أخبار - 2019.08.03

المسرح في المهرجانات الصّيـفــيّـة حضـور بالغــيـاب

المسرح في المهرجانات الصّيـفــيّـة حضـور بالغــيـاب

تساؤل أصبح يرجع ليطرح نفسه عند اقتراب موعد المهرجانات الصّيفيّة: ما الذي جعل المسرح يغيب عن البرمجة في هذه المهرجانات؟

قد يبدو الجواب لأوّل وهلة بسيطا وبديهيّا: لأنّ المسرح لم يعد يستجلب الجمهور الذي يصبح في الصّيف، أميل إلى الحفلات الرّاقصة بل والصّاخبة التي ترفّه عنه وتطرد كوابيس مشقّة الشّغل ومصاعب الحياة بمختلف أشكالها. إلاّ أنّه جواب سطحي ومراوغ للواقع وللأسباب العميقة التي تكمن وراء الظّاهرة، ظاهرة عزوف المبرمجين في المهرجانات عن العرض المسرحي. حتّى أنّ أغلبيّة مديري المهرجانات والفضاءات الثّقافيّة ومندوبي الثّقافة الجهويّين يتعمّدون عدم حضور العروض المسرحيّة التي تبرمجها وزارة الشّؤون الثّقافيّة وتوزّعها على المهرجانات والتّظاهرات بعنوان العروض المدعومة من قبل الدّولة والتي يمنحها القانون لكلّ هيكل إنتاج بنسبة تختلف حسب تصنيف العمل من خلال تقييم اللّجنة الوطنيّة لاقتناء العروض المسرحيّة.

وفي المقابل، يسارع المبرمجون إلى الاتّصال بمتعهّدي عروض الممثّل الواحد ذات الطّابع التّجاري الاستهلاكي وليس المسرحي، ليغدقوا عليهم كاشيهات شبه خياليّة حريصين على الانفراد ببرمجتها طمعا في تسجيل أرقام قياسيّة للحضور الجماهيري.وكأنّ الإقبال الجماهيري يمثّل، وحده وفي حدّ ذاته، مقياسا لجودة الإبداع ونجاحه. الجفوة الحاصلة بين المسرح والمهرجانات تتجاوز مسألة رغبات الجمهور. فهل يمكن الحديث عن جمهور مسرحيّ في تونس وننسب إليه تفضيلا لنوع من الإبداع دون ألوان أخرى؟

هل كوّنّا للنّاشئة ذائقة مسرحيّة تتيح لها تمييز الغثّ من السّمين؟ بل هل إنّ مبدأ الرّجل المناسب في المكان المناسب ينطبق على مسؤولي التّظاهرات الذين ترجع إليهم البرمجة بالنّظر؟

حلقات عديدة تفكّكت منذ أن رفعت الدّولة يدها عن المسرح العمومي وتجاهلت مآلات المسرح الجهوي المحترف الذي تأسّس في السّتّينيّات بمجهودات نضاليّة من النّخب المثقّفة الأولى التي رافقت، مسرحيّا، بناء الدّولة الوطنيّة. وقد تمثّلت البدائل في بعث المسرح الوطني التّونسي في 1983، والذي أجهز على بقايا الفرق الجهويّة التي بدأ الوهن يدبّ في ثناياها، نتيجة اهتراء بناها التّحتيّة وافتقادها إلى قوانين أساسيّة تحكم تسييرها. فبعد إفراغ المسارح الجهويّة من طاقاتها الإبداعيّة واحتوائها في صلب المسرح الوطني التّونسي، وبعد تكاثر الهياكل المسرحيّة الخاصّة المتولّدة عن مجموعة المسرح الجديد التي بادرت بظاهرة المسرح الخاصّ، نقلات نوعيّة طرأت على المشهد المسرحي اخترقته خيارات جماليّة جديدة ومجموعة من المصطلحات الثّقافيّة النّاتجة عن العولمة: ثقافة السّوق والتّأهيل الشّامل ومواصفات الجودة وقابليّة التّصدير...وهي مصطلحات مستوحاة من المنظومة الاقتصاديّة. وبالتّالي فهي لا تنسجم بالضّرورة مع الاستثناء الثّقافي الذي استماتت الإدارة السّياسيّة الفرنسيّة وحدها في الحفاظ عليه، في حين فرّطت فيه ثقافتنا وأصبحت تتعامل مع المسرح وكذلك مع بقيّة التّعبيرات الفنّيّة بمنطق ورشات التّعليب والمواصفات «الإنسانويّة»، على حساب الذّات المحلّيّة وخصوصيّاتها.

فلا عجب اليوم أن يعزف الجمهور عن مسرح يبحث في عمق ذاته ويثير فيه الأسئلة الجوهريّة ويمتّعه بالضّحكة الواعية التي تحافظ على كرامته ولا تقوم على الاستهزاء والتّشهير بالآخر وازدراء الاختلاف. ولا عجب أن يقبل الجمهور على نوعيّة من الفرجة لا مكان فيها للمجهود  ولا المعاناة إبداعيّة، بل هي تقوم على الارتجال السّاذج والكليشيهات والابتذال اللّغوي.

مقابل هذه الظّاهرة، شهدت السّاحة المسرحيّة في السّنتين الماضيتين وبالتّحديد منذ أوائل سنة 2018، توالد المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة بالجهات.

البادرة تطرح تساؤلات عديدة بل وتبعث على حيرة مردّها أساسا أنّ إحداث هذه المراكز لم تسبقها خطّة استراتيجيّة ولا تشخيص لصعوبات الحركة المسرحيّة في الجهات وحاجيّاتها الفعليّة ممّا يمكن أن يبرّر بعث هذه المراكز بوصفها الحلّ المنطقي والمناسب للاستجابة لهذه الحاجيّات. بالإضافة إلى ذلك وما يعمّق الشعور بالحيرة هو أنّ إحداث هذه المراكز لم يصاحبه تصوّر لمشاريع أعمالها وأهدافها ومقاصدها. بل إنّ كلّ ما صاحب هذه البادرة هو مدّ هائل من الجدل حول مشروعيّة التّسميات والخلفيّات الجهويّة التي تكمن وراءها.

ملفّ آخر ينضاف إلى المشهد المسرحي وغيمة أخرى تزيد في تلبّد المشهد وتوحي بتعقّده.

هذا الملفّ وما سبقه من الملفّات المطروحة على الإدارة الثّقافيّة الحاليّة، تحيل إلى الأسئلة التي أثارتها قضايا المهرجانات الدّوليّة والتّظاهرات الكبرى أو ما تسمّى بالتّظاهرات الثّقافيّة السّياديّة منذ ثلاث سنوات.

اعتبارات جهويّة، محاصصات نّقابيّة، استحقاقات إداريّة... هكذا يقرأ كثير من المتابعين للشّأن الثّقافي الخلفيّات التي يستند إليها توالد المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة وكذلك بعض من التّظاهرات المحدثة في السّنوات الأخيرة مثل معرض تونس الوطني للكتاب الذي يخلو من أيّ مدلول في وجود معرض تونس الدّولي للكتاب. مبادرات أخرى تستحقّ الوقوف عندها للتّقييم سنرجع إليها، ربّما، في مناسبات أخرى.

وهــم البـــدائل الآنــيّـة لمشـــاكل عضــويّة

فيما يتعلّق بالمراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة تبدو المسألة على قدر من الخطورة إذ أنّ تسيير الدّولة للمسرح في الجهات له تاريخ معقّد يبدو أنّ الإدارة الثّقافيّة الحاليّة لم تعتبر به ولم تستخلص منه الدّروس المناسبة.  لقد مرّ المسرح بمرحلة دقيقة انطلاقا من مرحلة التّأسيس للمسرح المحترف أي منذ أواسط الخمسينيّات.

رافق عمليّة تكريس المسرح، اجتماعيّا، وإدماجه في المنظومة التّربويّة تكوينا وتنشيطا في المعاهد الثّانويّة، تركيز أجهزة رقابيّة متشدّدة حصرت المسرح في استراتيجات المرافقة التّنمويّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ذلك هو المخطّط الخلفي لخطاب الرّئيس بورقيبة بتاريخ 7 نوفمبر 1967 والذي نسبت له مدلولات ثوريّة وحداثيّة في أحيان كثيرة لم تأخذ بالاعتبار سياقه الإيديولوجي.

تحوّلت مسالك البحث الإبداعي المسرحي من القطاع العامّ إلى القطاع الخاصّ، مع بعث أوّل فرقة مسرحيّة خاصّة، في 1975، هي فرقة المسرح الجديد. وتتالت التّجارب من خلال بروز فرق خاصّة في شكل شركات للإنتاج وهي شركات خاصّة ولكنّها تعتمد في إنتاجاتها على دعم الدّولة وهو دعم توفّره احتكاما إلى لجان استشاريّة مختصّة.

والمعلوم أنّ هذه الشّركات المنتجة لا تنفرد بها تونس العاصمة بل إنّها موجودة في أغلب المدن وحتّى في بعض الجهات النّائية.

بالنّظر إلى هذا المعطى، ينتفي معنى تكاثر المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة ليحيلنا إلى أولويّة تغافلت عنها الإدارة الثّقافيّة وهي وضع استراتيجيا تتعلّق بالتّركيز على الخصوصيّات الثّقافيّة الجهويّة في مشاريع هذه المراكز وتكليف مديريها وفقا لبرنامج تعاقدي لمدّة محدّدة تجرى في آخرها عمليّة تقييم يمكن تعديل العمل والتّصوّرات بعدها. هذه البرامج التّعاقديّة وحدها قادرة على عقلنة علاقة المهرجانات الدّوليّة والوطنيّة والمحلّيّة بالمسرح وترشيدها كما ستكون بمثابة المحضنة لتأسيس علاقة جديدة بين الجمهور والمسرح. موازاة لذلك، يبدو أنّ المصاعب التي يلاقيها المسرح في المهرجانات هي أيضا وليدة الإخلالات التي تتالى في مسالك التّوزيع ومنظومته بشكل عامّ. فالعرض المسرحي يحتاج إلى توزيع في ظروف احترافيّة لائقة كما يحتاج إلى الاحتفاء به من قبل منظّمي التّظاهرات والمسؤولين عن الفضاءات الثّقافيّة وهي ظروف تكاد تكون منعدمة في أغلب الأحيان.

كيف وصل الأمر إلى هذا التّعقيد؟ ربّما لأنّ إدارة الشّأن الثّقافي، وهي تحتاج في كلّ مرحلة، إلى وقفة تأمّل وتقييم، لم تقم بذلك وتناسته أو تجاهلته مكتفية بمعالجة المشاكل بنسق آني وظرفي. ولعلّ هذه المرحلة التي تمرّ بها البلاد وهي تصبو إلى الانتقال الدّيمقراطي السّياسي، هي في أشدّ الحاجة إلى إعادة ترتيب الشّأن الثّقافي بتفكير عضوي وليس بعقليّة إداريّة تقليديّة باحت بفشلها. ولعلّ أوكد الأولويّات أن تبادر الإدارة الثّقافيّة بتنظيم ندوة وطنيّة حول «الوعكة « التي تمرّ بها مختلف التّظاهرات الثّقافيّة كما تمرّ بها مختلف التّعبيرات الفنّيّة. كما أنّ الوقت قد يكون حان لإحداث مجلس أعلى للثّقافة حتّى لا تبقى الثّقافة شأنا إداريّا وتسترجع مداها الفكري والمصيري الحضاري.

فوزية بالحاج المزّي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.