فاطمة حداد الشامخ : أيقــونـة الــفــلســـفــة التـــونــسيـة
احتفلت الجامعة التونسية السنة الماضية بستينيتها وعلى هامش هذا الاحتفال لابدّ من تذكّر إحدى أبرز القامات التي أعطت الكثير لهذه الجامعة، تحديدا في مجال الفلسفة، وهي الراحلة فاطمة حداد الشامخ (1936 – 2013)، أوّل امرأة تُدرّس الفلسفة في تونس، تتلمذت وتخرّجت على يدها أجيال من الطلبة وأساتذة الفلسفة التونسيين.
نشأت فاطمة حداد في بيئة برجوازية وطنية تؤمن بحظوظ المرأة وحقّها في التعليم. تلقّت تعليمها في معهد نهج روسيا، حيث كانت تقريبا المسلمة الوحيدة في فصلها. بعد حصولها على الباكالوريا، لم تمانع عائلتها في أن تواصل تعليمها العالي في فرنسا، خاصّة وأنّ اثنين من أشقّائها كانوا يدرسون هناك. سجّلت بجامعة فرنسية في قسم الفلسفة وحيث تحصّلت على الأستاذية في الفلسفة وكذلك على الأستاذية في الآداب واللغة الإنجليزية. مكّنتها هذه التجربة من التتلمذ على أيدي كبار الفلاسفة الفرنسيين ومنهم بول ريكور وخلال تلك الفترة، تقدّمت لمناظرة التبريز في الفلسفة، لتصبح أوّل امرأة مبرّزة في تونس في هذا المجال.
علاوة على ولعها بالعلم، كان لدى فاطمة حداد حسّ وطني عميق، دفعها إلى المشاركة في التظاهرات ضدّ المستعمر وهي بعد تلميذة في تونس، وإلى حضور بعض الاجتماعات التي كان يعقدها الحزب الدستوري في المساجد. انتمت في ذلك الوقت إلى الاتحاد العام لطلبة تونس الذي واصلت النشاط ضمنه، وهي طالبة في باريس، حيث أصبحت نائبة رئيس، كما أنّها صارت عضوا في الخليّة المحلية للحزب الدستوري الجديد في فرنسا.
عملت عند عودتها إلى تونس، في بعض المعاهد الثانوية قبل أن تبدأ التدريس بالجامعة التونسية وتحديدا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية 9 أفريل. هناك ترأّست قسم الفلسفة، كما عملت على مدى 40 سنة، أشرفت خلالها على عديد البحوث ورسائل الدكتوراه.
كانت فاطمة حداد الشامخ ترى في تدريس الفلسفة في الجامعة رسالة مقدّسة وكانت تعتبر أنّ «البيداغوجيا هي فنّ تكوين أدمغة قادرة على الوصول إلى فهم الذات الفلسفية والسياسية»، كما أنّ «البيداغوجية الناجعة» من وجهة نظرها، هي «تلك التي تجعل الطلبة يجدون طريقهم نحو الحكمة ليغيّروا الواقع الذي يعيشون فيه، حتّي يستطيعوا التأثير فيه»، حسب ما تورده نجاة العبيدي في مقالها حول الفقيدة، في جريدة لابراس (بتاريخ 8 - 3 - 2011). لذلك لم تدّخر جهدا في تكوين طلبتها وصقل مهاراتهم ودفعهم إلى التساؤل حول حياتهم ومجتمعهم وتنمية الفكر النقدي لديهم. هذا ما اعترف لها به أحد طلبتها، سِنان العزابي، في مقال نشره بجريدة الشعب بتاريخ 5 – 6 – 2010، بقوله: «السيدة فاطمة حدّاد الشامخ، كثيرون لا يعرفون هذا الاسم، لكنّ كثيرين أيضا لا يستطيعون نسيان علم شامخ تخرّجت على يديه أجيالٌ من قادة الفكر والسياسة والرأي لا في تونس فحسب بل حتّى خارجها». ويضيف: « لعلّ عشقها للتفلسف الذي أعطته كلّ حياتها يعترف لها الآن وغدا أنّ الطريق الى التفلسف هو الطريق إليها باعتبارها رمزًا وأيقونة له».
رائدة البحوث السبينوزية في الجامعة التونسية
علاوة على التدريس، كانت فاطمة حداد غزيرة الإنتاج، حيث كتبت كمّا هائلا من الدراسات والمقالات العلمية، باللغتين الفرنسية والإنجليزية، لكنّها كانت تميل بشكل خاصّ إلى فلسفة سبينوزا، حيث كانت رائدة البحوث السبينوزية في الجامعة التونسية. فرسالة الدكتوراه التي أنجزتها تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي بول ريكور كان عنوانها: « الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السياسية عند سبينوزا».
حسب الباحث جلال الدين سعيّد، الذي كان له الفضل في ترجمة هذه الرسالة القيّمة من الفرنسية إلى العربية، فإنّ «الفيلسوفة أرادت، بفضل قراءة جديدة ومقاربة لم تكن بعدُ مألوفة، إعادة موضعة أنثروبولوجيا سبينوزا وسياسته ضمن نسقهما العام، وأن تبيّن كيف أنّهما، بدلا من أن تنفصلا عنه أو أن تحلاّ فيه محلّ التذييل، تندمجان فيه وتؤلّفان عنصرا من عناصره الهيكلية. فهي أرادت أن تنطلق من فرضية أنّ السبينوزية، بعيدا عن أن تكون مجرّد «ثيوصوفيا»، إنّما هي أيضا مذهب أنثروبولوجي وسياسي. ولقد كان غرضها من خلال تقصّيها لمذهب سبينوزا هو أن تنزّل ضمنه مبحثه السياسي، كي تبيّن أنّ المشروع السياسي ليس ثانويا أو عرضيا بقدر ما ينصهر في النواة المركزية (الإيتيقا)، حتّى وإن كان الخطاب السياسي يُطرح في كتابات جانبية (الرسالة اللاهوتية السياسية،والرسالة السياسية).» ويضيف سعيّد: « عموما، فإنّها أرادت أن تتطلّع إلى ما تكشف عنه النصوص، وإلى الإنجاز الفعلي للمذهب كما إلى بنية النّسق برمّته : أي أن تتطلّع إلى وجود نسقٍ فلسفيٍّ سياسيٍّ عند سبينوزا. وعلى هذا فهي قد دأبت على اقتفاء خطوات سبينوزا وعلى ربط الفلسفة السياسية عنـده بنسقه الفلسفي، فــكــان لا بدّ لها من خطّة عمل تمثّلت في البحث عن أسس الفلسفة السياسية في الإيتيقا، وعن مبادئها في الرسالة اللاهوتية السياسية، وعن مقولاتها في الرسالة السياسية».
بفضل هذا العمل ذاع صيتها في تونس وخارجها وتمّت دعوتها لإلقاء محاضراتها في عديد الملتقيات العلمية. كما أصبحت تُدرّس في جامعات أوروبية وإفريقية مثل جامعة السينيغال كأستاذة محاضرة.
العمل السياسي والنضال لمناصرة قضايا المرأة
إلى جانب التدريس وإنتاج البحوث في الجامعة، كان للفيلسوفة نشاط سياسي ضمن لجنة تنسيق الحزب الاشتراكي الدستوري واللجنة المركزية للاتحاد الوطني للمرأة ( 1966 – 1972). وكانت قضايا المرأة التونسية والنهوض بها شغلها الشاغل، لذلك ناضلت ضمن جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية وكذلك في مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة (الكريديف). وبعيدا عن النضال النسوي والسياسي، كانت الفيلسوفة الراحلة أيضا عضوا في اللجنة الوطنية للأخلاقيات الطبية.
ويدلّ تعدّد الأنشطة العلمية والسياسية والجمعياتية، على أنّ فاطمة حداد الشامخ كات لها رؤية شمولية لمشاركتها في نهضة بلدها وازدهاره، وأنّها لم تكن تتردّد في خدمته من أيّ موقع كانت تشغله. وهي سمة مميّزة لجيل كامل من النساء والرجال الذين عرفوا الاستعمار، ثمّ الحركة الوطنية، والاستقلال وما طرحه على التونسيين والتونسيات من تحدّيات لبناء بلد ناشئ يحتاج إلى كلّ طاقاته وأبنائه ليجد له مكانا تحت الشمس.
كانت فاطمة حداد ترى أنّ نضالها يندرج ضمن المشروع الحداثي البورقيبي، الذي آمنت به منذ الحقبة الاستعمارية، حيث رأت في بورقيبة القائد القادر على تخليص الأمّة وتحريرها والنهوض بها. فبورقيبة، حسب شهادة نجاة العبيدي، كان أحد الرجال الثلاثة الذين أثّروا في مسيرتها، بالإضافة إلى والدها منّوبي الشامخ ومعلّمها، الفيلسوف بول ريكور.
اليوم وقد رحلت، تركت فاطمة حداد الشامخ إرثا مهمّا من البحوث الفلسفية باللغتين الفرنسية والإنجليزية. ويبذل حاليا جهد لترجمة إنتاجها إلى اللغة العربية لينتفع به المزيد من الطلبة والباحثين في تونس والعالم العربي. وقد تمّ نشر كتاب سنة 2007 تكريما لها بعنوان «التفلسف اليوم وهنا»، جُمعت فيه بعض نصوصها من قبل محمد محجوب. وتبقى هذه الفيلسوفة مثالا يُحتذى به، حيث «يَشهد لها الجميع ولا يزال بنجاح أسلوبها في التدريس وصرامتها في التعامل مع النصوص الفلسفية، كما بسعة ثقافتها ومدى اطّلاعهاعلى الفلسفة الأنجلو- سكسونية، فضلا عن الفلسفة القارّية والفلسفة الإسلامية والفلسفة الإفريقية»، كما يقول عنها جلال الدين سعيّد.
(*) «فاطمة حداد الشامخ» مقال لجلال الدين سعيّد، منشور في الموسوعة التونسية المفتوحة.
حنان الأندلسي
- اكتب تعليق
- تعليق