رشيد خشانة: نهايـة الأحـزاب التقليـدية وسـطـوة الشـعبـويـة
إن الذين يقومون بأنصاف ثورات لا يقومون سوى بحفر قبورهم
لوي أنطوان دي سان جوست،أحد أبرز قادة الثورة الفرنسية (1794)
مع تآكل مصداقية الطبقة السياسية تطفو الظواهر الشعبوية على سطح الحياة الوطنية، وتستقطب إعجاب الجمهور، لاعتمادها شعارات بسيطة وديماغوجية، تبدو للوهلة الأولى حلولا سهلة للأزمات التي يعاني منها المجتمع. وفي ظل غياب ضوابط للحملات الإعلامية، باشرت جماعات شعبوية عديدة حملات انتخابية قبل أكثر من خمسة شهور من ميقات الاقتراع.
تنقسم هذه التيارات إلى أحزاب لا سلاح لها سوى سلاطة اللسان، تُعوّض بها عن خواء رؤاها السياسية، وتبدو في صورة الجسور المقدام، الحامل لحلول راديكالية. أمّا الشق الثاني فيتكوّن من لوبيات مالية تملك أجهزة إعلامية تؤثّر بها في الرأي العام، وهي استنساخ لتجربة رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلوسكوني، الذي شقّ طريقه بالاعتماد على المال والإعلام، مُلتفًا على جميع الأحزاب التقليدية، يمينا ويسارا.
خروج عن النص
مع الشعبوية تفقد التصنيفات السابقة معناها، فلا يبقى يسارٌ أو يمينٌ أو وسطٌ، وتبرز خصيصة واحدة هي الخروج عــــن النص. ما تشترك فيه الأحزاب الشعبوية مع لوبيات المال والإعلام في تونس اليوم، هو الرفض المنهجي للمنظومة السياسية التي ترسّخت شيئا فشيئا منذ 2011، والتبشير بمنظومة بديلة، هلامية الملامح، غامضة الأهداف والتكوين. وإذا ما لخصّنا ذلك التوجُه في كلمتين، ستكونان «ضد النظام» Antisystème.
عرفنا هذه الظاهرة في انتخابات المجلس التأسيسي مع العريضة الشعبية، على سبيل المثال لا الحصر. وزاد انتشار الظاهرة مع بروز القنوات التلفزية ذات الارتباط بالشخص الواحد، والتي لا تُخفي خدمتها لأجندا انتخابية، إن في خطابها الإعلامي أم في التنقلات الميدانية لرموزها، وهي زيارات تُعتبر حملات انتخابية كاملة المواصفات، تُوزَع فيها المساعدات ويلعب فيها المال دور العصب الحيوي.
استفادت الشعبوية من غضّ الطرف، نتيجة انشغال السلطات القائمة على الرقابة بارتدادات معارك داحس والغبراء، في عدد من الأحزاب السياســـية. وبات ضبــط تلك الظواهر اليــــوم أمرا عسيرا ومُكلفا سياسيا، مثلما أثبت ذلك تطبيق القانون، بشكل متأخّر جدّا، على قناة «نسمة». ويجوز القـــول إنّ الشعبوية استفادت من الصراع مـع الدولة على إنفاذ القانون، لكي تظهر في مظهر الضحية، وتستدرَ مزيدا من عطف الرأي العام بوســـائل ماكرة، تلعب فيها الخبرات الاتصالية الأجنبية دورا محوريا.
لكن مع ذلك، لا يستمدّ الشعبويون قوّتهم من حنكتهم وكفاءتهم، بل إنّ الفارس الأكبر الذي يحارب في صفهم هو السأم والملل، اللذان اجتاحا التونسيين، من جميع الفئات، حتّى صار المواطن العادي يزدري غالبية السياسيين ويعاف السياسة.
مخاوف من صعود الشعبوية
من الصعب اليوم تطويق تلك الظاهرة، فقد اتسع الخرق على الراقع. وهذا الوضع يُلقي بظلال كثيفة على العملية الانتخابية المقبلة، ليس على الصعيد الفني، فالهيأة العليا المستقلة للانتخابات تقوم بالدور المنوط بها في هذا المضمار، وإنّما على الصعيد السياسي.
فهناك مخاوف جادّة من صعود الشعبويين، على نحو يؤدّي إلى تزييف الإرادة الشعبية، ولو بالحصول على أقلية مُعطلة في البرلمان المقبل. ويمكن أن يتمّ ذلك الاختراق من دون إخلالات جوهرية بالقوانين، وفي إطار الشفافية والنزاهة. فمن المؤكّد أنّ أجواء المزايدات في الحملات الانتخابية السابقة لأوانها، تُنعش الأصوات القُصووية وتسهّل للغُلاة كسب التعاطف الجماهيري بثمن زهيد.
واستطاعت الشعبوية أن تُرسّخ أفكارا من قبيل «كُنا قبل خير من توة» و«يا حسرة على زمان بن علي» و«ما ربحنا شيء من ها الثورة» و»نحن أمة لا تُحكم إلا بالاستبداد»، وسواها من التعابير اليائسة والمُثبطة للعزائم. ومع انتشار تلك الشعارات النزقة والمخادعة، ترتفع أسهم الشعبويين، وتزدهر سوقهم. ومن أهمّ المؤثرات التي تُساعد على ترسيخ هذا المنطق عمليات سبر الآراء، التي تتغذّى من عناصر سلبية هي:
- مساهمتها في الدور التعبوي المكشوف الذي تقوم به أجهزة الإعلام الخارجة عن القانون
- عجز «الهايكا» عن ضبطها
- ارتباط كثير مـــن عمليات سبر الآراء بتمــــويلات مــن المال الفاسد ومن شأن هذه العناصر النيل من مصداقية العملية الانتخابية.
أجندات خفية؟
غالبية معاهد سبر الآراء تعمل اليوم طبقا لأجندات حزبية وغير حزبية مرتبطة ارتباطا عضويا بالمال. ونحن لم نعرف عمليات سبر الآراء في الماضي، بل كنّا نشاهد مفاعيلها في الانتخابات الأوروبية على شاشات تلفزاتنا فقط، ولا نحلم برؤيتها في ديارنا. هكذا وُلدت الاستطلاعات في بلادنا بلا إطار قانوني ولا ضوابط. وما لبثت أن دخلت في عاداتنا، فصدّقها الناس، واتخذوها مرجعا. لكنّنا مازلنا بعيدين عن الدور المحوري الذي تضطلع به مؤسّسات سبر الآراء في الديمقراطيات العريقة، فغالبية الاستطلاعات عندنا يشوبها التلاعب والتوظيف، ويخترقها المال المُلوث. والأكيد أنّ كثيرا من استطلاعات الرأي خدمت القوى الشعبوية ووسّعت من دائرة المُعجبين بها، بما رسَخ الانطباع أن سلاطة اللسان تُعطي نتائج انتخابية مُحقّقة.
وإلى جانب اللوبيات التي تراهن على عودة رموز النظام القديم، وتُشجّع على تلطيخ صورة ما بعد 14 جانفي 2011، هناك قوى أخرى تستخدم استطلاعات الرأي من أجل تكبير البُعبع الشعبوي، لكي تضع نفسها في مكانة المنقذ وتحصد عددا أكبر من الأصوات. وهذا التوظيف من هذا أو من ذاك يقضي على الرسالة الأصلية والأصيلة لعمليات سبر الآراء.
بهذا المعنى زادت استطلاعات الرأي من خلط الأوراق فأضاع قطاع واسع من الناخبين بوصلتهم. ويتطلّب هذا التشتّت مراجعة القوالب السياسية القديمة، وإدماج الأبعاد الثلاثة السياسي والاقتصادي والاجتماعي في رؤية تُوضّح معالم الطريق، للخروج من الأزمة الراهنة، بالعودة إلى الأهداف التي خرج التونسيون من أجلها إلى الشارع في 2011.
لكن لا يمكن تصوُرُ خريطة طريق جديدة تصوغها وتنفّذها نُخب قديمة، اهترأت بكثرة الصراخ وإدمان الصراع. بل يريد التونسيون مشهدا سياسيا جديدا، بعيدا عن تأثير أوكار الفساد ونفوذ الأوليغارشيات المُتحكّمة برقبة الاقتصاد، وعندها يمكن تعبئة الطاقـــات البشــرية المُهمّشة، الحالمة بالهجرة، بعد أن تجد بداية استجابة لمطالبها، من غير ابتزاز شعبوي أو تضليل ديماغوجي.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق
تحليل منطقي لواقع متموج يؤكد الضبابية التي تكتنف العملية الانتخابية القادمة في ظل فوضى سياسوية واعلامية يصعب بل يستحيل تلجيمها