أخبار - 2019.09.24

عبد العزيز قاسم: على هامش انتخابات الأحد الديمقراطية التونسية إلى أين؟

على هامش انتخابات الأحد الديمقراطية التونسية إلى أين؟

طوال أسبوعين، جلبة ومزايدات ومضايقات وتراشق بالتهم والشتائم بلغت حدّ الابتذال والسفاه. هذه الحركة المضنية المكلفة سمّوها «عرسا انتخابيا» وكان لتونس العروس أن تختار عريسها أو «تياسها» من بين ستّة وعشرين خاطبا غثُّهم أكثر من سمينهم. وانتهت الجولة الأولى مساء الأحد، وكانت إشاعات واستطلاعات عشوائية تروج منذ السبت منذرة بما لم يكن في الحسبان وتأكدت التخمينات: وفي الحقيقة كان حضور نبيل القروي للدورة الثانية منتظرا بكل الأحوال رغما عمن زجّوا به في السجن. أما العصفور النادر، البلبل المغرّد خارج السرب، فكيف ومن أين جاء؟

منذ ما يزيد عن السنة والقوى الحداثية من تقدمّيين وليبيراليين تقنع نفسها بأنّ الانتخابات التشريعية والرئاسية ستشهد متغيّرات تكرّس تهرئة الإسلاميين وانحسار نفوذ النهضة. وكان لإضافة مليون ونصف المليون من البنات والبنين إلى القائمات الانتخابية تبشير بأنّ رياح التغيير ستعصف بالجذوع اليابسة وستدعم مسار التقدّم نحو مجتمع أكثر وعيا وصلابة. وإذا بهذا المدد الانتخابي المهمّ يصحّ فيه القول: فتنة نائمة سامح الله من أيقظها. وعلى أيّة حال ما فتئنا نقول إنّ الديمقراطية مادّة تربوية لا بدّ من تدريسها للكبار والصغار على السواء. ممارسة الحريّة ليست بالأمر الهيّن.

كنا قبل أسابيع من بداية الحملة نتوقّع إقبالا قياسيا على مكاتب الاقتراع، فقد ذهب الظنّ بنا إلى أنّ الرّهانات كانت واضحة بما فيه الكفاية، فإذا بالفئات المحسوبة على الوعي والإدراك تفضّل نوم الضحى والاستحمام في البحر في هذا الصيف الركيك المتباطئ. النتيجة هي أنّ المشاركة في آداء الواجب الانتخابي كانت بنسبة اثنين من خمسة فالخزيُ كلّ الخزي لمن تركوا نخبة صغيرة من الحداثيين في مواجهة أفواج من المُضَلَّلين قلبوا كل الموازين.

قال العقلاء المنهزمون «يجب قبول النتائج مهما كانت مخيّبة للآمال». نعم. يجب احترام اللعبة الديمقراطية، رغم  أنّها مغشوشة بالأساس. ولكن لا داعي للإشادة بحكمة الشعب الذي يٌنْعت بالعظيم. إنّه شعب بسيط ينتخب بحسب ما يملى عليه، إنّه شعب انهارت طاقته الشرائية ودُمِّرت  منظومته التربوية وصغرت نخبه السياسية. ثمّ أيّة عظمة لشعب عازف عن التصويت؟ ودعنا من تقعّر المعلقين القائلين بأنّ الشعب بعث برسالة مفادها أنّه فقد ثقته في «السيستام» وأنّه كره السياسة والسياسيين. يا سلام على الشعب. أهذا هو الاستثناء التونسي، أهذا هو النموذج التونسي؟
إلى متى لا نقرّ بأنّ شرائح واسعة من الجماهير لم تبلغ بعد سنّ الرشد؟ رجاء أيّها الشرّاح، ويا أيّها المفسّرون والمتأوّلون  ارحمونا، رؤوسنا تكاد تنفجر فلا تزيدونا صداعا على صداع.

نعم، يجب احترام نتائج صندوق الاقتراع، ولكن لنا أن نتساءل بعد الآن عن أهليتنا للممارسة الديمقراطية، بدءا بالتعرّف على من صوّت ولمن؟

نبيل القروي صوّت له الفقراء. ففي غياب الدولة، انبرى القروي يطعم المساكين ويكسوهم ويرمّم مساكنهم وينفق على زيجات أولادهم ويرسل الأطباء لعلاجهم. من أين له كلّ الأموال التي أنفقها ؟ هذا سؤال لا تطرحه البطون الخاوية. وصوّت لنبيل أيضا كثير ممّن استنكروا عنترية القبض عليه وإيداعه السجن عشية بدء الحملة الانتخابية بمرأى ومسمع من العالم أجمع. هذه العملية كانت غبيّة بكلّ المقاييس.

أمّا قيس سعيد فقد صوّت له نوع آخر من الفقراء يرون فيه الرجل الجدّي المستقيم بصوته الراديوفوني المتهدّج وبتفاصحه بلسان عربي مبين ممّا كان يقدّمه من استشارات قانونية. فهل انتُخِب من أجل فهمه المعمّق للدستور؟ لا، فكبار أساتذة القانون الدستوري دعوا إلى التصويت لغيره. قيل إنّ طلبته هم الذين ساندوه ودعّموه. جائز. ولكن ليس بهذه الدرجة من النجاعة. يجب البحث عن فكّ هذا اللغز داخل المليون ونصف المليون من الناخبين الجدد الذين تمّ ترسيمهم بطريقة أثارت الإعجاب إلاّ أنّها تثير التساؤل اليوم.

أرحّب بالسيد قيس سعيد إلاّ أنّي كنت أتمنّى أن أسمعه يتحدّث عن هموم التونسيين وعن تصوّره لمستقبل تونس، كنت أودّ أن أختبر مدى إلمامه بالعلوم الإنسانية التي لا يمكن تسطير السياسات بدونها. كنت أودّ أن أسأله عمّا يُنْسَبُ إليه من علاقات بحزب التحرير وعن موقفه النهائي من الحريات الفردية ومن عقوبة الإعدام ومن الشريعة عموما. كنت أود أن أسأله عن علاقاته بالمتنبي وبالمعري...

هناك مشكل في الاقتراع مطروح، منذ القدم، في كافة أنحاء العالم المتحضّر هو أنّ الأصوات تُعَدُّ ولا تُوزَن. وحدّث ولا حرج عمّا قام به الآلاف على الفيس بوك.

كانت المعركة شرسة حول منصب مفرغ دستوريا من أهمّ صلاحيات الحكم ونسي المتبارون كيف تألّب الجميع على الرئيس المرحوم الباجي قائد السبسي وحاسبوه على ما لم يستطع فعله تحت وطأة دستور قيّد يديه ورجليه.

صحيـــح أنّ للرئيـــس بعــض النظـــر على وزارتي الدفاع والخارجية وله تمثيليته الرمزية في العلاقات الدولية. كيف سيتعامل خليفته مع نظرائه ومع الفاعلين في المحافل الدولية؟ كيف سيجلب الاحترام لتونس بشخصيته، بمواهبه، بثقافته العامة، بظــرفه ونكــــاته. هل أنّ رئيس الجمهورية المقبل مهيّأ لمثل هذا؟ أرجـــو ذلك.

أحــد مستشــــاري يوســف الشـــاهد الثقات من أصدقائي المقرّبين. تحدّثت معه في حياة الرئيس الراحـل عــــن إمكــــانية ترشّح رئيس الحكومة لرئاسة الجمهورية فقلت له: إذا رغــــب في ذلك انصحه بالامتناع فما من رئيس حكومة أو وزيـــر أوّل فاز في انتخــابات الرئاسة وذلك لسبب بسيط هو أنّه يتحمل وزر خيبات عمله الحكومي ومضاعفات القرارات غير الشعبية التي يضطرّ إلى اتّخاذها. وأضفت : انصحه بالعمل على تركيز دعائم حزبه لخوض غمار التشريعية في أفضل الظروف. وانحاز الصديق لرأيي. وأبى الشاهد إلاّ أن يترشّح  وفرّ إلى الأمام... لقد أسفت بصدق لخسارة يوسف الشاهد المدوّية وفي اعتقادي أنّه لم يجد من حوله نصحاء عقلاء ذوي مصداقية.  كنت أتمنى أن تجتمع قوى الحداثة حول رجل كالدكتور عبد الكريم الزبيدي يتميّز بنظافة اليد واللسان والفكر ويتحلّى بالشجاعة الأخلاقية ليقول «لا» حين يتوّجب الرفض والضّرب على الأيدي التي تمتدّ للنهب أو للإساءة إلى الجمهورية فقالوا فيه شرّ الأقاويل. كنت أودّ على غرار كثير غيري أن ينحاز إليه مهدي جمعة فأبى فباء بهزيمة مهينة.

كفى هراء وتلفيقا، كفى شيطنة لعبير موسي التي أثبتت حضورها في المناظرات. يا شظايا الحداثة اتحدوا.

نحن التونسيين قصار النظر منتفخو الأنا بحيث لا نتّعظ بما يجري في العالم من أحداث وحالات كالتي نعيشها. ولم أنس، وما بالعهد من قدم، كيف اقتلع أكرم إمام أوغلو رئاسة بلدية إسطنبول مرتين من براثن أردوغان؟

أكرم إمام أوغلـو من قادة حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض ولم يكن ليفوز لولا أن تخلّصت كلّ أحزاب المعارضة من الأنانية وحبّ الذات فالتفّوا حوله وجعلوا منـــه مــــرشّحــــهم الوحيد ضدّ الإســـلاموي بنعلي يلدريم. والسلام على سامـــع الكلام.

هل يمكـــن حصــول مثل هـذه الصّحوة في بلادنا؟ الهواة والمراهقون الكبار غير قادرين على الانخراط في مثل هذه الاستراتيجيات.

 عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.