أدب وفنون - 2019.03.02

محمد إبراهيم الحصايري: في مــزايـا الــغــنـاء

محمد إبراهيم الحصايري: في مــزايـا الــغــنـاء

إنه لمن العجب العجاب حقّا ما يعجّ به هذا الكمّ الهائل من الفضائيات والمواقع والمدوّنات الدينية على الانترنت من فتاوى تتعلّق بالعديد من شؤون حياتنا اليومية، أرى أنّ الله ما أنزل بها من سلطان، وأنّها لا تزيد الناس إلاّ ارتباكا على ارتباك...

ولنأخذ مثالا على ذلك الفتاوى التي تحرّم الغناء على الإطلاق.

إنّني لا أريــد مــناقشـة هذه الفتاوى، ولا مجادلة أصحابها، وإنّما أريد فحسب دعوتهم إلى أن يقرؤوا معي في كتاب «الأغاني» هذا الخبر الطريف من أخبار المغنية جميلة التي كانت، حسب عبارة أبي الفرج الأصفهاني، أصلا من أصول الغناء في الحجاز، حتّى إنّ المغنّي معبدا الذي أخذ عنها الغناء كان يقول: «أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين».

فلقد قالت جميلة يوما لآذنتها: لا تحجبي عنّا أحـدا الــيوم، واقعدي بالباب، فكلّ من يمرّ بالباب فاعرضي عليه مجلسي، ففعلت ذلك حتّى غصّت الدار بالناس، فقالت جميلة: اصعدوا إلى العلالي، فصعدت جماعة حتّى امتلأت السطوح...

ولمّا تعالى النهار واشتدّ الحر استسقى الناس الماء فدعت لهم بالسويق... ثمّ قالت لهم: إنّي قد رأيت في منامي شيئا أفزعني وأرعبني، ولست أعرف ما سبب ذلك، وقد خفت أن يكون قرب أجلي وليس ينفعني إلاّ صالح عملي، وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربّي. فقال قوم منهم: وفقك الله وثبّت عزمك، وقال آخرون: بل لا حرج عليك في الغناء. غير أنّ شيخا، وصفه أبو الفرج، بأنّه كان ذا سنّ وعلم وفقه وتجربة، انبرى مخاطبا جميلة والحضور بمرافعة لطيفة المعاني عن الغناء، نقتطف منها الفقرة التالية: «فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عن الغناء لا للتحريم له، لكن للزهد في الدنيا، لأنّ الغناء من أكبر اللذات، وأسر للنفوس من جميع الشهوات، يحيي القلب، ويزيد في العقل، ويسرّ النفس، ويفسح في الرأي، ويتيسّر به العسير، وتفتح به الجيوش، ويذلّل به الجبّارون حتّى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه، ويبرئ المرضى ومن مات قلبه وعقله وبصره، ويزيد أهل الثروة غنى، وأهل الفقر قناعة ورضا باستماعه فيعزفون عن طلب الأموال. من تمسّك به كان عالما، ومن فارقه كان جاهلا، لأنّه لا منزلة أرفع، ولا شيء أحسن منه، فكيف يستصوب تركه ولا يستعان به على النشاط في عبادة ربّنا عزّ وجلّ؟».

ويضيف الخبر قائلا: «فما ردّ عليه أحد، ولا أنكر ذلك منهم بشر، وكلّ عاد بالخطإ على نفسه، وأقرّ بالحقّ له، ثمّ قال لجميلة: أوعيت ما قلت ووقع في نفسك ما ذكرت؟ قالت: أجل وأنا استغفر الله. قال لها: فاختمــي مجلســنا وفــرّقي جمــاعتنا بصوت فقط، فغنت:

أفي رســـــم دار دمــعـــك المــتـــرقـــرق

سـفــاها، ومـــا استنطاق ما ليس ينطـق؟

فقال الشيخ: حسن والله! أمثل هذا يترك! فيم يتشاهد الرجال! لا والله ولا كرامة لمن خالف الحقّ. ثمّ قام وقام الناس معه وقال: الحمد لله الذي لم يفرّق جماعتنا على اليأس من الغناء، ولا جحود لفضيلته، وسلام عليك ورحمة الله يا جميلة». (الأغاني، المجلد الثامن، ص 232 / 233/ 234، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان).

ولعلّ ما جاء على لسان الشيخ في خاتمة الخبر يغنيني عن التعليق، غير أنّ كلامه، فيما أرى، يفضح المفارقة الصارخة القائمة بين ما كان عليه وما آل إليه حال المسلمين، إذ بات بعضهم لا يتحرّج من استخدام أرقى وسائل ثورة تكنولوجيات الاتّصال في الترويج لفكر تحريمي سداه اليأس ولحمته الجحود.

محمد إبراهيم الحصايري

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.