كيـف ألغيت الملكيـة وأعـلن النظام الجمهوري في تـونس؟
يُحيي التونسيّون يوم الخميس 25 جويلية 2019، الذكرى الثانية والستين لإعلان الجمهوريّة، بعد إلغاء النظام الملكي. وتحمل ذكرى إعلان أوّل جمهورية في تاريخ تونس أكثر من دلالة وعبرة رغم أنّها عرفت تجربتين شبيهتين بالحكم الجمهوري بمفهومه الجنيني، هما تجربة الحكم بقرطاج (بين 480 و290 ق.م) وتجربة »جمهورية الدايات« (بين 1598 و 1630 م)...
بعد عام ونصف عن استقلال تونس في 20 مارس 1956 وتنظيم أوّل انتخابات تشريعية لنواب المجلس القومي التأسيسي يوم 25 مارس 1956 وبحضور 90 من أعضائه (من أصل 98 نائبا) صوّت نوّاب المجلس القومي التأسيسي عشيّة 25 جويلية 1957 بالإجماع على إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهوريّة وتكليف رئيس الحكومة حينئذ، الأستاذ الحبيب بورقيبة (منذ 12 أفريل 1956)، برئاسة الجمهوريّة الأولى في انتظار تنظيم أوّل انتخابات رئاسية (جرت يوم 08 نوفمبر 1959). وبذلك طوَتْ تونس صفحة 252 سنة من تاريخ الحكم الملكي الحسينيّ (الذي أسّسه حسين بن علي باشا باي في 15 جويلية 1705) وبدأ عهد الجمهوريّة الأولى الذي تواصل إلى غاية المصادقة على دستور 27 جانفي 2014. وحرّي بنا بهذه المناسبة أن تقف عند أهميّة هذا الحدث التاريخي ورمزيّته وأسباب ودوافع اتخاذه ومرجعيّاته الفكرية والقانونية وصداه خاصّة في أوساط التونسيّين ممّن عاشوا تلك اللحظة الفارقة من تاريخ تونس المستقلّة وبدرجة أقلّ خارج البلاد.
خلفيّة إعلان الجمهوريّة: «تربّص» بورقيبة بالباي وعزمه على الإطاحة بالملكية
منذ عودته من فرنسا وإبرام اتفاقيات الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1955 سعى الحبيب بورقيبة إلى طمأنة الباي وأفراد البيت الحسيني وسفراء الدول العظمى المعتمدين بتونس. لكنّه في المقابل كان يرسل إلى هؤلاء بعض الإشارات المضادّة على غرار ما جاء في خطابه الافتتاحي بالمجلس القومي التأسيسي يوم 08 أفريل 1956 الذي نوّه فيه بالمنصف باي «الباي الشهيد» معترفا بكونه «كان جمهوريا صميما والشاهد على ذلك أنّه قال لي يجب إعلان الجمهوريّة بتونس. وكم أودّ أن أؤسّس الجمهوريّة وألقي بالأمراء عرض البحر!». وتأكيدا لذلك عمل على التقليص تدريجيا من نفوذ محمّد الأمين باي الذي لم يبق له في النهاية غير الجلوس على العرش وممارسة مهام تشريفاتية وجزء ضئيل من السلطة التشريعيّة كوضع طابعه وإمضائه على الأوامر والقرارات والمراسيم (القانونية وغير القانونيّة منها) التي يعرضها عليه رئيس حكومته صبيحة يوم كلّ خميس من كلّ أسبوع...وفي ظرف وجيز أصبح بورقيبة يتصرّف بمثابة الرجل الأول في البلاد. وفي 15 جويلية 1957 اتخذ قراره بالإطاحة بالملكية.وفي الأيام العشرة التي هزّت البيت الحسيني (بين 15 و 25 جويلية 1957) تسارعت وتيرة الأحداث لتنتهي بخلع آخر البايات الحسينيين. ففي صبيحة 15 جويلية 1957 فرض الأمن حراسة على القصر الملكي مانعا الدخول إليه والخروج منه. كما فرضت الشرطة مراقبة على كلّ الطرق المؤدية إلى القصر وبات الباي وأفراد عائلته أسرى السلطة الجديدة.
وفي 18 جويلية شنّ بورقيبة هجوما على العائلة الحسينيّة في خطاب له بمدينة تونس وذكر بالاسم « للاّ عائشة وللاّ خديجة وسيدي الشاذلي». وركّز على استهتار هؤلاء بالقانون وتكديسهم لثروات طائلة بطرق غير مشروعة وحمل الخطاب الوعيد والتهديد. ومن أهمّ ما جاء فيه: «إنه لا بدّ من يوم يجرى فيه الحساب على هذه التصرّفات وما شاكلها، وربّما كان قريبا، لأنّه يتعذّر على هذه الدولة أن تبقي على عقول تعفنت أو نفوس تشوّهت فطرتها فأصبحت ترى في الانحراف سلوكا طبيعيّا. ولو جدّ هذا قبل عشرين سنة لجاز الرجاء في الإبقاء عليه لأنّه يكون ممّا عمت به البلوى، لكنّه الآن غير ممكن في دولة بنيت على أسس طاهرة تتلاءم مع النفسيّة الجديدة لهذا الشعب ومع تضحياته وسمعته الطيّبة...». وفي مساء يوم 19 جويلية ألقت الشرطة القبض على النجل الأصغر للباي (32 سنة) الأمير صلاح الدين بتهمة محاولة قتل مفتّش الشرطة المسؤول عن حراسة القصر، وأودع السجن المدني بتونس.وقد رأت إحدى الصحف الفرنسيّة المشهورة في تلك الحادثة حلقة «من حلقات الهجوم الجمهوري» لبورقيبة على عائلة البايات...» وشدّدت الصحافة المحليّة والفرنسيّة على أهميّة حادثة إيقاف الأمير صلاح الدين ناهيك وأنّها جدّت ساعات قليلة قبل انعقاد اجتماع بأهمّ سفراء تونس بالخارج دعا إليه بورقيبة لإطلاعهم على «قرارات مصيريّة قيد الدرس». وبالفعل اجتمع الوزير الأكبر بورقيبة ووزير الخارجية صباح يوم 23 جويلية بسفراء تونس في كلّ من باريس وواشطن والقاهرة وروما ولندن ومدريد والرباط، وسألهم بلا مواربة «عن ردود الأفعال المرتقبة في البلدان المعتمدين فيها في حال خلع الباي...». ويبدو أنّ هؤلاء الديبلوماسيّين نصحوا بورقيبة «بتوخّي الاعتدال». وقد أفاد سفير تونس بالرباط الحاضرين بأنّ عملا من هذا القبيل سينظر إليه بعين الريبة في المغرب الأقصى وقد يقابل بالاستهجان...
من «التربّص» إلى إلغاء المُلكيّة وإعلان الجمهوريّة و«السيناريو المحبوك»
مساء الثلاثاء 23 جويلية 1957 وبدعوة من بورقيبة، اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد سريا بمكتبه بالقصبة وقرّر اختيار النظام الجمهوري، أي «المناداة بإلغاء المُلكيّة». كما دعت نفس الهيئة المجلس التأسيسي للانعقاد يوم 25 جويلية للنظر في شكل الدولة وأوكل له، ضمنيّا، مهمّة إعلان الجمهوريّة... و يبدو أنّ قرار الدعوة إلى التئام المجلس قد اتخذ قبل انعقاد اجتماع الديوان السياسي إذ يذكرالرشيد إدريس في مذكراته أنه اتصل يوم الثلاثاء 23 جويلية 1957 «من جلولي فارس رئيس المجلس ببرقيتين، الأولى موجهة إلى جميع النواب، تفيد بأنّ المجلس يعقد جلسة عامّة يوم الخميس 25 جويلية على الساعة التاسعة صباحا. أمّا البرقيّة الثانية فكانت موجهة إليّ شخصيّا من باردو أيضا بتاريخ 23 جويلية... تدعوني للحضور في الغد على الساعة الثامنة صباحا بمكتب الأخ الباهي الأدغم نائب رئيس الحكومة...». وأضاف الرشيد إدريس: «... وفي الساعة الثامنة كانت المقابلة وكانت المفاجأة. فقد أخبرني الأخ الباهي الأدغم أنّ جلسة يوم الخميس ستخصّص لبحث موضوع إعلان الجمهوريّة وأشعرني بأنه يعهد إليّ بأخذ الكلمة في هذا الاجتماع للدفاع عن فكرة الجمهوريّة ثمّ أخبرني بأنّ الأخ أحمد المستيري، وزير العدل في انتظاري ليمدّني ببعض المعلومات والبيانات في الموضوع...». ويبدو أنّه خلال هذا اللقاء قد أشار على الرشيد إدريس بالتلّفظ بالعبارة الشهيرة وبشكل رنّان وصوت عالٍ: «نريدها جمهوريّة». كما تمّ توزيع الأدوار، وترتيب وقائع الجلسة المشهودة قبل انعقاد المجلس بثماني وأربعين ساعة على الأقل. وتأكيدا لذلك يذكر عضو الديوان السياسي ورئيس لجنة صياغة الدستور السيّد أحمد بن صالح أنّه خلال الاجتماع السري للديوان السياسي صيغ نصّ الإعلان عن النظام الجمهوري في ورقة صغيرة وتمكينه منها. وبقي يحتفظ بتلك الورقة في جيب سترته إلى حدّ النوم وهي معه خوفا من ضياعها ليمرّرها بشكل ذكيّ وسريع وغير ملفت للانتباه أثناء جلسة يوم الخميس إلى رئيس الجلسة ورئيس المجلس القومي التأسيسي، السيّد جلولي فارس.
وحسب دراسة زميلنا المؤرّخ الأستاذ فتحي ليسير («من الذاكرة الوطنيّة: المرحليّة البورقيبيّة في مسار إعلان الجمهوريّة التونسيّة دراسة تاريخية»، نشرت في حقائق أون لاين يوم 23 - 07 - 2016) كان كلّ شيء يشير صباح يوم الخميس 25 جويلية 1957 إلى أنّ الاستعدادات للإعلان عن حدث الجمهوريّة قد اكتملت في أدقّ تفاصيلها وفق ما خطّط لها بورقيبة وأنصاره المتحمّسون الذين نعتتهم جريدة «لاكسيون» (L’Action) في عددها بتاريخ 29 جـــويلية 1957 بـ «كومنـــدوس الجمـــهوريّة» (Le Commandos de la République).
ولم يُترك شيء للصدفة إذ أقيمت معالم الزينة من أعلام ورايات وأكاليل...، وتمّ استنفار حشود غفيرة من المواطنين منذ الصباح الباكر للتجمهر أمام قصر باردو...كما تمّت دعوة وسائل الإعلام التونسيّة والأجنبية من إذاعة وصحافة مكتوبة لحضور فعاليات تلك «الجلسة المشهودة»، هذا فضلا عن دعوة رجال السلك الديبلوماسي وعدد من المدعوين والمدعوات اختيروا بعناية ودقّة. كما نصبت بقاعة العرش في قصر باردو تجهيزات الإرسال الإذاعي «كي يتمكّن الشعب التونسيّ بأكمله من الاستماع إلى ما سيقع بتلك الجلسة المهيبة مباشرة. وفي تمام الساعة التاسعة والنصف صباحا افتتح المجلس القومي التأسيسي أشغاله. ومنذ البدء حدّد رئيسه جلولي فارس موضوع الجلسة بقوله: «إنّ جدول أعمالنا فيها [الجلسة] هو النظر في شكل الدولة الذي كان متوّقفا على معرفته الإنجاز (كذا) لمشروع الدستور. ولذا جمعنا المجلس صاحب الحقّ في معرفة هذا الإطار «شكل الدولة» بتقرير مصيره، وبعد ذلك فإنّ جلستنا ستستمرّ حتّى يستقرّ رأينا على ذلك». وبعد مناداة النواب قصد التثبّت في عدد الحضور وتسجيل أسماء النواب الذين طلبوا الكلمة، تتالى على المنصة ثلاثة عشر نائبا. وتمحورت المداخلات حول ضرورة تحديد شكل الدولة وإبراز مساوئ النظام الملكي والمناداة بالجمهوريّة نظاما جديدا للدولة وبالحبيب بورقيبة رئيسا لها...
وخلال حصّة بعد الظهر وتحديدا في الساعة الثانية والنصف أسند رئيس الجلسة الكلمة لبورقيبة الذي ألقى خطابا استغرق ساعتين وعشر دقائق.
وقد تكفّل بورقيبة آخر المتدخلين بتقديم «قرار اتهام للدولة الحسينية» ضدّ الباي والمُلكيّة. وتمحور خطابه على فكرتين أساسيتين أولاهما أنّ تاريخ العائلة الحسينيّة «الأجنبية عن الشعب التونسيّ» - كما جاء على لسان النائب الطيّب الميلادي – هو سلسلة الخيانات للشعب والبلاد، ختمتها خيانات الأمين باي التي لا تُغتفر للحركة الوطنية».وبعد أن بسط أحمد بن صالح الموضوع مثلما هو مقررّ ووفق ما قاله للباهي الأدغم، تكلّم الرشيد إدريس باسم الحزب وقال: «... لماذا هذا الالتواء لا نريد الالتواء نريدها جمهورية...». عند هذا المستوى طلب أحمد بن صالح الكلمة من رئيس المجلس فقال له: «إنك تكلمت...» فذهب إليه من مكانه وقال له: «إذا لم تعطني الكلمة الآن بعد الرشيد إدريس، فسوف أتكلّم من مكاني» عاد إلى مكانه ونظر رئيس المجلس يستشير، فانضموا إليه بإشارة بالرؤوس، وكان له ذلك، بعد أن أشار بورقيبة والأدغم وبقية المسؤولين إلى رئيس المجلس بأن أعطِهِ الكلمة... أخذ بن صالح الكلمة، ولم يردّ تحديدا على الرّشيد إدريس لكنّه وضّح موقفه وقال للحاضرين: « إني آخذ الكلمة لا كرئيس لجنة تحرير الدستور، بل كنائب ورئيس قائمة الجنوب... لأني تكلمت المرة الأولى كرئيس لجنة لأبسط الموضوع، لا بدّ أن نعرّف النظام...قلت في ما قلت إنّنا نحن جيل بورقيبة...ونحن كجيل نرى أنّه لا بدّ من رجوع المياه إلى مجاريها، وهل ثمّة ما هو أصفى وأنقى من مياه الشعب؟ إلى آخر ذلك من الكلام وهو مسجّل، وإذا ببورقيبة يغادر مقعده ويعانقني بحرارة، على طريقة ما فعل معي في مؤتمر الحزب بصفاقس سنة 1955، وقال لي وهو يعانقني: « يا غول... »!
وفي حدود الساعة 17.50 د وبعد اقتناع كل النواب بصحّة الخيار الجمهوري أعيدت الكلمة إلى السيد جلّولي فارس الذي تلا على نواب المجلس نصّ إلغاء المُلكيّة وإعلان الجمهوريّة.
ورغم أنّ حجم النصّ لم يتجاوز 14 سطرا و4 فقرات، فقد كان كافيا لتغيير نظام سياسي برمّته قائم بتونس منذ 252 عاما. ثمّ طَلب منهم التصويت عليه فتمّت المصادقة عليه بالإجماع برفع الأيدي وذلك في تمام الساعة السادسة مساء.
الفرحة العارمة
مباشرة بعد الإعلان عن الجمهوريّة عمّت الفرحة العاصمة وكامل أنحاء البلاد، حيث انطلقت الجماهير من باردو في اتجاه القصبة ثمّ نحو وسط المدينة هاتفة باسم الجمهوريّة والزعيم بورقيبة «تحيا الجمهوريّة» و«يحيا بورڤيبة» ومن مقرات الشعب الدستورية في اتجاه وسط كل مدينة وقرية وريف... كما تلقى بورقيبة التهاني من نواب المجلس ثم من السفراء والقناصل وأعضاء البعثات الدبلوماسية والضيوف الذين وجهت لهم الدعوة من رؤساء المنظمات القومية والشخصيات الوطنية وكبار المقاومين والمناضلين والإطارات العليا في جهازي الحزب والدولة... ولم تغب المرأة عن هذا الموكب حيث تقبّل بورقيبة التهاني من وفد رسميّ عن الاتحاد القومي النسائي التونسي والشخصيات النسائية المعروفة... ومن هول تأثير وقع الحدث، تمّ منذ اليوم الموالي في بعض مدن وقرى وأرياف البلاد ترسيم بعض البنات من المولودات الجدد باسم «جمهورية». كما تولت ابنة الشمال الغربي المطربة صليحة بعد مدة قليلة أداء أغنية أعُدّت للغرض تحمل عنوان « تونس اليوم برات مِ التنكيدة» (كلمات أحمد خير الدين وألحان صالح المهدي) وفي ذلك أكثر من دليل ! ولسائل أن يتساءل كيف تمّ إعلام الباي بهذا القرار الخطير؟
من «المحاكمة» إلى تنفيذ الحكم
تكوّن وفد من النواب ضمّ كلاّ من الطيب المهيري (وزير الداخلية)، وأحمد المستيري (وزير العدل)، انضمّ إليه كل من: أحمد الزاوش (والي تونس) وإدريس قيقة (مدير الأمن الوطني) وعبد المجيد شاكر (المدير الإداري للحزب) والتيجاني القطاري (آمر الحرس الوطني) ومحمّد بن شعبان (محافظ الشرطة). وترأس هذا الوفد علي البلهوان شيخ مدينة تونس والكاتب العام للمجلس القومي التأسيسي وهو الذي تولى قراءة قرار المجلس على الباي. وبما أنّه كان قد استمع لقرار المجلس عبر الإذاعة قبل وصول الوفد إلى قصره (بيت الحكمة اليوم) فإنّ محمّد الأمين باي (حسب دراسة زميلنا المؤرّخ الأستاذ فتحي ليسير) تلقى قرار خلعه بدون تأثّر ظاهري ثمّ تلا إدريس قيقة، باسم وزير الداخلية « قرار الإقامة الجبرية لأفراد عائلة محمد الأمين باي فقال «اللّهم بارك» وطلب الإذن بتغيير جبّته بالغرفة الداخلية، لكنّ الطيّب المهيري لم يسمح له بذلك إلا بعد تدخّل الأستاذ علي البلهوان... وبمقتضاه تمّ نقل الباي المخلوع صحبة زوجته وأولاده وبناته وصهره محمّد بن الشاذلي بن سالم، وولي العهد حسين بن محمد الناصر، إلى مقر إقامتهم الجديد وهو قصر الهاشمي الكائن بسيدي عمر على مشارف مدينة منوبة (سجن النسوة اليوم). أمّا زوجة الباي (ودوما حسب دراسة زميلنا المؤرّخ الأستاذ فتحي ليسير) فقد حيّت بدورها إدريس قيقة لمّا دخلت إلى قاعة العرش ثمّ هنّأته بحدث الجمهوريّة. لكن ذلك السلوك لم يرق لبورقيبة الذي أنّب مدير الأمن على سلبيته تجاه «صلف» الباي و»رعونته». كما لم يغفر له عدم أخذ صورة له وهو يمتطي سيارة الداخلية من نوع «دياس» (Déesse) في اتجاه مقرّ إقامته الجبرية بسبب رفض وزير الداخلية، السيّد الطيب المهيري رفضا قاطعا منذ الصباح دخول أيّ صحفيّ أو مصوّر القصر الملكيّ لتغطية هذه اللحظة التاريخية.
وفي الواقع لم يكن بورقيبة مهتمّا بمصير العائلة المالكة بقدر ما كان مشغول البال بتحفظات كلّ من ليبيا والمغرب والسعودية، فضلا عن بعض الأوساط الغربية عن إعلان الجمهوريّة في تونس. وتأكيدا لذلك غادر سفير المملكة الليبية مقرّ المجلس القومي التأسيسي احتجاجا على إعلان الجمهوريّة بحكم المعاهدة التي كانت قد ربطت البلدين خلال زيارة الدولة التي أداها رئيس الحكومة الليبية مصطفى أحمد بن حليم لتونس في مطلع سنة 1957 وتوقيع بورقيبة ومصطفى بن حليم معاهدة الإخاء والتعاون وحسن الجوار بين تونس وليبيا 06 جانفي 1957. كما أدّى الملك سعود بن عبد العزيز في 21 فيفري 1957 زيارة إلى تونس... وهو ما دفع بورقبة إلى تكليف وزير الخارجية بالاتصال بسفيري البلدين بتونس وطمأنتهما على مصير الباي وأفراد عائلته والوعد بفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين. وفي أكتوبر 1958 نُقل الباي وزوجته إلى ضيعة استعمارية على ملك ديوان الأراضي الدولية بضاحية سكّرة ولم يُخْلَ سبيله إلا عام 1960 لينتقل للعيش بحرية في شقة بحيّ لافيات إلى حين وفاته في 30 سبتمبر 1962. وخلافا لبقية البايات الحسينيّين لم يدفن محمّد الأمين باي بتربة الباي بالعاصمة، بل بمقبرة سيدي عبد العزيز بالمرسى وسط عدد ضئيل من أفراد عائلته وحراسة أمنية مشدّدة. والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي المرجعيات الثقافية والفكرية للجمهورية التونسية؟
تأثّر الزعيم الحبيب بورقيبة ورجال دولته بالنظام الجمهوري
يرى الباحث عبد العزيز كمّون في دراسة له بعنوان «الجمهورية في فكر بورقيبة نشرت بجريدة الشعب يوم 04 - 08 – 2007 أنّ بورقيبة والفريق العامل معه في دولة الاستقلال من أبناء جيله أو من الذين انضمّوا إليه لاحقا، كانوا جميعا متشبّعين بالثقافة الجمهوريّة منذ دخولهم المدارس الفرنسية- العربية، مرورا بالمعاهد العصرية بالعاصمة وكبرى المدن التونسية، وصولا إلى تخرّجهم كمحامين وأطباء وأساتذة وصيادلة... من أكبر وأعرق كليات الحقوق والآداب والطب والصيدلة والعلوم بباريس وسائر المدن الفرنسية. وهو تشبّع في التكوين الشامل وليس في تخصّص محدّد أي أنّه تثقّف ثقافة جادّة وواسعة في كل ما يخصّ الآداب والفنون والحضارة والقانون، سواء كانت متّصلة بتاريخ فرنسا القديم والحديث أو بتاريخ أوروبا والعالم عموما. بل إنّ احتكاكهم بالفرنسيّين وبالحياة الفرنسية، سواء عند إقامتهم بفرنسا زمن الجمهوريّة الثالثة (4 سبتمبر 1870-10 جويلية 1940) أو الجمهوريّة الرابعة (من 27 أكتوبر 1946- 4 أكتوبر 1958) ومعايشتهم لعديد الأحداث السياسية بها أو بتونس، علاوة على تزوّج بعضهم بفرنسيات، جعل منهم في آن واحد مثقفين وسياسيّين محنكين وزعماء أصحاب قضيّة وكذلك من أبرز العارفين بالتاريخ السياسي الأوروبي والفرنسي بالخصوص، دون القطع مع تاريخهم وثقافتهم العربية الإسلامية.
مرجعيات تونسية بالأساس مع الاستئناس بالتجارب الأجنبية
إنّ المتأمل في مضمون إعلان الجمهوريّة التونسية ومرجعياته القانونية يلاحظ عنصرين رئيسيين أوّلهما إطلاع نواب المجلس القومي التأسيسي على تجارب ودساتير ونظم عديد البلدان الصديقة الشقيقة وفي مقدّمتها سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا خاصّة والاستئناس بها في اختيار طبيعة النظام، أي النظام الجمهوري وليس المُلكيّة المقيّدة بدستور والنظام الرئاسي تحديدا وليس البرلماني وتحديدا النظام الرئاسي الأمريكي الذي يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية وهو ما كرّسه دستور 1 جوان 1959 وكانت تبعاته سلبية على الحياة السياسية بالبلاد إلى غاية 2011...وثانيها تجاوبه مع التصوّرات التحديثية بتونس منذ دعوات زعماء الإصلاح في نهاية القرن 19م كخير الدين باشا ومحمّد بيرم الخامس وابن أبي الضياف والبشير صفر والشيخ عبد العزيز الثعالبي والمصلح الكبير الطاهر الحداد... للاستفادة من التنظيمات السياسية والاقتصادية الأوروبية مع المحافظة على القيم الاجتماعية والثقافية الموروثة عن الحضارة العربية الإسلامية قصد بلورة تصوّرات تقطع مع المعوقات الذهنية والاجتماعية وخاصّة ما يتعلّق منها ببنية المجتمع بمختلف فئاته ومكوناته من نخب وموظفين وفلاحين وعمّال... بحضور ومساهمة فعّالة للمرأة... وليس من باب الصّدفة أن سبق هذا الإعلانَ عددٌ من القرارات ذات الدلالات الكبرى وخاصّة منها تَوْنَسَةُ الأمن في 18 أفريل 1956 ثمّ العدلية وجهاز الداخلية يوم 21 جوان 1956 وإحداث الجيش الوطني في 24 جوان 1956 والحرس الوطني في 06 سبتمبر 1956 وإصدار مجلّة الأحول الشخصية في 13 أوت 1956 وإقرار تعليم جمهوريّ لائيكي، مجانيّ وإجباريّ لكلّ التونسيّين والتونسيّات في 04 نوفمير 1958...الخ.
وعلى امتداد هذا المسار الطويل والمضني من النضال الفكري والسياسي التحديثي، كان لفكرة الدستور التي تبلورت منذ عهد الأمان في 09 سبتمبر 1857 ودستور 26 أفريل 1861 وكانت وراء قيام الحزب الحرّ الدستوري في مارس 1920 ووريثه الحزب الدستوري الجديد في 02 مارس 1934 والمحطات النضالية التي خاضها هذا الحزب الوطني والتي كانت آخرها أحداث الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية بين 1952 و 1954...، تأثير جليّ على استعادة الشعب التونسي لسيادته على أرضه وامتلاكه لزمام مصيره من خلال المشاركة في الحكم وبناء الدولة الوطنية الحديثة بمؤسّساتها وهياكلها وتتويج كلّ ذلك بالإعلان عن الجمهوريّة في 25 جويلية 1957 الذي كان حلما لأجيال من المناضلين التونسيين من كلّ الفئات والمناطق والاتجاهات دون استثناء ودعمها بدستور ينّظمها في 1 جوان 1959 وهو ما أعطى لتونس ولتاريخها معنى راسخا وللهوية الوطنية عمقا حقيقيا وشعورا غير مسبوق في تاريخ التونسيّين، اتّسم بالنخوة والعزّة والكرامة الوطنية وشعورهم بكونهم مواطنين وليسوا رعايا يمارسون بأنفسهم كما هو الحال في تعريف الديمقراطية بالدول الغربية.
عادل بن يوسف
- اكتب تعليق
- تعليق