فيلـم أنجـزه الواقــع »لقشـة مـن الـدنــيا«
بعيدا عن الطابع الإعلامي والتعليمي للفيلم الوثائقي الذي يسعى من خلاله المخرج إلى تقديم حجج وبراهين عقلانية ومعرفية لمسألة أو قضية محدّدة بطريقة موضوعية ومبسّطة، حاول «نصر الدين السهيلي» من خلال هذا العمل أن يبحث عن الحقائق والأدلّة التي طمست معالمها ومحت آثارها بعد أن قرّر التوغّل في دهاليز عميقة ومخيفة ليكشف عن فئة من المجتمع، نألفها لأنّها تعيش بيننا ولكنّها غريبة وغير مرئية، اختارت أن تستوطن عوالم سفلية بعيدة الآماد والآفاق والأغوار.
نتحدّث هنا عن «مدمني المخدّرات»!
رعب نفسي مليء بالصوّر الصادمة
لا تستطيع ان تبقى صامتاً ومحايداً أمام الكمّ الهائل من مشاهد الوجع والألم والعجز والجوع والاحتياج، الذي يصوّره فيلم نصرالدين السهيلي بصدق عميق وبأسلوب مؤثّر وعفوي دون أن يسقط في فخّ التهويل والمبالغة في ملامسة واقع شديد البؤس والقسوة.
بين اليأس والفقر والأحلام المغتربة الضائعة، تخترق الكاميرا عالم الإدمان وتلاحق ثلاث شخصيات رئيسية (رزوقة وفانتا أساسا وصديقهما الناقة) وترصد تفاصيل حياتهم اليومية المضنية، دون أن يؤثّر ذلك على مجرى الأحداث، ليقتصر دورها على التسجيل والتوثيق دون تحليل أو تعليل. شخصيات اختارت أن تعيش بأسماء مستعارة خوفا من المواجهة وهربا من كلّ رقيب وحسيب، اتّخذت من الخراب فناء سَرْمَدِيّاً وامتطت ظلمات الليل بعيداً عن التلصّص وأعين الفضوليين، في دلالة واضحة على قطيعة مع الزمن والمحيط الاجتماعي والثقافي الذي تعيش فيه.
الفيلم ينضوي تحت لواء السينما الوثائقية التسجيلية، إذ اعتمد مخرج العمل على أسلوب «السينما المباشرة» أو بما يعرف بمصطلـــح «السينمـــا الحـــقـــيقيـــة» (cinéma direct) الذي يهدف إلى الوصول إلى أقصـــى درجـــة ممكنة من التلقائية والموضوعية باستخدام وسائل تقنية بسيطة لنقل الصورة فحسب، حيث كانت الكاميرا محمولة ومهتزّة وتتحرّك بحسب طبيعة الموضوع وتنقل الحقائق كما وقعت دون تغيير أو تعديل.
خمس سنوات من التصوير المتقطّع والمزاجي تمّ اختزالها، خلال عملية توليف الصورة، في 100 دقيقة، كانت كافية لتقحم المشاهد في حلقة مفرغة من مشاهد العنف والشجار والضرب المبرح والخنق وتواتر صور الدماء والقيء… بنسق يترجم الحالة المزاجيّة والانفعالية لشخصيات جعلت من إدمان المخدّرات وشرب الخمر ملاذها الأوّل والأخير، علاوة على البذاءة اللفظية والسلوكية التي تصدم المشاهد نتيجة الكمّ الهائل من الكلمات المبتذلة والألفاظ النابية والعبارات السوقية التي أثّثت كامل الشريط الصوتي للفيلم، والتي تعكس بصدق طبيعة الشخصيات وتعبّر عن حالة الغيبوبة الأخلاقية التي تعيش فيها.
وفي خضمّ هذه الهستيريا النفسية المليئة بالتوتّر والخوف والعنف، كان المخرج متبلِّد الإحساس غير مكترث بما يحدث أمام عدسة الكاميرا، يرصد الأحداث من خارج حقل الصورة ويفسح المجال للارتجال والتعبير الذاتي لشخصياته التي تطاردها الهلوسات والهواجس السوداء نتيجة السموم التي تتعاطاها.
بين عتمة الواقع وقتامة عالم الإدمان
لا يمكن التعامل سينمائيا مع الواقع بطريقة كلاسيكية نظرا لما قد يحمله من مفاجآت ومواقف تظهر وتستجد بصفة غير متوقّعة ولا يمكن التحكّم فيها، لذلك اختار مخرج العمل التخلّي عن السيناريو التقليدي بشكله التفصيلي وعدم التعويل على خطّة تصوير منظّمة ومرتّبة حتّى لا تخضع فكرة الفيلم لمقاييس فنية نموذجية ولمعايير جمالية أو تقنية محدّدة.
الفيلم أعطى صورة واضحة المعالم عن حياة المدمنين، ارتبطت بشخصيات مركّبة ومعقّدة لا تتوافق مع ذاتها ومحيطها وتتصرّف بتلقائية وعفوية شديدة متجرّدة ومتحرّرة من أيّة ضوابط أو حدود.
دون مقدّمات مملّة قدّم المخرج علاقة صداقة مفعمة بالرومانسية، يغلب عليها طابع المواجهة، بين «رزوقة» المتسلّط والمتغطرس و»فانتا» الضعيف والعاجز، الذي لم يتردّد في الاعتراف بحقيقة مشاعره وأحاسيسه أمام الكاميرا ليعبّر عن حبّه لصديقه «رزوقة» الذي كان يعنّفه باستمرار حتّى يثنيه عن تعاطي المخدرات والاستغناء عنها نهائيا بعد أن زجّ به هذا الأخير في متاهة الإدمان. وتزداد معاناة «فانتا» بعد أن اكتشف أنّه مصاب بالتهاب الكبد الفيروسي، مثله مثل صديقهم «الناقة» الحامل بدوره لنفس المرض، في إشارة إلى استفحال ظاهرة الإدمان على المخدّرات في الأحياء الشعبية والفقيرة. ورغم العلاقة المتشنّجة بين جميع الأطراف إلاّ أنّ رزوقة حاول مساعدة أصدقائه بعد أن اصطحبهم في رحلة علاجيّة باءت هي الأخرى بالفشل، لينتهي الفيلم على مشهد معبّر جدّاً استسلم فيه «فانتا» لعالم المخدّرات وأعلن تمرّده على صديقه وعلى الحياة بالتبوّل على عتبة مسكنه الرثّ وهو يشهج بالبكاء، قبل أن يغادره نحو المجهول.
فيلم لقشة من الدنيا هو رسالة غاضبة ضدّ كلّ من يختزل هذه الحالات المرضيّة في تصنيف اجتماعي فجّ، يضع المدمنين في خانة المنحرفين والمهمّشين والمجرمين ودعاة العنف والشواذ، بينما في حقيقة الأمر هم يعيشون في حالة من الاغتراب الاجتماعي والعزلة والتشيّؤ (Réification) دون ضوابط ومقاييس يحتكمون إليها بعد أن لفظهم المجتمع وعصفت بهم الأقدار وحوّلتهم إلى «أموات أحياء» في أوطانهم، حيث لا جذور تربطهم بأنفسهم أو بواقعهم يتخبّطون في الحياة بلا هدى ويتحوّلون إلى رهائن لتعاطي المخدّرات في نزعة تدميرية وعدوان موجّه نحو الذات. فيلم غير مبهج قدّم لنا صورة ملوّثة بالعنف والإدمان تخلّلتها ردهات صادقة من الحب والمودّة، حاول من خلاله المخرج ملامسة المسكوت عنه والخوض في فضاءات المجهول بعد أن تعـدّى حدود السينما التي عهدناها على مدى عقود، ليدفع بالمشاهد في مواجهة صعبة مع واقع أليم بعيد عن أيّ شكل من أشكال الحيــاة التي خبـــرنــاهــا وألفناها وقرّرنا عدم الاصطدام به بدافـــع الأنانية واللامبالاة، عوض البحث بداخلنا عن مواطن الضعف فيها حتّى نستدرك الأمر قبل أن يستفحل، وتعمّ الفوضى، من خلال رؤية ثاقبة وقــراءة متبصّــرة للواقـــع بــدلا من أن نغضّ بصرنا عنه.
محمّد ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق