المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية: هل تتفوّق »استراتيجية الصّبر الأقصى« على »استراتيجية الضّغط الأقصى«؟
من المشروع أن نسأل هذا السؤال بعد أن تراجعت، على الأقلّ مرحليّا، حدّة التوتّر الذي عرفته العلاقات بين إيران وبين الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع شهر ماي الماضي، على إثر فرض واشنطن الدفعة الجديدة من عقوباتها المشدّدة على طهران... ففي مرحلة ما، بلغ التوتّر بين الجانبين درجة من الحدّة كانت فيها منطقة الخليج تقف على حافة الهاوية، أمّا اليوم، وخاصّة منذ انعقاد قمّة مجموعة الدول الكبرى السبع في أواخر شهر أوت في بياريتز بفرنسا، فيبدو أنّ المخاوف من اندلاع مواجهة بين إيران والولايات المتحدة تركت مكانها لشيء من الأمل في إمكانية تدرّج طهران وواشنطن نحو اعتماد أسلوب التفاوض لفضّ الخلافات القائمة بينهما سلميّا، حتّى إنّ الحديث بات يدور حول احتمال عقد لقاء بين الرئيسين الإيراني والأمريكي، بمناسبة انعقاد الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة بنيويورك...
وفي رأيي فإنّ هذا التطوّر الهام لم يأت من فراغ، وإنّما جاء نتيجة جملة من التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية التي يمكن أن نجملها فيما يلي:
1 - إثبات إيران قدرتها الفائقة على الصمود في وجه الضغوط والتهديدات الأمريكية والغربية، لا سيما وأنّها، على ما يبدو تعلّمت الكثير من درس العراق الذي قبل التنازل تلو الآخر، ولكنه لم يسلمْ، في نهاية المطاف، من السقوط بين براثن الاحتلال الأمريكي، كما تعلّمت من درس سوريا التي فشل المخطط الأمريكي الإسرائيلي التركي الخليجي في إسقاط دولتها الوطنية وفي الإطاحة بنظامها رغم ثماني سنوات طوال من الحرب المكلفة بشريا وماديا.
وبالفعل، فإنّها حرصت على أن تبرهن لواشنطن وحلفائها على أنّها ليست مستعدّة للاستسلام والركوع كما يريد ذلك الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب.
ومع أنّها دأبت على التأكيد على أنّها ملتزمة بالحلول الدبلوماسية، وأنّها لا تريد التصعيد مع الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الغربية، وأنّها لن تبدأ بالهجوم، فإنّها كانت تشدّد باستمرار على أنّها ستردّ على أيّ فعل عدواني بالمثل.
وقد قرنت القول بالفعل، وأثبتت أنّها قادرة على التحدّي والمناورة واستخدام أوراق القوّة ووسائل الردع التي تتوفّر عليها، عندما نجحت، في 20 جوان 2019، في إسقاط طائرة التجسّس الأمريكية المسيّرة «آر كيو-4 غلوبال هوك» التي تُعَدُّ من أرقى ما أنتجه التصنيع العسكري الأمريكي، وهو ا اعتبره محلّلون غربيون، صفعة «تقنية» للولايات المتحدة ومؤشّراً عملياً على قدرات إيران العسكرية النوعية المتطوّرة...
وقد جاء إحجام الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب عن شنّ الضربة الانتقامية الفورية التي قال إنّه كان من المقرّر الردّ بها على إسقاط الطائرة، ليؤكّد أنّ الولايات المتحدة تحتاج إلى حساب أفعالها وردود أفعالها إزاء إيران حسابا دقيقا.
وقد ثنّت إيران على تحدّي إسقاط طائرة التجسس الأمريكية بتحدٍّ ثان لبريطانيا العظمى عندما سارعت وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى احتجاز ناقلة النفط البريطانية (ستينا إمبيرو)، بطريقة وصفها الرئيس الإيراني حسن روحاني بالقوية والدقيقة والاحترافية ردّا على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية (غريس وان) في مياه البحر الأبيض المتوسط.
وبذلك أثبتت أنّها قادرة على تطبيق قاعدة «العين بالعين واليد باليد» وأنّ «العين الأمريكية أو اليد الأوروبية ليست أثمن من عين أو يد الإيرانيين»، كما أكّدت أنّها «لن تسمح بإرباك ميزان القوّة في المنطقة، لأنّ ذلك سيكون بمثابة موتها، ولو سمحت لبريطانيا بمعاملتها بطريقة غير عادلة فسيتبعها آخرون».
وإلى ذلك فقد كان لافتا أنّ طهران قابلت تصنيف أحد أفرع جيشها وبالتحديد فيلق الحرس الثوري الإسلامي منظمة إرهابية، بتوصيف القوات الأمريكية في دول المنطقة بالإرهابية.
وعلى صعيد آخر، وقبل كلّ ذلك كانت طهران أعلنت، ردّا على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق حول الملف النووي الإيراني وعلى عدم وفاء أوروبا بوعودها فيما يتعلق بتخفيف آثار العقوبات الأميركية المشدّدة على قطاعيها النفطي والمصرفي، أنّها باتت في حلّ من الالتزام بتعهّداتها بموجب الاتفاق خاصة فيما يتعلّق بكمّيات ونسب تخصيب اليورانيوم.
2 - أمريكيًّا، تجدر الملاحظة أنّ الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب الذي لطالما وعد بتقليص أعداد القوات الأمريكية في الخارج، أعلن في معرض الحديث عن مشاركته في قمة العشرين التي انعقدت في أوزاكا باليابان، أنّ بلاده التي اضطلعت لعدّة عقود من الزمن بمهام «الشرطي» في مضيقي هرمز وباب المندب لن تواصل الاضطلاع بهذه المهام مستقبلا لأنّ ذلك يكلّفها ثمنا باهظا، وهو لا يعود بالنفع إلاّ على دول الشرق الأوسط «الغنية» التي تصدّر النفط، والدول الآسيوية «الغنية» التي تستورده، وذلك في وقت أصبحت فيه الولايات المتحدة مصدّرة للنفط ولم تعد بحاجة إلى توريده من المنطقة.
3 - اتجاه أوروبا التي لا تتّفق عموما مع السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة إزاء ايران، نحو التحرك بجدية أكبر من أجل منح طهران بعض الضمانات التي تطالب بها فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية، وذلك لتجنب الأسوإ وتحاشي سقوط المنطقة في مواجهة غير محسوبة العواقب، وتحاشي انزلاقها إلى نزاع شامل يصعب التحكّم فيه، ومن شأنه أن يهدّد المصالح الأمريكية والغربية الحيوية فيها، كما من شأنه أن يضع حلفاء الولايات المتحدة وبالذات إسرائيل والمملكة العربية السعودية، والدول الخليجية عامّة في دائرة الاستهداف العسكري المباشر، من قبل ما تسمّيه الفصائل المسلّحة الموالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة واليمن وأفغانستان...
وقد تجلّى هذا الاتجاه في الجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي خلال قمّة مجموعة الدول السبع الكبرى ببياريتز، من أجل البحث عن خيار آخر غير خيار المواجهة التي ستكون مكلفة وغير ضرورية، وعديمة الجدوى.
ويقوم هذا الخيار الذي يهدف إلى إنقاذ الاتّفاق حول الملف النووي الإيراني على أساسَيْن اثنين، أوّلهما هو منع إيران من حيازة السلاح النووي، وثانيهما تجنّب زعزعة استقرار المنطقة بتحاشي المزيد من التصعيد في التوتّرات في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال العمل على تخفيف العقوبات الأمريكية التي تستهدف النفط الإيراني، مقابل عودة إيران الى الالتزام مجدّدا بالاتفاق، وبفتح مفاوضات جديدة حول برنامجها الباليستي ونفوذها الإقليمي.
ولتيسير قبول هذا الخيار من الطرفين الإيراني والأمريكي عرض الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون السماح لطهران «بتصدير جزء من نفطها لفترة محدّدة» مقابل التزامها مجّدداً بعدم تخصيب اليورانيوم.
4 - إدراك الولايات المتحدة أنّ المراهنة على دول الخليج في تحمّل أعباء المواجهة المباشرة مع إيران أمر غير ممكن لعدّة أسباب من بينها خاصّة تصدّع التحالف السعودي الإماراتي في اليمن، وجنوح عدد من دول المنطقة الخليجية مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر وعُمَان إلى تأييد دبلوماسية خفض التصعيد مع طهران...
ثمّ إنّ الدعوة التي أطلقها، من القاهرة، كاتب الدولة الأمريكي مايك بومبيو إلى إقامة تحالف استراتيجي (أو ما يشبه «حلف شمال أطلسي عربي») في الشرق الأوسط ضدّ إيران، لم تجد آذانا صاغية، لأنّ المشروع لا يمكن تحقيقه في ظل الخلافات العربية العربية التي تفوق، من حيث العدد والحجم، الخلافات العربية الإيرانية.
5 - تأجّج الحرب التجارية الأمريكية الصينية ممّا قد يدفع الصين إلى مزيد تحدّي الولايات المتحدة، بالوقوف إلى جانب إيران وعدم الالتزام بالعقوبات المشدّدة المسلّطة على القطاع النفطي الإيراني، وهو ما سيسهم في الحيلولة دون «تصفير» الصادرات النفطية الإيرانية، وسيخلق ثغرة تتيح لإيران الإفلات من عملية خنق اقتصادها، مثلما تريد ذلك واشنطن.
ومعلوم أنّ الصين كانت أبدت «تفهّمها» لموقف إيران، ودعمها لها في «حماية حقوقها الشرعية»، وليس من المستبعد أن تقف الى جانبها في التعاطي مع التداعيات التي تفرضها العقوبات المشدّدة الأمريكية عليها. ثم إنّها، في حالة إعادة نقل ملفّ إيران النووي من جديد إلى مجلس الأمن، يمكن أن تكون إلى جانب اتحادية روسيا ظهيرا لإيران يساعدها على الحيلولة دون تسليط مستوى أعلى من الضغوط الدولية عليها.
6 - إطلاق يد إسرائيل، بصورة غير مسبوقة، في المنطقة، ومباركة سياستها الجديدة القائمة على تكثيف ضرباتها لمصالح إيران ومواقعها وحلفائها في ساحات سوريا والعراق ولبنان، وذلك تجنبا لضربها مباشرة في الداخل مما سيستفزّها وسيستدعي حتما ردّ فعلها بقوّة...
جميع هذه التفاعلات، إضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وحرص الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب على تجديد التأكيد على وعوده السابقة بتقليص أعداد القوات الامريكية في المنطقة، هي التي قد تفسّر ما يمكن اعتباره تراجعا أمريكيا عن الدخول في مواجهة حقيقية ومباشرة مع إيران.
ومن أهمّ وآخر الدلائل على هذا التوجّه الأمريكي الاتفاق الذي قامت واشنطن بإبرامه مع طالبان، وإقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي يعدّ من صقور البيت الابيض والذي كان يدعو ويعدّ للحرب على ايران ويحاول الدفع إليها بكلّ ما أوتي من قوّة. أمّا من الجانب الإيراني فما من شكّ أنّ إيران تضرّرت كثيرا من العقوبات المشدّدة التي فرضتها الولايات المتحدة على قطاعيها النفطي والبنكي، فلقد سجّلت الصادرات النفطية الإيرانية انخفاضا حادًا، ممّا أدّى إلى تراجع الاقتصاد الإيراني بنسبة 4% سنة 2018 ومن المتوقع أن يتراجع بنسبة 6% أخرى سنة 2019.
وليس من المستبعد أن يدفع ذلك إيران إلى قبول التفاوض مع الولايات المتحدة لكن ليس بأيّ طريقة، فهي وقد أعلنت أنّها ستواجه «استراتيجيــــة الضغــط الأقصى» بما سمّته «استراتيجية الصبر الأقصى» ستواصل الصمود والتحدّي والوقوف في وجه الضغوط الأمريكية حتّى تتمّ المفاوضات بطريقة عادلة كما جاء على لسان رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حسن روحاني الذي كان أكّد أنّ بلاده مستعدّة للدخول في مفاوضات «عادلة»، لكن ما لم تكن هذه المفاوضات تعني الاستسلام. وقال: «ما دمت مسؤولا عن الواجبات التنفيذية للبلاد، فنحن مستعدّون تماما لإجراء مفاوضات عادلة وقانونية وصادقة لحلّ المشكلات». وأضاف: «لكن في الوقت ذاته لسنا مستعدّين للجلوس إلى طاولة الاستسلام تحت مسمّى المفاوضات»
وخلاصة القول إن الأطراف المعنية قد تكون اقتنعت بأنّه من الضروري تجنّب الانحدار نحو حرب غير مبرّرة وليست ضرورية، وأنّ البديل عن خيار المواجهة الإقليمية باهظة الكلفة بين أمريكا وإسرائيل والدول الخليجية الحليفة لهما من جهة، وبين إيران وحلفائها من جهة أخرى، يوجد خيار آخر هو استكشاف قدرات الدبلوماسية على فضّ الخلافات القائمة.
فهل يتكرّر التغيير الذي عرفه مسار التعاطي الأمريكي مع كوريا الشمالية، مرّة أخرى مع إيران؟.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق