اصدارات - 2019.07.12

مقـدّمـات تــوفيـق بـكّار في الأدب العـربـي الحديـث

مقـدّمـات تــوفيـق بـكّار في الأدب العـربـي الحديـث

وافتنا مقدّمات الأستاذ الرّاحل توفيق بكّار (1927 – 2017) في طبعتها الأولى سنة 2002 وقد جمعت لنا سُلافة ما وضع في تقديم روايات وأشعار وأقاصيص نُشر جلّها ضمن سلسلة عيون المعاصرة التّي تُصدرها دار الجنوب للنّشر. ولم تعد الدّار قانعة بالطّبعة الأولى وقد نفذت نسخها من السّوق، وقد كتب بكّار خمس مقدّمات أُخرى بين 2003 و2017 فصارت الطّبعة الأولى كالمبتورة أو المنقوصة وبات لزاما إخراج طبعة ثانية محيّنة تكملة لما سبق وتتمّة بما لحق وتلبية لرغبة قرّاء بكّار ومريديه فكان هذا الكتاب في 2018.

هي مقدّمات كالأشعار ينساب فيها الكلام عذبا سائغا مترقرقا كالماء يجري وتنقاد فيها اللّغة طيّعة مذعانا فصاحبها ملك منها الرّقاب ولوى بالعنان.

هي كلام على كلام كتبها بكّار برفيع ذوقه وثاقب فكره وأنيق أسلوبه ودقيق إحساسه وأودع فيها من واسع ثقافته وطول خبرته بنصوص الأدب وأخذه بناصية مناهج النّقد ما جعلها كالمعالم الشّامخة حتّى ضاهت الآثار التّي تُقدّمها شُهرة وذيوعا.

نصوص واكب بها تآليف شتّى من أدبنا العربيّ الحديث والمعاصر، سَبَر أغوارها وجَاسَ خبيئها وجال في أعماقها وثناياها ففتح منها مغالق وأوضح غوامض واستقصى مسطورها ليكشف عن مستورها، حلّل بُناها وأجلى أنظمتها وأنساقها ونفذ إلى بعيد مقاصدها وعميق معانيها فإذا أنت تقبل على تلك الآثار قارئا وقد أُعطيتَ مفاتحها ومداخلها ودُلِلْت على موالجها ومعارجها فصرت تقرأ بعين العليم البصير وتنظر نظر الأريب الخبير.

تنقّل بكّار في هذه المقدّمات بين أجناس من الأدب مختلفة، من الرّواية إلى الأقصوصة ومن المسرح إلى الشّعر. وطاف فيها بين أمصار وأقطار، فمن تونس إلى السّودان ومن العراق إلى سوريا ومن فلسطين إلى السّعوديّة . واخترق فيها ما يقرب القرن من الزّمان فمن بواكير الدّوعاجي والمسعدي إلى عصر الطّيب صالح وإميل حبيبي ومحمود درويش إلى زمن صالح القرمادي والطّاهر الهمّامي إلى جيـــل رجـــاء عـــالم ونــور الدّين العلوي.

جولة فريدة بين كتّاب مختلفي المشارب ومذاهب في الكتابة متباينة ومنازع في التّأليف متنوّعة ، فمن مغامرة أبي هريرة الوجوديّة الجريئة بين الحسّ والجماعة والدّين وحيرته في الإنسان ومعنى وجوده إلى «سدّ» غيلان مأساةً يستحيل معها الفنّ صراعا بين الخلق والعدم وكتابا يصبّ في أمّهات قضايا الإنسان عبر المكان والزّمان فأبقاه بكّار نصّا مفتوحا يجدّد معناه مع كلّ جيل بتجدّد الحدثان.

ومن المقابلة بين الشّرق والغرب في «موسم الهجرة إلى الشّمال» حيث يتفجّع إلينا ضمير «مصطفى سعيد» ويستغيث من تصدّع الشّخصيّة تحت وقع الصّدام الحضاريّ بالغرب إلى تشاؤل «سعيد أبي النّحس» ومنطقة العابث الذّي يُبطن جدّا صميما يُغالب المأساة وقد فاقت حدّ المعقول بالتّهكّم علّه يتخطّى أوجاعه ويُعالج جرحه الثّخين الدّفين.

ثمّ من محمود درويش وفلسطين اسمين في الشّعر مترادفين وصورتين توأمين من حقيقة واحدة تنبعث من أعماقها أناشيد العشق والتّوه والموت والفداء إلى فؤاد التّكرلي و«موعد النّار» في أرض العراق، مجموعة قصصيّة نصوصها تصاريف شتّى لمعنى النّار رصاصا يُطلق وأرواحا تُزهق لحقد ينفجر أو جنس يفور أو لهبا ما من جحيم الحياة يُحرِق.

قرأ بكّار هذه النّصوص كما لم يقرأها أحد من قبله وكما لن يقرأها أحد من بعده، وقدّمها لقارئها سافرة بعد احتجاب منكشفة بعد استتار فأعطى تلك النّصوص حياة جديدة وأكسبها أبعادا لم تكن لها قبل تقديمها. هي نصوص لا تكتفي بتقديم الأثر وتعريفه وإنّما تغوص على جواهره و تستكنه سرّ أدبيّته وتمسك بمنابع الجمال فيه، فتُضيف إليه وتزيده حتّى صارت هذه المقدّمات جزءا أصيلا من تلك الآثار لا تنفصل عنها ولا تنفكّ منها.

ورقــــــــات من كتاب

كتاب توفيق بكّار في الأدب العربي الحديث ورقات من مقدمته لرواية «خاتم» للرّوائية السعودية رجاء عالم وعنوان المقدمة «خاتم أو السّرّ القاتل»:

«مفاجأة وربّ الكعبة هذه الرّواية ! ما ألفنا أن يأتينا مثلها من السّعوديّة وبقلم سيّدة من كاتباتها ومكّة المكرّمة ميدان أحداثها، لا مكّة اليوم بل منذ قرن خلا، أخر عهد ولاّتها الأتراك. زمن شديد الاضطراب والفتن. وكيف لا نندهش لها وجلّ ما ترويه لنا عن مدينة الأقداس تلك من أخبار ناسها جديد علينا غريب، والفكر فيها إلى ذلك جريء والفنّ بارع.

متنها مغامرة لا يُعرف لها في قصص العرب سابق، لا قديما ولا حديثا، بديعة شجيّة مروّعة ، أوّلها خدعة خادع يرجو بها السّلام وآخرها لا محالة موت فاجع – ما نفعت حيلة المتحايل في درء البلاء – وقطب أقطابها محيّر فاتن، نعاشره عن كثب في قصّته ما عاش، ونسايره أنّى تقلّبت به الأحوال ولا ندري أأنثى هو أم ذكر؟ أم ثالث منهما خنثى؟ لغزها المثير به تحاجينا من الفاتحة إلى الفادحة الفاضحة مكر البداية وأمنه، وخُسْر النّهاية وويله. والسّرد فيها مدبّر بدهاء، لعوب مخاتل، يتردّد بنا ولا يقرّ من جنس إلى جنس، فتارة «ذات حر» وتارة «ذات ذكر» وتارة تلك وهذا معا. ولا يَكتم عنّا سرّه تماما ولا يبوح به لنا كلّه إن هي إلّا إشارات هنا وهناك لماما وهكذا دواليك. وإن يُكشف آخر المطاف عن مكنونه فلأشخاص الرّواية في دنياهم لا لقارئها في دنياه. يبقيه عمدا في جهل، وليس له إلّا التّخمين إلى أن يبلغ اليقين. وقصاراه في الاجتهاد أن يستدلّ عليه بما بثّ له في ثناياه من العلامات، وبعضها تصدّقه وبعضها تكذّبه، وعسى أن يهتدي إلى الحقيقة ولا يضلّ. وهي نكتة النّهاية، وفي السّخر آية. فأعجب لها من حكاية.

يقصّها علينا نكرة من أهل ذاك العصر، ولا يزال اليوم بيننا حيّا ، ملمّ بالأحداث في أدقّ تفاصيلها، خبير بالنّفوس ما تبديه في العلن وما تخفي في القلوب وفي الرّؤوس، وكيل الكتابة في النّصّ، لسانها في القصّ، راوينا العجيب غائب بشخصه، حاضر بصوته لا يفوته شيء ولا حتّى سرّ البطل، جنسه الدّفين ، وكتمه عن النّاس والداه فما أحبّ أن يشي به لنا من باب الإخلاص، إلّا بقدر ما شائا.

يبدأنا في الحكاية في أوّل مسرح للوقائع ولا خير منه مدخلا إلى لغزها الخطير «البيت الكبير» في حيّ السّراة أعلى «جبل هندي»، غرب مكّة. دار نصيب الخماسيني رجل من وجهاء القوم ثريّ سخيّ كان في أوّل أمره من تجّار الرّقيق. يرتفع مبناها الوطيد في الهواء ثماني طباق كالبرج العتيد. لها من «المخارج» رواشن كالمراقب على القريب والبعيد، و«عساكر» من نحت الحجر كالحرس الحيّ يقوم عليها ليل نهار. والدّواخل مآوٍ أهلها فيها خبايا. أدوار وغُرف، أبواب وأقفال، ومفاتيح عاملة وعاطلة، ودهليز مظلم عميق كالغار الرّهيب يُؤدّي من خلفه إلى أقبية للعبيد و«مقاعد لكلّ وافد غريب، وفناء فيه اسطبل، ولا من وراء ذلك إلّا الجبل، صخره والخلاء. سبيل الأهل إلى القرار إذا ما داهمتهم الأخطار، وفي أمامه باب الخروج إلى النّاسّ في البطحاء، وهو باب الدّخول إلى مجلس ربّ الأسرة للزائر المُريد. في وسطها بركة من العجب العُجاب، أخّاذة بجمالها للأنظار وعلى صلة خفيّة بما وراء الحُجب من الأسرار، كأنّها كاهنة القوم في أساطير الأوائل، لسان الأقدار أو عرّافتهم في خرافات السّحر من الرّاجمات بالغيب، أو تسكنها روح من الجنّة أليفة الدّار...» (ص ص. 291 – 292)  

الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.