السّهـرات الرّمـضانيّـة: في البـدء كـان الكـافي شانتا

السّهـرات الرّمـضانيّـة: في البـدء كـان الكـافي شانتا

إن كان شهر رمضان معروفا بشهر العبادات فهو أيضا الشّهر الذي يقبل فيه التّونسيّون على وسائل التّرفيه وعلى الحفلات السّاهرة بشتّى أنواعها، على خلاف سائر الأيّام. ترجع عادة الخروج للسّهر وللتّسلية في ليالي رمضان إلى أكثر من نصف قرن. في عقدي الثّلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضي، بدأت ظاهرة الكافي شانتا تنتشر في حوانيت تجاريّة تشتغل في النّهار ببيع المنتوجات الغذائيّة وبعد الإفطار تنظّف وتركّز فيها منصّات تستقبل مجموعة من الفنّانات والرّاقصات لتحيي حفلات يؤمّها جمهور غفير للاستمتاع بالسّهر. وقد خصّت هذه الظّاهرة باب سويقة أحد الأرباض التي تشكّل الحزام البيضويّ للمدينة العتيقة.

من بين الفنّانات اللاّتي شاركن في هذه الحفلات فضيلة ختمي وحسيبة رشدي وفي «ربض» باب الخضراء وجدت صالة كانت خصّصت لصفيّة الشّاميّة تحيي فيها حفلاتها صلب فرقة الصّباح بقيادة أحمد الصّبّاحي. وعن رضا القلعي، يذكر أنّه عند تأسيسه لفرقته «المنار»، في 1950، كان يحيي في شهر رمضان حفلات غنائيّة في صالة الفتح بباب سويقة.  ولم ينضمّ الفنّانون الرّجال إلى تلك الحفلات إلاّ في فترة لاحقة. فنظّمت إذّاك حفلات رمضانيّة شارك فيها علي الرّياحي ومحمّد الأحمر ومحمّد أحمد والهادي المقراني إلى جانب فتحيّة خيري وهدى سلطان كما شاركت فيها الرّاقصتان زينة وعزيزة والرّاقص حمّادي اللّغبابي. وقد فتحت صالات عموميّة لهذه السّهرات الرمضانيّة وهي صالة قرطبة في نهج باب سويقة الشّارع الرّمز بالنّسبة إلى ظاهرة الكافي شانتا. ويبدو، حسب بعض الرّوايات، أنّ صالة سبقتها وهي صالة «ألف ليلة وليلة «التي كانت في الأربعينيّات من القرن الماضي، تشغّل مغنّيتين إيطاليّتين تغنّيان باللّغة العربيّة وهما شهرزاد ودنيازاد إلى جانب مغنّية يهوديّة مصريّة اسمها وفاء أمين اشتهرت بأدائها المتميّز لأغاني أمّ كلثوم. وهي معلومة أدلى بها  المنوّم المغناطيسي الشّهير القصعاجي الذي ذكر أيضا أنّ حفلات رمضان اللّيليّة في باب سويقة والحلفاوين، كانت تتخلّلها عروض للتّنويم المغناطيسي والألعاب السّحريّة وهو ما جعله يتعلّق بهذا الفنّ منذ صغره ويختار أن يحترفه ليبدع فيه.

وقد جاء في شهادات لعدد من سكّان الحلفاوين، أنّ ظاهرة الكافي شانتا اتّسعت على امتداد الأربعينيّات من القرن الماضي وصولا إلى أواخر السّتّينيّات، حيث برز عديد المغنّين من النّساء والرّجال للمشاركة في هذه السّهرات التي انخرطت فيها صالات جديدة مثل صالة بن كاملة وصالة مدريد وصالة الفتح. وقد برزت فيها أسماء عديدة لفنّانين أمثال صليحة وعلي الرّياحي والهادي الجويني وغيرهم من المغنّين والرّاقصين. كما توسّعت التّعبيرات الفنّيّة التي كانت تعرض في هذه السّهرات فطالت السّينما لتعرض أفلاما بمعلوم دخول حدّد بعشر فرنكات للصّغار وعشرين فرنكا للكبار. ويحضر هذه الحفلات جمهور عريض يتكوّن من الرّجال والنّساء والأطفال في أحيان كثيرة، إذ كانت العائلات ترتاد هذه المقاهي للترويح عن النفس وتمضية سهرات رمضان التي يستحبّ فيها الخروج للتّسلية. كانت هذه الظّاهرة موازية للتّعبيرات الفنّيّة الأخرى من أدب وموسيقى ورقص ومسرح. يتخلّلها كما يتخلّل بقيّة الفنون نوع من التّهميش، على غرار ظاهرة جماعة تحت السّور الذين كانوا يبدعون في فضاءلت المقاهي الشّعبيّة مثل مقهى العبّاسيّة ومقهى الدّزيري ومقهى الغرابة وصالات الأفراح والنّوادي الخاصّة التي كانت بعض الفنّانات الشّهيرات مثل شافية رشدي وصليحة يفتحنها في بيوتهنّ.

وستبدأ الظّاهرة بالاندثار شيئا فشيئا، بعد استقلال البلاد. ففي أوائل السّتّينيّات، عندما أحدثت كتابة الدّولة للثّقافة، في الحكومة الوطنيّة، خصّصت وكالة لأفراح الشّعب وتكفّلت بتنظيم الحفلات الشّعبيّة التي أصبحت تبرمج في إطار نظامي يقع فيه التّعاقد مع الفنّانين وتفرد له معاليم دخول أيضا. كما كانت هذه الحفلات تنشّط في نطاق برنامج وطنيّ تخطّط له كتابة الدّولة للثّقافة وترصد له ميزانيّة خصوصيّة في صلب الميزانيّة العامّة للدّولة. ثمّ أحدثت فيما بعد اللّجنة الثّقافيّة الوطنيّة التي أوكلت إليها هذه المهامّ إلى جانب الاضطلاع بتنظيم المهرجانات الدّوليّة والوطنيّة والجهويّة. لكنّ هذه المهرجانات لم تتمكّن من استعادة مكانة مقاهي المغنى وطابعها الحميمي الذي كان جوّ المدينة العتيقة يضفي عليها سحرا خاصّا ويجعل من سهراتها موعدا تمنّي به أعداد غفيرة من الجماهير نفسها منتظرة الشّهر الكريم لتستمتع بها.

وأوحى هذا الحنين إلى نخبة من مثقّفي المدينة بإحداث مهرجان هو مهرجان المدينة اضطلعت الجمعيّة الثّقافيّة لمدينة تونس التّابعة لبلديّتها، بتمويله ودعمه المادّي والأدبي. فتتالت الدّورات إلى هذا اليوم وكانت من بين إضافات المهرجان سعيه إلى  اكتشاف المواهب الصاعدة في الغناء والموسيقى وهما التّعبيرتان الأساسيّتان اللتان يرتكز عليهما مهرجان مدينة تونس في أغلب دوراته، علما وأنّه في بعض الأحيان، تُبرمج بعــــض العـروض المسرحيّة ذات الطّابع الهزلي أو بعض عروض الممثّل الواحد أو ما يعبّر عنه حـليّا «بالوَان مان شو».

كما أنّ الطّابع المميّز لهذه العروض الموسيقيّة هو الإنشاد الصّوفي والرّوحانيّات أساسا، مع استثناءات شملت بعضا من الفنّانين والفنّانات الواعدين والمبدعين في الطّرب الأصيل. وتدعى لهذا المهرجان فرق موسيقيّة من كافّة أنحاء العالم فيما يتعلّق بالأغاني الدّينيّة أو الرّوحانيّة. إلاّ أنّ الفرق التي تركت أثرا ملفتا في مختلف الدّورات هي فرقة الأوبرا المصريّة وفرق القدود الحلبيّة من سوريا. وقد صنع  مهرجان مدينة تونس تقليدا كان له  أثر كبير وخلق ما يشبه الأنموذج الذي تشكّلت وفقه مهرجانات عديدة مماثلة في كلّ المدن التّونسيّة تقريبا. إلاّ أنّ هذه المهرجانات الوليدة لم تتقيّد بالرّوحانيّات ولا حتّى بالطّرب الأصيل ولكنّها كانت استجابة لميولات جمهور الجهات ورغباته واستئناسه بصيغ تنشيطيّة تخصّ بها شهر رمضان وتضفي عليه طابعا احتفاليّا مميّزا.

ومن الملفت أنّ لهذه التّظاهرات الموسميّة حضورا هامّا لدى الإعلام الثّقافي لا يضاهيه سوى ارتياد الجمهور ومواظبته على برامجه وفعاليّاته. وبادرت بعض مهرجانات المدينة ومنها مهرجان مدينة منّوبة ومهرجان مدينة تونس قبلها، بتنظيم سهرات للفداوي أو الحكواتي على الطّريقة التّونسيّة وهو صنف من الفرجة كان يبرمج في مقاهي المغنى كما بادرت بتنظيم سهرات حكي في التّاريخ والتّراث يقبل عليها جمهور وفير ويستسيغها لما تستعرضه من أمجاد الثّقافة الإسلاميّة ومن مآثر أبطالها ورموزها.

وبالموازاة مع هذه المهرجانات، برزت منذ ما يقارب العشريّة ظاهرة أخرى هي ظاهرة المقاهي السّاهرة في شهر رمضان. وتركّزت في سوق الشّوّاشين في قلب المدينة العتيقة. فيها يتجمّع روّاد تختلف أعمارهم ولكنّ أغلبهم شباب من الجنسين، يقبلـــون على ما يشتهون من مشروبات ومرطّبات ويستمعون إلى المالوف والطّرب الأصيل ويقضّون سهرتهم بين النّقاشات الفكريّة والفنّيّة والاجتماعيّة ويتسلّلون قبيل ساعة السّحور في انتظار ليلة جديدة من ليالي هذا الشهر الكريم.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.