بيت الحكمة: لقاء فكري حول تحقيق الأستاذ شبّوح لكتاب العبر لابن خلدون
"أدخلت ابن خلدون إلى حضيرة المؤرخين بعد أن انتزعه علماء السياسة والاجتماع" هكذا عرّف الأستاذ إبراهيم شبوح الطبعة التي حقّقها حول كتاب العبر للعلامة ابن خلدون، ونظّم حولها المجمع التونسي "بيت الحكمة" يوم الخميس 24جانفي 2019 لقاء للتعريف بمحتواها، ويعدّ هذا التحقيق حدثا في حد ذاته بلغة رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، حيث أشرف الأستاذ عبد المجيد الشرفي على أمسيّة فكريّة قدّم خلالها المحقّق عديد التفاصيل حول الوثائق والمصادر التي اعتمدها والزيارات التي قام بها لإنجاز الأثر.
لم تكن مسيرة مؤسّس علم العمران البشري كما يسميه عديد النقّاد سوى مسارات محن بناء على جرأة مواقفه وعمق بحوثه على غرار كل الفلاسفة والعلماء لأنّ التركيبة الجينية للجهلة ضدّهم بطبعها وحاقدة على سلطتهم الرمزيّة، ففي هذا الإطار أبرز المؤرّخان إبراهيم شبوح وأحمد مشارك حجم صدام الفكر الخلدوني مع المحيطين به.
لقد ركّز الأستاذ شبوح على أبرز الحملات التي استهدفت صاحب المقدمة، إن كان ذلك في المغرب " حيث سجن نتيجة لمواقفه السياسيّة" إذ شارك في جلّ الحركات السياسيّة وتحرّكات القبائل، أو في تونس التي تميّزت إقامته فيها بمحن المؤامرات، فاستثمر أعداء فكره إسهاماته السياسيّة في المغرب دافعين بالأمير أبي العباس الحفصي إلى تشديد الرقابة على حركاته وسكناته بحجّة "خطورته على ملكه" مردّدين شعار "هذا الرجل خطير يهدّد ملكك" . لذلك أرغم مؤلّف العبر على الرحيل نحو مصر عبر سفينة شدّت الرحال من قمرت باتجاه المشرق العربي متحجّجا بالرغبة في الحجّ، لكن لعنة المؤامرات لاحقته وفقا للأستاذ إبراهيم شبوح إلى هناك تشكيكا في مشروعية تعيينه قاضيا والمكانة التي حظي بها من قبل السلطان برقوق.
لئن نجحت تلك المحن التي تناولتها الطبعة بدقّة في صناعة انكسارات نفسيّة وجراحات لا تندمل، إلاّ أنّها لم تنجح في إرباك النهم المعرفي الخلدوني، إذ خصّص إقامته المغاربيّة لكتابة مؤلّفه العبر الذي بدأه حسب المحقّق بمنطقة قريبة من مدينة وهران الجزائريّة مقضيا أربع سنوات "لا يصنع سوى إعداد هذا الكتاب" المشخّص لتاريخ الإسلام والعرب وخاصّة البربر.
وقد قدّم في هذا السياق الباحث في التاريخ القديم أحمد مشارك مداخلة حول إلمام ابن خلدون بقيم البرابرة وطقوسهم ومفرداتهم، موضّحا في خاتمة مداخلته القيمة العلميّة للطبعة التي حقّقها إبراهيم شبوح، فهي طبعة شاملة تشدّد على أنّ المقدمة ذات العلاقة بعلم العمران البشري "لم تكتب في البدء كما يشاع بل أنجزت لاحقا" كما ورد في قول صاحب الطبعة . ومن أهم مكاسب الإقامة بمصر وفقا للأستاذ إبراهيم شبوح الاهتمام الخلدوني بالعجم ليكون بذلك كتاب العبر قد نشأ بربريا وانتهى عجميا أي اهتم في البداية بقضايا سياسية واجتماعيّة وقيمية للعرب والمسلمين والبرابرة ثم تناول لاحقا تلك الإشكالات لدى العجم، وبقطع النظر عمّا جاء من مضامين في هذه الطبعة، تظل مؤسّساتنا البحثية بحاجة إلى مثل هذه البحوث حول أحد أهم رموزنا العلميّة، التي شغلت كل المدارس العالميّة، ألم يقل عنه أحد السوسيولوجيين الإيطاليين "كان يفكّر في القرن الرابع عشر بعقل أعدّ للقرن العشرين"؟ أليست عقول القرن الحادي والعشرين التي تفكّر بعقول القرون الوسيطة بحاجة إلى هذه الأعمال كي تمارس دربة الخروج من كهوف العتمة علّها تلتحق بسفينة التاريخ؟
- اكتب تعليق
- تعليق