زوايا الأولياء الصّالحين: مـن رمـوز روحـانيّة إلى نجـوم حفـلات سـوقــيّـة
شهدت الطّقوس الاجتماعيّة المرتبطة بزوايا الأولياء الصّالحين في تونس، تطوّرا تداخلت فيه عوامل عدّة سياسيّة واجتماعيّة وإيديولوجيّة.
كانت زوايا الطّرق في أصولها وجوهرها رديفة للتّقرّب من الخالق والتّوسّط بالأولياء للدّعاء والابتهالات، تبرّكا بتقواهم ونواياهم الخالصة في التّعبّد وأسوة بقوّة إيمانهم التي أوعزت إليهم الزّهد في الدّنيويّات الزّائلة والتّركيز على التّحصيل العلمي الدّيني والتّصوّف طلبا للقرب من الذّات الإلهيّة وسعيا إلى نشر القيم الخيّرة.
المشهد في العالم العربي الإسلامي معقّد وتــاريـــخ النّسق الصّوفي الـــذي يســـم منظومة الزّوايا والأولياء الصّالحين، يـــرشح بمدلولات تتعدّى الرّوحانيّات لتحيل على مصطلحات دخيلة ومستوردة من منظومات أجنبيّة لها مرجعيّاتها الروّحانيّة الخصوصيّة، ممّا يثير السّؤال حول الوظائف المعياريّة التي كانت تتحدّد بها هذه المنظومة: علاقاتها بمحيطها الاجتماعي، وتعاملها مع «الأمير» أي مع السّلطة، وعلاقتها بالسّلطة الدّينيّة أي بدار الإفتاء؟
جملة من الطّروحات التي تبقى في كثير من الأحيان معلّقة إضافة إلى أنّها تخلق زوايا رماديّة تتسلّل منها تشكّلات طقوسيّة وأحيانا عقائديّة تبعدها عن مقاصدها وتدخل عليها مصطلحات هجينة لا صلة لها بمرجعيّتها الرّوحيّة والفكريّة. دافع ملحّ يثير هذا السّؤال. وتونس اليوم وهي تعلن نفسها عاصمة للثّقافة الإسلاميّة وتعدّ لتأثيث العشرة أشهر القادمة بتظاهرات وفعاليّات ثقافيّة تسجّل للحدث، تشهد معالم الأولياء الصّالحين وزعماء الطّرق الصّوفيّة فيها إهمالا مادّيّا ولامادّيّا لثروة فكريّة وقعت مقايضتها بأنساق تنشيطيّة موغلة في الشّعبويّة والفلكلوريّة. هل لا يمكن الحديث إلاّ عن صدمة تصيب الزّائر الفضوليّ لزوايا الأولياء الصّالحين؟ أسواق تعرض أرخص الأذواق وأعمقها غربة عن محيطها وهويّتها، دكاكين قصديريّة ، أوساخ منثورة على جانبي الطّريق وفي صحن المقام، تجمّعات للرّجال من الرّوّاد يدخّنون «الشّيشة» ويلعبون الورق، وقبالتهم نساء محجّبات يطبخن أطعمة تختلط روائحها بما يبعثه الهواء من روائح الفضلات وروائح الصّبائغ التّجميليّة والحنّاء والبخور المستورد من الأراضي المقدّسة التي تستورده بدورها من الهند...هذا عن الصّورة. أمّا عن الصّوت، فيستجيب لخصائص الحفل السّوقي الجامع بين كلّ الأصناف الموسيقيّة الغربيّة والعربيّة والهنديّة الشّعبيّة والوتريّة...
في زاوية سيدي البشير الواقعة في الطّريق الرّابطة بين مدينتي ماطر و باجة، يتوسّط مبنى المقام مشهد جبليّ على غاية من الجمال من جهة ومن جهة أخرى واد عذب المياه هو وادي جومين.
تساءلنا عن الضّريح: أين هو؟ أفادنا بعض الزّوّار أنّه مغلق. توجّهنا إليه فوجدناه مغلقا وقيل لنا إنّه مغلق منذ مدّة، في واقع الأمر لم تعد حاجة الزّوّار إلى الاقتداء بوليّهم الصّالح ورائد طريقتهم الصّوفيّة. وهل يشعرون أصلا بانتمائهم إلى طريقة صوفيّة وهم يتذكّرون رائدها؟ وهل يتذكّرون جوهر الفكر الصّوفي الذي حصّله وليّهم وسعى إلى تفعيل قيمه بسنّ سلوكيّات اجتماعيّة هي بمثابة المنارة التي يمكن أن ترشدهم إلى سبل الاستقامة والتّعايش والعدل والاحترام المتبادل فيما بينهم؟
سنّة جميلة وحكيمة وضعها سيدي البشير وهو عبد الله بن عبد الرّحمان السّعدي الونيسي، أصيل جبل زواوة من منطقة بجاية الجزائريّة وقدم إلى تونس إثر وفاة عمّه سيدي الونيسي المعروف مقامه بتربة الجلاّز ودرّس الحديث والفقه في جامع القصر ثمّ اعتزل للعبادة والزّهد. تتمثّل هذه السّنّة في إصلاح منظومة الزّواج وتخليصها من شوائب الطّمع في المال والأرزاق. فأوعز إلى القبائل الاثنى عشرة التي هاجرت معه من الجزائر إلى تونس، بألاّ يشترط أحد من أهلها لتزويج بناته، أكثر من مبلغ يعادل تسعة وستّين ملّيما وألاّ يطلب من خاطب ابنته هدايا ذات قيمة باستثناء ما يقدّمه عن طواعية من مواد استهلاكيّة. سنّة أصبحت بمثابة العادة والطّقس الاجتماعي بل كادت تكون مقدّسة إلى أن أصبح بعض من خلف هذه القبائل ميّالين إلى إعادة النّظر فيها.
زيارة أخرى لمقام آخر هو مقام الوليّة الصّوفيّة السّيّدة عائشة المنّوبيّة. لا يختلف المشهد في هذه الزّاوية عن سابقه في مقام سيدي البشير، إلاّ فيما يتعلّق بالفضلات التي يسهل رفعها هنا لوجود المقام في موقع حضريّ منظّم «نسبيّا».
إلاّ أنّ المشهد يتّسم بالهجانة كسابقه وبتحلّل الجوهر الرّوحاني والفكري الذي تختصّ به طريقة السّيّدة عائشة المنّوبيّة والذي وقع احتواؤه في موجة الشّعوذة واستطلاع الغيب وما يطلق عليه شعبيّا بـ«عقد النّيّة في السّيّدة» وما يعقب ذلك من وعود بذبح الخرفان والدّيكة وغيرها من أجناس القرابين في حال «الوفاء» بوعود الزّواج والإنجاب والنّجاح في الامتحانات والحصول على عمل وغيرها من الأحلام التي ترواد زائري المقام، فإذا المناديل تتدلّى معقودة في انتظار تحقيق تلك الآمال وإذا رسائل الوله ببركات السّيّدة مخطوطة بالحنّاء على الجدران ومتسلّقة إلى السّقف وإذا الوكيلة واقفة قرب الضّريح يدها لاتكفّ عن الحركة لتسلّم «التسبقات» من أموال وقراطيس بخور وصناديق ملأى بالشّموع...
وفي البهو تتشكّل من حين إلى آخر مجموعة من النّساء ينقرن على طبلات ويترنّمن بأذكار دينيّة تستعرض مكارم السّيّدة وأحيانا يعرّجن على وليّات أخريات: للاّعربيّة وأمّ الزّين الجمّاليّة والبهليّة... نقائص مادّيّة وعاطفيّة واجتماعيّة وربّما سياسيّة أيضا يمكن أن نستحضرها في مقاربة هذه الظّاهرة، ظاهرة تهميش المعاني الجوهريّة التي يتضمّنها الفكر الصّوفي. إلاّ أنّ ما أدّى إلى استفحالها هو دون شكّ تعامل الأنظمة السّياسيّة مع هذا الفكر.
الصّوفيّة والسّلطة السّياسيّة
يبدو أنّ السّلطة السّياسيّة في العالم العربي والإسلامي حاولت منذ عقود عديدة احتواء التّراث الصّوفي وتطويره في نسق وظائفيّ يتماهى مع أهدافها ومصالحها.
يذكر الباحث حسن أبو هنيّة في دراسة أجراها في 2014، حول «الصّوفيّة والسّلطة: من نور العرفان إلى ظلمة السّياسة والسّلطان»، أنّ «الصّوفيّة لم تتلبّس تاريخيّا بتقاليد النّزاع والصّراع على السّلطة»، إلاّ أنّ الأمر اختلف في المرحلة الاستعماريّة. ويذكر أنّ انقساما بائنا كان يفصل بين تيّارين في صلب الصّوفيّة أو من يسمّون بأولياء الله الصّالحين. في مصر، يؤكّد أنّ الطّريقة الأحمديّة انحازت إلى الاستعمار وتعاملت معه، في حين قاومته الطّريقة العزميّة.ومنذ العهد العثماني، دأبت الدّولة في مصر، إلى «التّدخّل في عمل الطّرق الصّوفيّة». وفي الجزائر، كانت الطّريقة القادريّة تقف وراء الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي انتفع بشكل أساسي من مساندتها في حملته قبل الأخيرة (العهدة الرّابعة). وعن تونس، يذكر الباحث أنّ الصّوفيّة تمتّعت برعاية الرّئيس زين العابدين بن علي ووقع توظيفها في مقاومة حركة النّهضة «واستخــدمت لإسبـــاغ الشّرعـــيّة على النّظام».
ويبدو حسب هذه الدّراسة أنّ أغلب الأنظمة العربيّة الإسلاميّة الوطنيّة كرّست هذا الصّنف من العلاقة مع المنظومات الصّوفيّة والطّرق السّلفيّة للأولياء الصّالحين.
وفيما يتعلّق بتركيا، فإنّ الحظر الذي شمل الطّرق الصّوفيّة دفعها إلى التّسرّب في التّنظيمات السّياسيّة لتصبح حاضرة تحت لافتة المشهد السّياسي.
ويبيّن الباحث أنّ هذا الاستخدام للصّوفيّة من قبل الأنظمة السّياسيّة تمّ تكريسه ودعمه من الإدارة الأمريكيّة في حملة «تستند إلى رعاية إسلام معتدل ووجدت في الطّرق الصّوفيّة ضالّتها وعكفت مراكز الدّراسات ومخازن الأفكار على عقد مؤتمرات وإصدار دراسات والقيام بعمليّات تشبيك واسعة مع الطّرق الصّوفيّة بالتّعاون والتّنسيق مع الأنظمة العربيّة الحاكمة».
ونجد هذا الطّرح مفصّلا في المشهد المغربي كما تعرّض إليه الباحث في العلوم السّياسيّة الدّكتور محمّد شقير في دراسة نشرها في موقع «برلمان. كوم» أورد فيها أنّ العلاقة بين السّلطة السّياسيّة والطرق الصّوفيّة «شهدت في العهد الحديث تركيزا على المجال الدّيني وتكريس الأمن الرّوحي للمغاربة، أمام بروز ما يسمّى بـ«الصّحوة الإسلاميّة» وظهور جماعات وتيّارات دينيّة خصوصا التّيّار الوهابي والعدل والإحسان والتّوحيد والإصلاح، ما دعى السّلطة إلى تقوية التّيّار الصّوفي والنّهوض بالزّوايا بغاية خلق موازنة في الحقل الدّيني وحفظه من كلّ تطرّف أو تشدّد...»
وظائف اجتماعيّة
للطّرق الصّوفيّة أيضا وظائف اجتماعيّة تطرّق إليها الدّكتور محمّد شقير مبيّنا أنّ هذه الزّوايا التي عرفت بالمغرب انتشارا كثيفا، لعبت دورا مهمّا في «التأطير المكثف للسّكّان وتوعيتهم وتعليمهم وتثقيفهم والدّليل على ذلك هو وجود الكثير من المكتبات الكبيرة بعدد من الزّوايا مثل مكتبة «تمكروت» ما ساعد على إنتاج نخبة من الطّلبة والمريدين المتمتّعين بوعي ثقافيّ وسياسي وإحاطة بكلّ المستجدّات التي تعرفها البلاد...».
ورجوعا إلى تونس، فإنّ التّعامل مع الطّرق الصّوفيّة كمنظومات روحانيّة، وقع إدماجها في خانة المحافظة على التّراث اللاّمادي. وكآليّات لتحديثها ولاستمراريّتها ، تمّ حشر الطّقوس الجمعيّة التي ترافقها في قوالب التّنشيط الثّقافي بصفته مصطلحا مرتبطا باللامركزية الثّقافيّة، ما أدّى إلى إحداث مهرجان لكلّ وليّ صالح. وكما هو الحال بالنّسبة إلى المهرجانات الجهويّة أو اللاّمركزيّة، تتّسم المادّة المرصودة بالرّداءة والمعايرة. هي مادّة تعتمد على قوالب جاهزة وعلى تعليب الذّائقة الفنّيّة. والحال أنّه بالموازاة، لم ترصد الدّولة برنامجا خصوصيّا في قطاع المحافظة على التّراث لرعاية المدلول الفكري للطّرق الصّوفيّة والتّوسّل به لتشذيب التّداعيات الرّجعيّة التي علقت بالذّهنيّات الجمعيّة والتي يخشى أن تكون في صلب المبرّرات التي اعتمدها الإرهاب عندما دنّس العديد من الزّوايا وأضرحة الرّوّاد الصّوفيّين.
محاذير التّشويه التي طالت الفكر الصّوفي تنساب إلى أبعد مــن ذلك. أي استــعـــارة مصطلحات صـــوفيّة في تظاهرات هجينة. مصطلح الخرجة أصبح يعتمد في الاحتفال باختبار مادّة الرّياضة في الباكالوريا كما اعتمد في حملات الانتخابات سنة 2014 دون رابط مرجعيّ ودون مدلول ثقافي أو فكري سوى تعبئة الجموع واغتنام الغفليّة (l’anonymat).
لا يزال السّؤال مطروحا حول استعادة صفاء الجوهر الفكري للطّرق الصّوفيّة وتنقيتها من رواسب الهزّات الايديولوجيّة. وهو أمر يستدعي طرحا متوقّفا من قبل الدّارسين ولكن أيضا من قبل أصحاب القرار السّياسي. لأنّ للمسألة مساس بجوهر الفكر الاجتماعي وبتصوّر المواطن التّونسي اليوم للحداثة وللتّطوّر وهو تصوّر طوّعته الأنظمة السّابقة لمصالحها ولكنّ المواطن التّونسي اليوم وقد دفع ثمن الكرامة بلون الدّم، لا يمكن أن يواصل دور الدّميــة لتجسيد كاريكاتور في مقام صوفيّ.
فوزية بالحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق