الأستاذ أحمد عبد السّـلام (1922 - 2007): عـــالم جليل ورائـد مــؤسّس
من النّاس مَنْ يذيع صيته وتُطبّق شهرته الآفاق فإذا تفقّد المرء مآثره وأعماله وجد أصداءه أضخم من إنجازه وذكره أكبر من فعله جلبة ودويّا بلا طائل. ومن النّاس مَن تسمو به همّته إلى العمل والجهد زاهدا في الذّكر والتّنويه والإشادة مُعرضا عن التّباهي والتّبجّح تعفّفا وتنزّها وتواضعا ورصانة فإذا أعماله أعظم من أصدائه ومآثره أكبر من شهرته، وتلك شيم الكبار والعظماء. والأستاذ أحمد عبد السّلام من هذه الفئة الثّانية، فقد كان من أولئك الذّين أعطوا بسخاء وتفانوا دون انتظار جزاء وساهموا في بناء مجد البلاد الثّقافيّ والعلميّ وفي إرساء منظومة التّعليم العصريّ في تونس المستقلّة «بأمانة الصّدّيقين وصبر المجتهدين وتواضع المُريدين» كما قال في تصدير العدد الأوّل من حوليّات الجامعة التّونسيّة. وقد لا تتّسع هذه الصّفحات لإيفائه ما هو به جدير من تعريف وتكريم وهو الذّي امتدّ عطاؤه الفكريّ والعلميّ على مدى ستّين عاما كاملة أو تزيد، ولكن حسبنا أن نُجمل أهمّ مآثره في أربعة محاور أساسيّة:
1 - الرّيادة والتّأسيس
يُلاحظ المتتبّع لمسيرة الأستاذ أحمد عبد السّلام أنّ الرّجل قُيّض له أن يكون صاحب ريادة وتأسيس على أكثر من صعيد، فقد اضطلع بالدّور الأبرز في بعث دار المعلّمين العُليا صرحا للامتياز والتّفوّق فنظّم أقسامها ودروسها وتولّى إدارتها لعشريّة كاملة من 1956 إلى 1966.
ثمّ كان من مُؤسّسي الجامعة التّونسيّة سنة 1958 من موقع المسؤول الإداريّ إذ كان يجمع آنذاك بين رئاسة اللّجنة القوميّة للتّعليم في كتابة الدّولة للتّربية، وعلى رأسها محمود المسعدي، وإدارة دار المعلّمين العليا، ومن موقع المدرّس الباحث فقد كان كذلك من خيرة أساتذة تلك الدّار التّي ستنشأ حولها النّواة الأولى للتّعليم العالي في تونس المستقلّة. ولمّا كان مسكونا بهاجس التّأسيس والبناء فقد أسّس بعد ذلك بسنوات قليلة صحبة عدد من زملائه الرّوّاد أهمّ مجلّة علميّة أكاديميّة في تونس وهي «حوليّات الجامعة التّونسيّة» (1964) فكانت كما أرادها أداة تعبير واتّصال تُعاضد التّدريس في بثّ نتاج البحوث وتُعين الباحثين بتمكينهم من مخاطبة الزّميل البعيد ومحاورة مشاركهم في الاختصاص، مجلّة تُفضّل الرّويّة على الرّأي الفطير وعناء الدّرس وكدّه على بريق الخاطر العابر.وتشاء الأقدار أن تتواصل قصّته مع البعث والتّأسيس فعُهِد إليه في ثمانينات القرن الماضي بإنشاء المؤسّسة الوطنيّة للتّرجمة والتّحقيق والدّراسات (بيت الحكمة) فترأّسها من 1982 إلى 1987، فكانت انطلاقة مبشّرة وخصبة بما تهيّأ للمؤسّسة النّاشئة من إشعاع واسع بفضل وافر نشاطها وغزير نتاجها وتنوّع منشوراتها.
2 - الاهتمام بحضارة تونس وثقافتها
لا يعزب عن النّاظر في جملة أعمال الأستاذ أحمد عبد السّلام اهتمامه الواضح بحضارة البلاد التّونسيّة وثقافتها وأعلامها، ويتجلّى هذا الاهتمام في مستويات عديدة:
- فقد أنجز أطروحته لدكتورا الدّولة - وكان ناقشها بباريس سنة 1969 – حول المؤرّخين التّونسييّن في القرون 17 و18 و19 فكشف النّقاب عن كثير من الإخباريّين وأصحاب المصنّفات التّاريخيّة الذّين كانوا إلى ذلك العهد مجهولين مغمورين مثل المنتصر بن أبي لحية صاحب كتاب «نور الأرماش» أو محمّد قويسم مؤلّف «سمط اللّآل» أو أحمد برناز صاحب «شُهب مُحرقة» أو محمّد سعادة وكتابه «قرّة العين» وحسين خوجة صاحب «بشائر أهل الإيمان» وآخرين، فضلا عن مشاهير المؤرّخين من أمثال ابن أبي دينار والوزير السّرّاج وابن أبي الضّياف والباجي المسعودي وحمّودة بن عبد العزيز ومحمّد مقديش وآخرين.
- ثمّ إنّه أولى عناية خاصّة بابن خلدون معلما بارزا من معالم العبقريّة التّونسيّة وعلما من أعلام الفكر الإنسانيّ فوضع فيه الكتب والمقالات وحاضر في فلسفة التّاريخ عند ابن خلدون وفي نظريّته في العمران البشريّ. ولعلّ أشهر ما بقي من آثــار ذلك الاهتمام محاضراته في الكوليـــج دي فــرانس سنة 1982 حـول «ابن خلدون وقرّاؤه» باللّسان الفرنسيّ وقد نشرتها المطابع الجامعيّة الفـــرنسيّة (PUF) سنة 1983، ثمّ تُرجمت إلى الإسبانيّة ونُشرت بمكسيكو سنة 1987 كما تُرجم الكتاب إلى الإيطاليّة والإنجليزيّة.
- وفي هذا الإطار نفسه يتنزّل اهتمامه بالصّادقيّة قلعة من قلاع الحداثة التّونسيّة إذ ألّف فيها كتابه المعروف «المدرسة الصّادقيّة والصّادقيّون» وتولّى تعريبه بنفسه، ويأتي هذا الالتفات إلى الصّادقيّة باعتبارها المدرسة التّي تُمثّل الثّقافة التّونسيّة في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وهي ثقافة تُشبه ما تصوّره المُصلحون التّونسيّون في القرن 19.
- ومن وُجوه اهتمامه بحضارة تونس وثقافتها دراساته عن أحمد بن أبي الضّياف، فقد خصّه بكتاب مُفرد هو «ابن أبي الضّياف حياته ومنزلته ومنتخبات من آثاره» وحقّق الجزء الخامس من تاريخه «إتحاف أهل الزّمان» وحرّر فصل «ابن أبي الضّياف» بدائرة المعارف الإسلاميّة، بالإضافة إلى مقالين في حوليّات الجامعة التّونسيّة حول ترجمته ورسالته في المرأة.
3 - الجمع بين خصال العالِم وكفاءة المسؤول
لا شكّ في أنّ الأستاذ أحمد عبد السّلام يُمثّل أنموذج العالم الثّبت المُحقّق، فقد نقل عنه زملاؤه وطلبته حرصه الشّديد على التّحرّي والتّدقيق والتّثبّت واتّهام الظّنّ ولزومه في البحث الأناة والصّبر والنّزاهة والتّجرّد، كما أُثر عنه سعة اطّلاعه وعُمق معرفته بمجال اختصاصه وهو الدّراسات الحضاريّة والفكريّة الحديثة وحقول المعرفة المتّصلة به الملابسة له. وقد صاغ عقيدته البحثيّة والمعرفيّة في افتتاحيّة العدد الأوّل من الحوليّات عندما قال: «وإنّا نطمح إلى أن يكون الحقّ وحده صلة بيننا وبين البشر جميعهم، وقد التزمنا أن لا نُحاول الإقناع إلّا بعد الاقتناع وسلكنا طريق الاختبار الجدّيّ للمعاني والأشياء نواجهها بالصّبر ونُقلّبها في أناة وعزم ونتّهم حواسّنا وأهواءنا كما نتّهم غيرنا ...».
وهو قد عُرف إلى جانب ذلك بأناقة الأسلوب وصفاء العبارة في اللّغتين العربيّة والفرنسيّة، ففي لغة موليير حرّر أطروحته المُتقنة وكتابه عن الصّادقيّة ودروسه عن ابن خلدون وكثيرا من مقالاته المنشورة وفصوله العلميّة المُحكمة. وقد تجاوز إشعاعه العلميّ حدود البلاد التّونسيّة، إذ درّس بجامعة باريس (الصّوربون 4) أستاذا مُشاركا سنتي 1974 – 1975 وألقى دروسا بالكوليج دي فرانس أستاذا ضيفا سنة 1982 وحرّر فصولا بدائرة المعارف الإسلاميّة في التّعريف بعدد من الشّخصيّات التّونسيّة. ولكن، مع خصاله العلميّة النّادرة، عُهد إليه بمسؤوليّات إداريّة وبيداغوجيّة هامّة اضطلع بها على أحسن الوجوه، فكان نائبا لرئيس الجامعة بين 1962 و1968، والحقّ أنّه كان رئيسا فعليّا لها لأنّه لم يكن للجامعة رئيس طيلة تلك المدّة. وترأّس اللّجنة القوميّة لإصلاح التّعليم سنة 1958 سندا لمحمود المسعدي وعضدا فكانت أعمال تلك اللّحنة القاعدة المتينة التّي سيُقام عليها مشروع تعميم التّعليم وتعصيره الذّي سيكون له بالغ الأثر في حياة الأمّة كلّها. وكُلّف بعد ذلك برئاسة اللّجنة الثّقافيّة القوميّة بين 1959 و 1962 في زمن لم تكن للثّقافة وزارة أو كتابة دولة فكانت اللّجنة المذكورة بمثابة هيكل الإشراف على شؤون الثّقافة في البلاد. واختير عُضوا بالمجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ منذ تأسيسه ثمّ أصبح نائب رئيس به إلى سنة 1975. كلّ ذلك عطاء غير مجذوذ في سبيل المشاركة في بناء تونس مستقلّة وتوطيد أركان مؤسّساتها الجديدة.
4 - الشّغف الثّقافيّ والالتزام الاجتماعيّ
أبدى الأستاذ أحمد عبد السّلام منذ شبابه الباكر شغفا بالكتابة والنّشر والتّأليف فساهم في أبرز المجلّات الثّقافيّة التّونسيّة منذ أربعينات القرن الماضي، إذ ظهرت له مقالات عديدة بمجلّة «المباحث» التّي كان يُديرها الأستاذ محمود المسعدي – وقد التقيا في أكثر من مجال- ثمّ ساهم في مجلّة «الفكر» التّي التفّ حولها الكثير من أهل الثّقافة والفكر والأدب بعد الاستقلال، كما حرّر في مجلّة «النّدوة» ومجلّة «الحياة الثّقافيّة» وفي أبرز الصّحف التّونسيّة مثل «الصّباح» و«العمل» فكتب في قضايا اللّغة والشّعر والمسرح والأدب. وبالتّوازي مع ذلك كلّه كان له قدر عال من الوعي الوطنيّ والالتزام الاجتماعيّ فاضطلع قبل الاستقلال بمهامّ نقابيّة عديدة إذ تحمّل مسؤوليّة الكتابة العامّة للنّقابة القوميّة للتّعليم الثّانويّ بين 1949 و1953 وكاهية رئيس الجامعة القوميّة للتّعليم بين 1949 و1954 ثمّ أصبح رئيسا لها بين 1954 و1956، كما تولّى عضويّة الهيئة الإداريّة للاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل بين 1952 و1956.
ولئن غيّب الموت الأستاذ أحمد عبد السّلام في ماي 2007 فإنّ مآثره وإنجازاته ستظلّ خالدة لا تموت وميسم التّقاليد الأكاديميّة الذّي طبع به أجيالا من الطّلبة والباحثين سيظلّ إرثا نفيسا يتناقله أهل العلم والتّحصيل كابرا عن كابرٍ.
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق