عادل الأحمر: رمــضــان أنتــرنـاســيـــونـال!
اقتراب شهر رمضان غاب العيّاش عن الأنظار فلا سلام ولا كلام، وهاجر فجأة جلساتنا وكأنّه مضرب عن القهوة والشيشة والطعام. كما أغلق على الجميع هاتفه الجوال، حتى خلنا أنّه في حالة اعتكاف أو ما شابه ذلك من الأحوال، استعدادا لاستقبال الشهر الكريم، بما يليق به من التقديس والتعظيم. وعندما طال عليّ غيابه، قرّرت أن أطرق بابه، لكن الصدف شاءت أن أراه قبل ذلك بقليل، إذ التقيته بإحدى المغازات الكبرى يدفع «شاريوله» الثقيل، وهو يكاد يفيض بما حمل، من قضية لا يقدر على احتمالها إلا جمل. ولست أدري لماذا حاول العياش اجتنابي بكلّ الطرق، وكأنّه متحرّج منّي وإلا عندو قلق، فقلت في نفسي: «بالكشي خايف م العين»، وأنا أعلم أنّها في اعتقاده أمضى من السكين، وقد تبرّك حتى الجمال، والعهدة على من ادّعى وقال.
لكن لما جات العين في العين، وما عاد بيها وين، علمت من «شاريول» صاحبي علم اليقين: فقد امتلأ بضاعات أجنبية، والحال أنّ العيّاش، كيف برشة توانسة، يقول بروحو مشجّع للمنتجات المحلية، وما يفلّت حتى فرصة باش يشري السلعة التونسية، ويلوم علّي ياكل ويلبس من برّة، ويعتبر أنّ ذلك للاقتصاد الوطني أكبر مضرّة. وهو، إلى ذلك، لا يكفّ في كلّ رمضان، عن الإشارة إلى أبناء بلده بالبنان، بسبب استهلاكهم المتجاوز للحدود وللعادة، في شهر عرف بأنه شهر الزهد والعبادة. عند ذلك فهمت سرّ تحرّج صاحبي الهمام، وهروبه المتسرّع إلى الأمام. ودون أن أترك له أي مجال، عاجلته بالسؤال: «يا ولدي عاش من راك! ياخي في تونس وإلا في بر الأتراك؟»، فلم يجب عن السؤال، بل تجاوزه وقال: «اسمع! راك صاحبي وانا عارفك، وخابزك وعاجنك، نعرف عاد باش تبدا تسيب علي في الركاكة، وتعمل لي بحث: علاش تتصرّف هكاكة؟ وفيني حكاياتك متاع الوطنية، وتشجيع البضاعة المحلية؟ آما أنا هاني باش نجاوبك ملّخّر: أنا في الحكايات هاذي يا حبيبي، ما نتبّع كان لي يقول لي عليه جيبي، وجيبي إلى أرخص الأسعار يميل، ولا تقل لي خائن ولا عميل».
ولما رأيت أنّ حماسه آخذ في الارتفاع، وأنّ صاحبي باش يورّيني الزنباع كيفاش يتباع، قاطعته: «مهلا عليّ يا عيّاش؟ ياخي شكون سألك على عمرك قداش؟ آما زايد يا سي المدك، المجراب تهمزو مرافقو ويبدا يحكّ! باهي يا سيدي: هاك إنت جبدت الموضوع وحدك، إماله قل لي شنوه في هالبورخيص البراني لي عجبك؟»، فقــال: «كل خير، وبأسعـــار لا تجنّح لا تطير: علّوش روماني، على عجل إسباني، على بقري ودجاج أمريكاني، على برغل عثماني...». قلت: «وشريت هذا الكلّ وما خممتش حتى دقيقة في بضاعتنا الوطنية؟»، فقال: «لا، والله فكّرت فيها برشة موش شويّة، ولأوّل مرّة شعرت بنخوة وطنية، وانا نشوف سلعتنا أغلى م السلعة الأجنبية».
عند ذلك قلت له: «آما سامحني يا عيّاش، خممتش زادة على البنّة وإلا ما حسبتهاش؟ وكيف يطلع بقري التكساس، يثبت على مسلسل «دالاس»، ولحمة العلوش الرومانية ترجع لعهد الدكتاتورية؟ وزعمة شنوه مطعم الدجاج المكنجل، الهارب من بلادو مستعجل، ومقرطس بسرعة في باكو، قبل ما يوفى تاريخ استهلاكو؟»، فأجابني العيّاش مستنكرا: «بــربّي يــزّي م المبالغات! ماني نعرفك زعيم في الطلعات! قل لي زادة عجل إسبانيا يثبت على «دون كيشوت»، قبل ما يمرض ويموت، وإلا العظم لي جاي م الأبعاد، ما يوصل كان فلالس لحلق الواد! تي فيق على روحك يا سي فلان، راهي الدنيا مع العولمة ولات شي آخر منذ أزمان وأزمان»، فقلت: «وعولمتك هذه طالت حتى رمضان؟»، فأجاب: «بل قل إن رمضان ولّى أنترناسيونال، وانتقل من حال إلى حال»، فقلت: «وسيظلّ كذلك ما دامت بطوننا في هذا الشهر تطلب المزيد، وفلاحتنا من دون رصيد، ولا حل لنا إلا الأكل من وراء المحيطات، لنرضي شهوات ونزوات، ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ذلك باسم شهر رمضان!».
ولم نشعر ونحن نتبادل هذا الحديث الجميل، أنّنا وصلنا إلى الكاسة وطابورها الطويل...ولما جاء دور العياش لدفع الحساب، سمعته يطلق صرخة بلغت حتّى الداخلين على التوّ من الباب: «سرقوا لي السطوش! سرقوا لي السطوش!»، ثم ملتفتا إليّ: «ارتاح توه: أهوكة لا بقري ولا دجاج ولا علوش! ماني نعرف عينيك إذا حطّوا على حاجة، اللطف يا ربي تطير كي العجاجة!».
- اكتب تعليق
- تعليق