أدب وفنون - 2019.04.02

علي اللواتي: رفراف لـــؤلــؤة على صدر طبيعة غنّاء

رفراف لـــؤلــؤة على صدر طبيعة غنّاء

هي بلدة  تحتجب عن أنظار القادم إليها من البرّ خلف مرتفع يحميها كحِصْنٍ مَشِيد، بينما تكشف عن حسنها الرّائق لأمواج المتوسّط في حلّة قشيبة من البساتين الفيحاء؛ تحسبها  إحدى نسائها وهي تتزيّنُ بالدّيباج والذّهب أو لؤلؤة على وسادة من سندس أو طائر أبيض اطمأنّ في وكره المنيع بسفح جبل النّاظور الشّامخ قُبالة البحر. إنّها بلدة رفراف التي  يحمل اسمها إيحاءات شتّى بالأصوات والحركة؛ أتراه يعني رفرفة أجنحة الطّيور المنطلقة في سمائها، أم حفيف الأوراق في بساتينها الغنّاء إذ تهبّ عليها النّسائم، أم اهتزاز أشجارها إذ تهاجمها رياح الغرب القويّة؟

لقد أُتيح لي الامتزاجُ منذ سنوات بأهـــل رفراف فلمست في غالبيتهم لينَ معشرٍ وحسْنَ معاملَةٍ وانطلاقا على السّجيّة. وإذ تعرّفتُ على جوانب من حياتها الماديّة والثّقافيّة، أمسى انجذابي إليها يتعدّى متعة الاصطياف ووجدتُني مدفوعا إلى البحث عن شواهد تخبر عن تاريخها القديم، محاولا فهم ما تواجهه في حاضرها من مشكلات العصر آملا أن لا تعصف تحوّلاته السّريعة بروحها الفذّة وشخصيتها الطّريفة. وقد أردت التّعبير في هذه السّطور عمّا رَسَمَتْهُ في نفسي بلدة صغيرةٌ في حجمها، كبيرةٌ بتفرّد موقعها وطيب مناخها وثراء إرثها الحضاري الأصيل، واستقرّ لديّ أنّ الكامنَ من ذلك الثّراء لا يقِلّ عن الماثِلِ منه ولا يرجو سوى أن تنهض هِمَمُ أهلها بالكشف عنه إعدادا لمستقبل يشدّ أجيالها الصّاعدة إلى أرض طّيّبة معطاء ويصرفهم عن ركوب البحر المتربّصة غوائلُه بمن أُغْلِقَتْ في وجهه الأبواب وتقطّعتْ به السّبل.

جنّة بديلة عن الفردوس المفقود

تقع رفراف ضمن منطقة شاسعة  غنيّة بحقولها وبساتينها، تمتدّ ما بين السّاحل الشّمالي وبين  الطّريق المتّجهة نحو مدينة بنزرت، ومن سكّانها اليوم أحفاد «الموريسكيين» المُهجّرين من الأندلس بأمر ملك إسبانيا فيليب الثّالث في بداية القرن السّابع عشر. فقد استوطن آباؤهم مدينة بنزرت وقرى قديمة وأخرى  جديدة أسّسوها، منها «قلعة الأندلس» و«العالية» و«عوسجة» و«رأس الجبل» و«الماتلين» و«منزل جميل» و«منـــزل عبد الرّحمن»، ولا يزال بعضها يحتفظ إن قليلا وإن كثيرا بملامح من ثقافة أهل الأندلس وأساليب عيشهم؛ ولعلّ تلك الملامح أكثر بروزا في رفراف بحكم موقعها المنعزل نسبيّا عن الطّرق الكبيرة وانزوائها وراء جبل النّاظور؛ ممّا أكسبها تجانسا واضحا في البنية البشريّة والثّقافيّة، إضافة إلى احتفاظها بنمط إنتاج تقليدي في معظمه، يعتمد الزّراعة خاصّة، وهو ما حدّ من الهجرة إليها خلافا لبلدات أخرى أدّى التّوافد عليها إلى تغيير تركيبتها البشريّة والاقتصاديّة والثّقافيّة. إنّنا لا نظفر بمعلومات كثيرة عن نشأة رفراف كما لا تتوفّر مراجع عن المنطقة في التّاريخ القديم رغم وجود بعض الشّواهد من العصور الماضية، منها بقايا سور أو جدار حصن في البلدة القديمة أو قبور مبعثرة تظهر بقاياها في أعلى الجرف المطلّ على البحر في منطقة «السّطح» ولا يُعلم إلى أيّ فترة زمنيّة تعود؛ كما لا يُعلم إن كانت المؤسّسات المعنيّة بالآثار قد أولت اهتماما لتلك الشّواهد الأثريّة. أمّا في العصور الحديثة فإنّ بعض المعلومات تثبت، رغم شحّتها، استيطان المنطقة من قِبَلِ الموريسكيين الأندلسيين بداية من الثّلث الثّاني للقرن السّابع عشر. ولا تزال آثار من هويّتهم الأصليّة ماثلةً في بعض الألقاب العائليّة ذات الأصل الإيبيري مثل «ديللو» و«بشكولا» (Pasquala أو Pascuale) و«بالي» (Bali) و«سوسة» (Sousa ؛Souza)

طبيعة باذخة بين الجبل والبحر

إنّ أوّل ما يسترعي انتباه الوافد على المنطقة  جمال مناظرها الطّبيعيّة وهو في الطّريق من مفترق رفراف ـــ رأس الجبل، متّجها شرقا نحو جبل النّاظور وسط بساتين الكروم والأشجار المثمرة بموازاة صفحة البحر؛ فإذا وصل إلى مشارف رفراف وشاء، قبل الولوج إليها، أن يكتشف المزيد من محاسنها المحيطة، فله أن يسلك طريقا يصعد قليلا ثمّ ينزل في انحدار شديد نحو ساحل من أجمل سواحل البلاد التّونسيّة حيث يعانق النّظر ائتلاف الجبل والسّماء والبحر معًا في لوحة ساحرة. لقد اجتمع لذلك الشّاطئ ما لم يجتمع لشواطئ غيره : مرتفعات تحميه من هبوب رياح «الشّهيلي» الحارّ في الصّيف، تنوّع السّواحل الرّمليّة والصّخريّة، عيون ماء زلال تتدفّق إليه مثل «عين دْمَيْنَةْ» و«عين محلول» و«عين مستير» التي تروى من حولها بساتين وحدائق تنتج أنواع الفواكه والخضروات. وليس أقلّ مفاتن المكان صخرة «قْمِنّارِية» (بيلاو) التي تتوسّط خليجه ويتّخذها الضّوء مسرحا لألعابه في الأصيل والبكور فتبدو عند اتّحاد البحر بالسّماء كأنّها مشكاة معلّقة.

سِماتٌ حضريّة في بيئة زراعيّة ما أن يدخل المسافر رفراف حتّى يفاجئه التّضادُّ بين الأحياء الحديثة المحيطة بها وبين النّسيج العمرانيّ المُتَرَاصّ الذي قد يتيه المرء في دروبه الملتوية وأزقّته الضيّقة؛ كما يحس  بتباطؤ زَمَنٍ  تسترسل على إيقاعه حياة بسيطة هادئة لم  تغيّر ضرورات العصر الكثير من مظاهرها القديمة. ولا يندر أن تعترض طريقه الدّواب مُحَمَّلَةً بالعلف، تُزاحمها السّيارات والدّرّاجات النّاريّة، وقد يجد نفسه بعد الغروب وسط سوقٍ للماشيّة.

تتميّز رفراف بالجمع في توازن نادر بين الصّبغة الحضريّة والصّبغة الزّراعيّة فلا تكاد تغلب إحداها على الأخرى. ولعلّ التّوفيق بينهما يعود إلى تقاليد أندلسيّة صمدت في وجه تحوّلات الحياة الحديثة فلا تنافر عند أهل رفراف بين مهارتهم كمزارعين ينتجون أنواع الفواكه والأعناب (ومنها عنب «مسكي رفراف» ذو الشّهرة الواسعة وأنواع التّين المختلفة)، وبين حسّهم الحضريّ المرهف المُتجذّرِ في عادات جماعيّة عريقة، إضافة إلى تفوّق نسائهم في الحياكة والتّطريز حيث اشتهرن بتنوّع ألبستهنّ الأنيقة المشهود لها بالإتقان والجمال؛ وقِسْ على ذلك لُغَةُ التّخاطب بينهم ذات الجرس الحضريّ الناعم في اتّساقٍ مع إرثهم الحضاريّ العريق.

اللّباس النّسائي: تنوّع وأصالة

لا شكّ أنّ لباس المرأة التّقليدي المتوارث هو أشهر ما عُرفت به رفراف ولعلّها انفردت بين بلدات الشّمال بتعدّد نماذجه في خامات مختلفة وأشكال تطريز رائعة حتّى بات يضاهي في ثرائه وجودة صناعته أنماط اللّباس في المدن التّونسيّة الأكثر شهرة في هذا المجال؛ بل إنّ الأخصّائيين يؤكّدون أنّه يفوقها في تنوّعه تعدّد استعمالاته وإنّ من تلك النّماذج ما ينحدر رأسا من الأنماط الأندلسيّة الأصليّة، وتوجد منها قطع حريريّة بمتحف باردو وبالمركز الوطني للفنون والتّقاليد الشّعبيّة ـــ دار بن عبد اللّه، ممّا يشير إلى أنّ الحرير كان يُنسج إلى زمن غير بعيد في رفراف، غير أن تلك الصّناعة اندثرت اليوم. ومن القِطَعِ الأصيلة للّباس الرّفرافي، كسوات الجلوة وتُسمّى «جِبّة أشْطار» و «شوشانة وفَرْمْلَة بالقروش»،  وكسوات اليوم الثّالث للزّفاف مثل الــ»جِبّة صوف بالقروش» و « الموشّْمَة» وكسوة ليالي الحنّاء أو النّقشة المسمّاة «مْحَضّْنَة» واللّباس اليومي العادي المسمّى «سوريّة مبدوع» إضافة إلى طائفة من أغطية الرّأس والسّراويل  وجميع تلك القطع موشّاة بخيوط الحرير والذّهب والفضّة.

الأحياء الجديدة: حوار بين الأمس واليوم

منذ نحو ثلاثة عقود بدأت المدينة تنمو خارج حدودها القديمة  فظهرت تجمّعات سكنيّة ذات معمار يختلف في أسلوبه عن العمارة التّقليديّة ذات السّقوف المحنيّة (الدّمس) ويندرج ضمن تخطيط عمراني معاصر، كما أدّى تزايد الإقبال على السّياحة الصّيفيّة إلى نموّ أحياء جديدة على الشّريط السّاحلي بين منطقتي «ظهر عيّاد» و «الحماري». ولئن ابتعد المعمار الجديد عن لطّرز العتيقة إلاّ أنّه ظلّ محتفظا بحسّ جماليّ أصيل يتبدّى في الشّرفات الأنيقة واعتماد زخرفة معماريّة قوامها التّخاريم والزّخارف وفي طلائها بألوان تراوح بين البنّيّ والورديّ والسّكريّ ممّا يشي بميل إلى الأشكال المرهفة المذكّرة بالتّطريز.

السّياحة الثّقافيّة: أفضل رهان على المستقبل

رأينا أنّ رفراف قد حافظت على هويّة حضاريّة واضحة بفعل عوامل عدّة ، والمرجو أن لا تتلاشى عناصر تلك الهويّة في خضمّ سعيها اليوم إلى تطوير إمكاناتها استجابة لضرورات العصر. ومن الحكمة أن يُخْتًارَ لها  نموذج تنميّة متوازن يحافظ على روحها وتاريخها. ولا شكّ أنّ السّياحة تشكّل عنصرا هامّا من عناصر ذلك النّموذج شريطة أن يتّفق مع حجمها وخصوصياتها ؛ ولعلّ الأنسب لها أن تراهن على السّياحة البيئيّة ـــ الثقافيّة لانسجامها مع طبيعة الأرض والنّاس واكتفائها بحدّ أدنى من البنية التّحتيّة. فالحاجّة ماسّة إلى بناء ميناء صغير تلجأ إليه قوارب الصّيّادين وتنطلق منه الرّحلات إلى الجزر القريبة، وإلى بعث نوادٍ تُعنى بالرّحلات الجبليّة، وتشييد متحف للّباس التّقليدي ومسرح للهواء الطّلق وإلى إنشاء جمعيّة موسيقيّة وأخرى مسرحيّة ونشاطات أخرى تثري حياة البلدة وتؤهّلها لاستقبال الوافدين ممّن لا يكتفون بسياحة الشّواطئ ومتعها المادّيّة ويطلبون غذاء خيرا وأبقى.!.

علي اللواتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.