الجنس في الدّين, بين الاجتياح الأخلاقي والانضبــاط القيمي
تجلّت اليهوديّة في تعاملها مع حاجات الجسد الجنسيّة أكثر تحّررا وإثارة للنّوازع الشهوانيّة ولم تحفل نصوصها بتقنين هذه الممارسة وإنّما أوردت شواهد ومرويّات نلحظ من خلالها حريّة الجسد المطلقة في تلبية رغباته الجنسيّة وبخاصّة لدى طائفة الأنبياء على نحو النبيّ »داود« والنبيّ »لوط« والنبيّ »يوسف«، أمّا التّجربة الجسديّة في المسيحيّة فمبعثها ومردّها إلى العدوّ الشّيطان، فهو الذّي يجرّب المؤمنين ليغويهم ويسقطهم في شرك الغواية والخطيئة ولذلك سمي في الكتاب المقدّس بالمجرّب. أمّـا النصّ القرآني فقد ربط هذه الممارسة بمجموعة من القوانين تمنحها صفة الانضباط وسمة الانحراف عن الاجتياح الأخلاقي ليستقرّ الجسد من هذه الّرؤية الإسلاميّة فضاء مادّيا واعيا بالنّظام الإلهي وملتزما بالطابع القدسي شأنه في ممارسة العمليّة الجنسيّة شأن ممارسة فريضة الصّلاة أو شعائر الحجّ. وبسبب من ذلك انتبه الإسلام إلى مختلف الصّور التّي كانت تجسّد تنوّع الممارسة الجنسيّة في الجاهليّة أو في الشّعوب اليهوديّة فانبرى لنقدها وتقعيدها بردّها إلى دائرة المقدّس بعد تخليصها من دائرة الفوضى والحدود الفرديّة، وقد شدّد عبد الوهاب بوحديبة في كتابة »الإسلام والجنس« على أنّ تقنين الحاجة الجنسيّة وحدّها بضوابط أخلاقيّة يعبّر على عدم عدائيّة الإسلام للمرأة في صبغتها الأنثويّة الجنسيّة والاجتماعيـة.
لقـد أقحم الإسلام الجنس في صلب الممارسة الإيمانيّة وقنّنه شرعا بمفهوم النّكاح باعتباره التشكّل الأخلاقي للعلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة المرتبطة بنظام الزّواج درءا للفتنة وتقنينا للشّهوة، ما أكسب مصطلح النّكاح تعيينا لمعنى المعاشرة الجنسيّة في طابعها الشّرعي الخاضع للسّنن الدينيّة والاجتماعية، فتحدّدت بهذه الأحكام الفقهيّة أوضاع المباح والمستحبّ والمكروه والمحّرم في الممارسة الجنسيّة واستحال الّزواج ركحا حيويّا فيه يتمّ تحويل الرّغبة الجنسيّة إلى فعل ديني يقدر من خلاله الجسد على أن يحقّق التوازن النفسي في الإشباع الجنسـي.وهكذا تبدو المسألة الجنسية مقترنة شديد الاقتران بعتبات المقدّس وتشريعاته وأحكامه. وهو اقتران تراوح بين التقنين وإرساء مثال نموذجي يقتضي الاحتذاء والمحاكاة وبيّن انفلات من فجوات هذا التقنين وتحرير الجسد من خيانة النمذجـة.
الجنـس في النصّ الـديني بين التـخـفّي والتجـلّي
من خلال ما ورد في النصّين المقدّسين، التّوراة والقرآن في شأن النبيّ يوسف وقصّته مع التّي همّت به أنّ نقاط التّواشج والالتقاء عديدة حتّى أنّها تتجاوز وتفوق نقاط الاختلاف أو التّنافر، بحيث جاء النصّان متآلفين ومتّفقين من جهة الأحداث وسياق الأحداث ومحتوى الأحداث، وإن تبدّى الاختلاف جزئيّا في مستوى ترتيب الأحداث، ذلك أنّ المكان الفاصل بين الآية 29 والآية 35 من سورة يوسف في القرآن تكمن قصّة دعوة امرأة العزيز لصديقاتها اللّواتي لمنها على شغفها وولعها بيوسف إلى منزلها لمشاهدة جمال يوسف على أمل أن يلتمسن لها العـذر، ومنزلة هذا الحدث من القصّة مؤخّرة عن موضعه في السّياق، على عادة الأسلوب القرآني في تقديم المؤخّر وتأخير المقدّم، وموضع هذا الحدث التسلسلي يرد بعد عديد المحاولات التي قامت بها امرأة العزيز على النّحو المذكور في الرّواية التّوراتيّة إلاّ أنّ الرواية القرآنية قد قفزت كعادتها على مجرى هذه الأحداث وإن أوردتها لاحقا في شكل إشارة وتلميـح.
تعدّد العلائق الجامعة والمانعة بين الجسد والجنس في النصوص الدينية
لا شـكّ أنّ البحث في حيّز مخصوص من دلالة الجسد في انسياقه داخل العملية الجنسية من منظور ديني متعدّد النصوص والمرجعيات، سرعان ما يرتدّ رجعا لصدى الحيّز ذاته، بما أنّ اللغة مشحونة بزخم من الرموز تنهض بوظيفة تعبيرية تمثيليّة. ومن النتائج التي توصلنا سبعة استنتاجات وهي تباعا:
- غياب مفهوم الجسد في أدبيات الثقافة العربية الإسلامية باستثناء ما ورد في «ألف ليلة وليلة» و»طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي. ومردّ هذا الغياب إلى ما استقرّ في الضمير العربي الإسلامي من تهجين للجسد وتحقير لرمزيته التي ظلّت حبيسة الممارسة الجنسيّـة.
- أنّ مفهوم الجسد شهد تطوّرا دلاليا واصطلاحيا بحسب تنوّع مجالات الدراسة والبحث من التأمّلات الفلسفية إلى التصوّرات العلمية، فتعدّدت الصياغات والمعالجات التي تناولت مصطلح الجسد وأنتجت مقولات فكرية أسهمت في إنجاز فتوحات علمية أخرجت هذا المفهوم من دلالته المألوفة والمتداولة لدى الفكر الإنساني نحو سياقات رمزية منحت الجسد أبعادا رمزية متعلّقة، إمّا بالفنون أو بالأدب أو بالتكنولوجيات الحديثـة.
- تراوح اهتمام النصوص الدينية وبخاصّة اليهودية منها والإسلامية بالمسألة الجنسية الموصولة بالجسد بين إشاعة حريّة الجسد المطلقة في ممارسة الحاجة الجنسية كما في اليهودية وبين تقنين هذه الممارسة بضوابط فقهية وأخلاقية محدّدة في نموذج الجسد النبوي الإسلامي.
- لم تكن قصّة يوسف في التوراة وفي القرآن دحضا للجنس وتجميدا أو تحنيطا للجسد وإنّما مثّلت هذه القصّة في بعديها اليهودي والإسلامي انتصار الدين لجمالية الجسد واعتراف المقدّس بمبدإ اللذّة والشهوة الجسديّة وإن بأنساق متباينة تأتلف في مستوى إدراج المسألة الجنسية داخل دائرة المقـدّس.
- لا تتعارض مقولة النبوّة في اليهودية والإسلام مع الوقوع في إمكانية إنسانية لإشباع الرغبة الجنسية للجسد وفق إيقاعات لغوية وخطابات جمالية تأسّست على فهم مخصوص للنبوّة في الإسلام على نحو تعاطي نبي الإسلام مع نوازعه وغرائزه الشهوانية بالإشباع أو التسليم بمقولة النبي المزواج «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء، وجعلت الصلاة قرّة عيني». كما اعتبار قوّة الباءة أسّا من أسس التقوى والهداية، بينما ذهبت اليهودية إلى التشريع لليهودي بأن أباحت له اللّواط بزوجته، فهو لا يخطئ مهما فعل مع زوجته ويضربون لذلك مثلا مفاده أنّ امرأة حضرت إلى الحاخام وشكت له أنّ زوجها يأتيها على خلاف العادة فأجابها «لا يمكنني أن أمنعه عن هذه المسألة لأنّ الشرع قدّمك قوتـا لزوجك».
- مثّل الاعتداء على الجسد من منظور إسلامي وتحديدا في الدرس الفقهي ضربا من الزّنا بخلاف التفسيرات اليهودية التي حددّت صفة الزّنا في الاعتداء الجنسي على الجسد اليهودي وأباح بقية الأجساد الأخرى للمتعة والشهـوة.
- يتجلّى الجنس في قصّة يوسف عند اليهود وعند المسلمين ضربا من الطقس الدّيني يتعارض مع معنى الزنا في انضباطه الأخلاقي والقيمي وما تقنين العملية الجنسيّة بضوابط دينيّة إلاّ استعادة ثقافيّة لمفهوم الزنا أو ليس تقديس الصفا والمروى وعرفات والطواف حول الكعبة أشباه عراة هو تأكيد لا شعوري على الارتباط بالأولين ومن ثمّة تصعيد للجنس بالجنس في إطاره الثقافي الذي يستوجب غطاء دينيّا ما دام المؤمن في حضرة الإله الشاهد على ذلـك.
وبذلك فإنّ صورة المرأة الجنسية هي المعيار في الكتاب المقدّس والقرآن. وهي صورة مشدودة بين قطبين أوّلهما حواء التي تسبّبت بالخطيئة الأولى وثانيهما مريم التي أنجِبَتْ بلا جنس وبلا خطيئة نبيّا أتى ليخلّص العالم من الذنوب ومن الخطيئة التي تسبّبت فيها المرأة الأولى حواء. وما بينهما كانت زليخة إمرأة العزيز محمّلة بمسؤولية عشق الخطيئة حتّى لكان رغبتها في ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، إنّما هو تمثيل لمريم العذراء التي جاءت لتحرّر نساء الأرض من خطيئة حواء ومن المؤامرة التي دبّرت في السماء.
الأسعد العيّاري
- اكتب تعليق
- تعليق