتخابية ماراطونية مرهقة ومخيّبة للآمال بالضرورة. بادئ ذي بدء، نلاحظ أنّ أغلبية الشعب التونسي في التشريعية وفي دورتي الرئاسية لم يؤدّوا واجبهم الانتخابي. هذا مؤسف ولكنّ الشأن في خاتمة المطاف شأنهم. أمّا أن يرى فقهاء الإعلام والعلوم الاجتماعية في ذلك «العزوف» أو الاستنكاف أو المقاطعة تعبيرا عن عدم الرضى بالسياسات المتّبعة أو ضربا من الاحتجاج السلبيّ إزاء كلّ الفاعلين السياسيين ففي هذا التفسير تحيّة ضمنية للقصور والتقصير. رجاءً كفّوا عن إسناد شهادة استحسان للكسل ولغياب الوعي في ظرف اقتصادّي واجتماعيّ وثقافيّ وإقليميّ في منتهى الحساسية.

3 - يزدهي حزب النهضة، في غير تواضع، باحتلاله المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية وما ذلك إلاّ خدعة بصريّة فهم يتراجعون من دورة إلى أخرى. صحيح أنّ الإخوان يحتفظون بقاعدة ما زالت صلبة رغم ما طرأ عليها من تآكل ولكنّهم يدركون أنهم مدينون بهذا التفوّق النسبيّ لعلوّ نسبة الامتناع عن التصويت. لقد نزل الشيخ راشد شخصيا إلى الحلبة، لأنّ الشعب غير مضمون، فما أفاد الشيخ عبد الفتاح مورو من ذلك السند في الرئاسية شيئا. أما التشريعية فبالرغم من أنّ الشيخ راشد قد تخلّى عن هدوئه المعتاد ورغما عن تعبئته الشرسة لمريديه ضدّ حزب قلب تونس بكيل التهم فإنّ كثيرا من وجوه النهضة لن يلتحقوا بمقاعدهم في البرلمان الجديد.

4 - حزب النهضة، والحالة هذه، أبعد من أن يكون وازنا في تأليف الحكومة المقبلة. يستطيع أن يتحالف مع بعض أراهيط  الشعبوية من يتوعّدون فرنسا باختطاف سفيرها لدفع الديّة. كانت النهضة طوال السنوات الماضية تتعامل مع منافسين متحضّرين استطاعت أن تشرذمهم بعد أن قضت بهم مآربها. أمّا اليوم فإنّها ستتحالف مع المراهقين والهواة من أبنائها وأحفادها وستجد منهم من يحطّ من قدرها ويزايد عليها في مجال الأسلمة  والثورجة والتلاعب بمقادير الوطن. ستتوصّل النهضة إلى جمع النصاب، بعد تجرّع مرارة الحنظل، ولكنّها تعلم أن ليس أمامها ما يؤشّر إلى تحقيق الاستقرار الحكومي بالنظر إلى الأحقاد والتناقضات المتحكّمة في الساحة.

5 - شهدت هذه الحملة أكثر من سابقاتها بذاءة «فيسبوكية» منقطعة النظير. كان الفحش في الخطاب حكرا أو يكاد على أوباش السياسة ممّن لا يستندون إلى معرفة نظرية أو تجربة عملية وعلى مـــن لا يتجاوز رصيدهم اللغوي مفردات البطن وما دونه. لقد سبق أن نشرتُ بليدرز مقالا مطوّلا عن تعايش عبارات الورع مع المنكر وعن المزج بين الاستشهاد بالكلم المقدّس وبين التلفّظ بالقول المدنّس. وتأكّد لديّ الآن أنّ بعض القياديين لا يسلمون من هذا التلوّث. وعلى سبيل المثال، تفنّن السيد نور الدين البحيري، في تغريداته، في كيل أبشع النعوت لمنافسي حركة النهضة متسلّحا في ذلك بأقوى التسابيح الربانية. وللتذكير فإنّ السيد البحيري رجل قانون ووزير عدل سابق، يفقه جيّدا مدلول الكلمات ويدرك أكثر من سواه تبعات الثّلب والشتيمة... من لا يصوّت لقيس سعيد ولقائمات النهضة، في نظر السيد البحيري، خائن، فاسد، مافيوزي. بهذا المنطق، يوم يستقرّ الأمر والنهي للإخوان، جائز أن نتعرّض جميعا للتنكيل والتصفية... 

6 - ولقد فوجئنا مع الأسف بنفس الإسفاف وقلّة المروءة يصدران عن قيادات وأنصار محسوبين على الوسطية والحداثة في تناحر انتحاري داخل أبناء العمومة، في حين استفرد اليمين المتطرّف بالميدان فعاث فيه. لقد وُصِفتْ نتائج الرئاسية بالزلزال وما هي إلا عرض من أعراضه، فالزلزال الحقيقيّ الذي فتح كلّ الأبواب على المجهول هو الانهيار المدوّي لأحزاب كانت تمثّل طوقا صحيّا حول الجمهورية.

7 - خلافا لما يقوله السيد قيس سعيّد، لم ينته زمن الأحزاب. إنّها بالأساس تنظيمات بشرية تتجدّد وتتأقلم، تتهاوى وتقفز من جديد ولا تضمحلّ نهائيا إلاّ من خلال عملية تدمير ذاتيّ. ذهب «النداء» بددا وتفرقعت الجبهة الشعبية على صخرة التعنّت والأنا المتضخّم. لقد عرفتُ شخصيا من بين الأحزاب المنهارة قياديين ونخبا ليس في صالح الوطن غيابهم. لذلك ندعو الحركات التي بينها صلة رحم أو حتّى شعرة معاوية أن تجتمع لصالح تونس. يا أيّها الذين شيطنتم بعضكم بعضا حاولوا تشكيل جبهة إنقاذ قبل أن يغمرنا ليل الظلمات.

8 - ولا بدّ لنا من كلمة عن العدالة. قضت محكمة التعقيب بإطلاق سراح نبيل القروي فصالحتنا مع القضاء. وحتى لا ننسى يجب التذكير بأنّ ماكينة الحكم جعلت من الرجل أكبر مجرم عرفته تونس من عهد الملكة عليسة إلى عهد الخلافة السادسة. ربّما خالف السيد نبيل القروي القانون من حيث التهرّب الضريبي وغسيل الأموال شأنه في ذلك شأن العشرات من المشتغلين بالسياسة. ويعلم الخاصّ والعامّ مليارات الدولارات التي تصدّق بها أردوغان وأمير قطر على أعوانهما من الإخوان. كان على القضاء، تجنّبا لشبهة الانتقائية والكيل بمكيالين، أن يحّقق مع الجميع بما عهدناه من هدوء وتروّ. أمّا أن يعتقل نبيل القروي بالطريقة التي شاهدها العالم أجمع، إذ كانت عين المعمورة على تونس، عشية الانتخابات الرئاسية فأمر لا يليق بالسمعة التي اكتسبتها تونس في القارّات الخمس كأنموذج للديمقراطية العربية. وبعد هذا كلّه ينتظر الناس على أحرّ من الجمر أن تتفرّغ الآن عدالتنا الموقّرة لفتح ملفّ الجهاز السرّي ولملاحقة من سفّروا الآلاف من شبابنا إلى ليبيا وسوريا والعراق ومن دفعوا بالمئات من بناتنا إلى جهاد النكاح وللكشف عمّن أمر باغتيال شكري بالعيد ومحمد البراهمي.

9 - منذ حدوث ما سمّي بالثورة إلى اليوم ونحن نسمع ونقرأ مصطلحات تُستعْمَلُ في غير مواقعها ولا تتّفق مع مدلولاتها. أخصّ بالذكر منها لتواترها: «الحقيقة»، «الحرية»، «الكرامة». إنّ الجهل بعلم المعاني لا يبرّر مثل هذا التعسف اللغوي. هذه الكلمات تغطّي قيما جليلة لا يجوز استهلاكها كيفما اتّفق فضلا عن إطلاقها على ما يتضارب في أغلب الأحيان مع الأخلاقيات التي تبشّر بها. احذروا الجماعات التي تلتفّ على المصطلحات لتتلاعب بالهويّة وبالتاريخ وصولا إلى تبرير الإرهاب وإلى نسف علاقاتنا الدولية الهشّة. مازال بعض المنادين بالكرامة يدافعون عن الدواعش وعمّا ارتكبته مدرسة الرقاب من فواحش. ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان أنّ مصطلحات الجمهورية والديمقراطية والثورة مفاهيم حداثية لا تقبل الرجعية ولا تتعايش مع المُسَلّمات المتحجّرة.

10 - «الشعب يريد». هذه العبارة السحرية التي جعلت منها الجماهير الغاضبة شعارا في انتفاضتها ضدّ نظام تآكل مقتبسة مباشرة من بيت أبي القاسم الشابي الشهير:

إذا الشعب يومـــا أراد الحيـاة  ***  فلا بــدّ أن يستجيــب القدر

هذا الشعار وهذا البيت انتشرا في أرجاء العالم العربي وحرّكا جماهير عريضة. بيت الشابي أضيف إلى النشيد الوطني لأنّه أسهم

في عودة الوعي الوطني طوال سني الكفاح التحريري. قصيدة «إرادة الحياة» نشرها الشابي سنة 1933 قبل وفاته بسنة وبضعة أسابيع فاستقبلتها النخب بما تستحقّ من حفاوة واستيعاب، ولكنّ سلفية العهد كفّرته باعتبار أنّ القدر بيد الله في حين أنّ المقصود هو المصير وأنّ الإنسان صانعه. وبعد ما يقارب التسعين سنة من صدور البيت وذيوعه الواسع استمرّت السلفية الوهّابية والإخوانية في رفضه ودحضه. وهذا الشيخ أبو إسحاق الحويني المصري، على سبيل المثال، يأبى إلاّ أن يضع العمامة على رأس مفهوم علماني ويتعسّف على العجز فيستبدله:

إذا الشعب يوما أراد الحياة   «فــلا بـــدّ أن يستعيــد العـبر»

بمعنى لا بدّ أن ينخرط الشعب في التواكلية  وأن يتعظ بالخرافات وبشطحات المنابر. وكثيرا ما يتطفّل الفقهاء على الشعر فيأتي بليدا ومبلّدا. والمؤسف أنّ هناك محاولات تونسية معروفة المصدر والمنحـــى تعتـــدي على عبقريـــة الشابي وتسعى إلى إعـــداد نشيد وطني بديل ممسوخ. ولنا لهذا الموضـــوع الحسّـــاس عـــودة.

11 - لقد جعل السيد قيس سعيّد من عبارة «الشعب يريد» بوصلة ودستورا. ليس للسيد قيس سعيّد برنامج حكومي فالشباب هو الذي سيسطّر الخطط الإنمائية وسيقوم بمقاومة الفساد عن طريق التدخّل الفوري والمباشر. والويل كلّ الويل لمن يشكّك في قدرات الشباب على تسيير شؤون الدولة بما يقتضيه الأمر من كفاءة عالية. الحقيقة الثابتة هي أنّ الشعوب كلّها معرّضة، وفي زمن  الفيسبوك بالذات، إلى التكييف وغسيل الدماغ. كفى تغريرا وإيهاما للشباب الذي لا يطالب في حقيقة الأمر إلاّ بالشغل والعيش الكريم.يا هواة السياسة اتقوا الله في أبناء الوطن. خلال الستينات والسبعينات كانت الصومال الدولة الإفريقية الأكثر تنمية وحضارة. كان مهرجان مقديشو السينمائي لا يقلّ أهميّة وألقا من أيّام قرطاج السينمائية. انظروا ما فعل وما يفعل بها «الشباب». قال أحد حكماء القرن التاسع عشر: إذا كان الشعب ملكا فملكته هي الدهماء.

12 - لقد انكبّ الأدباء قبل غيرهم من المفكّرين على دراسة الميكانيزمات الاتصالية التي تتلاعب بأهواء بسطاء الناس. ولنا في مسرحية «يوليوس قيصر» نموذج شهير. بعد اغتيال الإمبراطور توجّه «بروتوس»، نيابة عن القتلة، إلى الشعب مبرّرا الإقدام على الفعلة فنادى الناس بحياته ثم سُمِحَ لأنطونيو برثاء القتيل وببراعة خطابية استثنائية جعل المستمعين يغيّرون رأيهم شيئا فشيئا وصولا إلى ملاحقة «بروتوس» وجماعته.

ولنا في مسرحية أحمد شوقي الشعرية «مصرع كليوباترة» صورة أخرى لقوّة التأثير والإيحاء في عقلية الجماهير بغية التصرف في إرادتها. في أحد المشاهد حوار بين مثقفين حول احتفال شعبي كبير بهزيمة عسكرية قدمتها السلطة في شكل انتصار. أحد المعلقين يقول

اسـْـــمَــــــعِ الشَّـــعْــبَ (دُيُونُ)  ***   كـــيْـــفَ يُــوحونَ إليهِ
مــــلأ  الأرْضَ  هُـــــــــــــتــــافًا  ***   بحيــــاتَيْ  قـــاتِلَيْــــــهِ
أثـّــــرَ البُهـــــــْتــــــانُ فـيــــــهِ   ***  وانْطَلـَـــى الزورُ علــيهِ
يا لــــهُ مـــن بَــــبَّـــــــــغـــــاءٍ   ***  عـَـقْلُـــــــهُ في أُذُنَيْــــهِ

عبد العزيز قاسم

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
منصف - 21-10-2019 22:47

شكرا للأستاذ المحترم سي عبد العزيز على هذا المقال الجدي والعميق. في رأيي فإن الحكماء يعرفون ان "الشعب أراد" ولكن اغلبهم يعرف ان "الشعب قد لا يعرف ما يريد...." لذا يدعون الله أن لاتتحقق توقعتهم من حصول الكوارث رفقا بالوطن الجريح . شكري للمجلة وتقديري لسى عبدالعزيز

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.