منجي الزيدي: الشبـاب والعنـف
تشهد بلادنا ارتفاعا في معدلات الجرائم البشعة رغم ما يُبذل من جهود أمنية ؛ ويبدو أنّ الفتق قد اتسع على الراتق. ومن بين الحوادث الكثيرة التي جدّت مؤخّرا مصرع شاب في مقتبل العمر طعنا بسكين وإصابة شقيقه بجروح بليغة. ولئن بدت هذه الجريمة معتادة فإنّها تحوّلت إلى قضية رأي عام. ذلك أنّها حدثت في حي عصري وسط المقاهي والمحلات الراقية واستهدفت شابا تفيد التقارير الإعلامية بأنّه من أسرة محترمة متعلم ورياضي وناشط في المجتمع المدني...
وأنّ الشاب القاتل ومرافقيه ليسوا من أصحاب السوابق بل هم تقريبا من نفس الوسط الذي ينتمي له الضحية. ولقد خلّفت الحادثة حزنا عميقا وشعورا بالعجز أمام هذا النزيف الذي لا يتوقّف. وبرزت إشكالية «العنف الحضري» على السطح مجدّدا. وانطلقت حملات الكترونية تطالب بالتصدّي بقوّة للوحوش السائبة في الشوارع. لا تهمّ حيثيات الواقعة هنا، الأهمّ هو أنّها هزّت الصورة النمطية التي تحصر هذه الجرائم في الأحياء الشعبية والفئات الفقيرة، ونبّهت الجميع إلى أنّ العنف الساكن فينا ليلَ نهار لا يستثني أحدا..
ويمكن القول في محاولة مختصرة للفهم إنّنا نعيش طور «مجتمع المخاطر» كما سمّاه عالم الاجتماع «أولريش بيك « والذي يُعدّ انتشار الجريمة سمة من سماته. ويُعتبر شبابه الفئة الأكثر عرضة واستهدافا، حتى أنّ عالم الاجتماع الفرنسي «فرانسوا دوبي» أطلق عليهم تسمية «شباب المعاناة» la jeunesse de la galère. لقد أضحى العنف المستشري بين الشباب معضلة دولية. واعتبرته منظمّة الصحة العالمية من أبرز المشاكل التي تواجه سلامة الأجيال الصاعدة. وتتضمّن إحصاءاتها أرقاما مفزعة: فأكثر من 43 بالمائة من العدد الجملي لجرائم القتل على الصعيد العالمي تحدث في صفوف الشباب من 10 إلى 19 سنة أغلب مرتكبيها وضحاياها من الذكور، ومقابل كلّ شاب يُقتَل هناك بين20 و40 آخرين يدخلون المستشفى؛ ومن العوامل المثيرة لهذا العنف الشّجار والتًّنَمُّر l’intimidation بين الأولاد...وتتمثّل أبرز أدوات القتل استعمالا الأيدي والأقدام والسكاكين والعصيّ...
بيد أنّ العنف في أوساط الناشئة يمثّل بعدا من أبعاد مسار بناء الشخصية الشبابية في محاولتها التكيّف مع محيطها المتغيّر. وهناك عوامل مرتبطة بشخصية الفرد يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كالاندفاع وفرط النشاط وقلّة الخبرة والتحكّم في السلوك ومواجهة الضغط والاستفزاز والشعور بالكبت، وهي عوامل ناجمة عن الاستعدادات الفردية والتربية الأسرية وقدرة المحيط الاجتماعي على الضبط والتوجيه...
كما يرتبط الشباب في التمثّلات الاجتماعية بالفتوة والقوّة والمنافسة. وتتشكّل بفعل ذلك «ثقافة فرعية شبابية ذكورية» تسود فيها رموز التّحدي وإثبات الرجولة وتصفية الحساب وفضّ النزاعات باستخدام العنف وغالبا ما تكون الدواعي مرتبطة بفرض الزعامة وبالعلاقات مع الفتيات. وتعني عبارة «هيا نفضّوها» في أوساط الشباب الدعوة إلى النزال والمصارعة.
تتغذّى هذه الثقافة اليوم من صناعات المضامين التي تُروّج لنماذج «مثالية» من قبيل الفتوات والصعاليك وعصابات الأحياء الشعبية. وأضحت المخدّرات واستعمال العنف صورة «نموذجية» لإثبات الذات في «الواقع الاجتماعي» الذي تصوّره الفضائيات. ويجد العنف الشبابي في البيئة الاجتماعية المتفكّكة حاضنة ليُعرّش وينتشر. فضعف اللُحمة الاجتماعية وانحلال روابط التضامن العضوي بين أفراد المجموعة يؤدّي بالضرورة إلى إضعاف جسد المجتمع فتصبح مؤسّساته عاجزة عن الضبط والتوجيه وإنفاذ القوانين. والواقع أنّنا لسنا إزاء ظاهرة طارئة. فقد عرفت المجتمعات البشرية العنف منذ الأزل. وتناولته العلوم الاجتماعية بالدرس منذ أمد بعيد. ولكنّ ما يثير الانشغال هو اتساع المدى والتطبيع مع الفضاعة. لقد تحدّث علم الاجتماع الأمريكي منذ الخمسينات عن «العنف المجنون» la violence enragée وقصـــد به العنف الفضــــيــع غيــــر المــبرّر و«المجـــــاني» violence gratuite وفسّره بعوامل الكبت الطبقي وعدم القدرة على الامتثال للقيم المهيمنة. إلاّ أنّنا اليوم وبمواجهة هذا الصنف من العنف نحن أمام حالة من «الأنوميا» أي الفوضى الناجمة عن انهيار متسارع لمنظومة القيم، وتفكيك ممنهج لوسائل المناعة الاجتماعية من خلال إضعاف التعليم والأسرة وتسيّب الإعلام التجاري الذي يقتات من الإثارة وتحريك مستنقعات المجتمع الآسنة واعتماد الشاذّ قاعدة ومثالا.
أضف الى ذلك وهن الدولة وانحسار دور النخب وانغماسها في المناورات السياسية وحرب المواقع والمنافع حيث لا يتوانى البعض عن الشتيمة وفاحش القول وحيث تتحول النقاشات إلى خصام علني وعراك تتهاوى معه رمزية السيادة والمؤسسات التمثيلية...
لقد طبّع مجتمعنا تدريجيا مع العنف بقبول درجاته الدنيا و التغاضي عنها وإهمال معالجتها و الوقاية منها. وليس لنا اليوم إلاّ أن ننتظر عودة الوعي للجميع بأنّنا أمام مسؤولية تاريخية وهي مسؤولية إنشاء جيل يكون أقرب إلى الحياة منه إلى الموت ومؤهّلا للنجاح أكثر منه للفشل. وتلك مسألة صعبة لن ننهض بها طالما لم يحلّ السلام بين مكوّنات المجتمع التي تبدو في حالة بغضاء وحقد نأمل أن تنتهي قريبا..
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق