ثقافة - 2018.12.30

فـــيـلم «في عــيــنــيا» صـرخـة اسـتــهـجان ضــدّ التـــمييـــز ونــبــذ الآخــــر (فيديو)

فـــيـلم «في عــيــنــيا» صـرخـة اسـتــهـجان ضــدّ التـــمييـــز ونــبــذ الآخــــر

عندما ترصد الكاميرا المسكوت عنه وتتوغّل بنا في أعماق الأشياء بغية اكتشاف جوهر الحياة الباطنية والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، تثار أسئلة كثيرة حول علاقة السينما بالواقع وقدرتها على خلق صورة سينمائية تعكس الحقيقة وتقدّم رؤى فكرية جديدة ومجازا بصريّا صادقا تشتبك فيه جميع التعابير الفنية والإبداعية للكاتب والمخرج والممثل، مثلما هو الحال في الفيلم الروائي الطويل «في عينيا» للمخرج نجيب بلقاضي.

رؤية سينمائية استثنائية

قليلة هي الأفلام التونسية التي تتناول مواضيع حسّاسة في علاقة بالأمراض النفسية الشائعة اليوم ومدى تداعياتها السلبية على الأسرة والمجتمع ككلّ... فيلم «في عينيا» يخرج عن المألوف في السينما التونسية بطرحه موضوعا جديدا يغوص بنا في أعماق مرض التوحّد ويضعنا أمام نقاش جديّ ومسؤول حول حقيقة بديهية يتجاهلها الكثير منّا للأسف، تتعلّق بالمعاناة الصامتة للمصاب بهذا المرض وما تكابده العائلات من المشاقّ ومن كل ضروب الألم.

نجيب بالقاضي، مخرج العمل، استوحى فكرة الفيلم من خلال مجموعة صوّر للمصوّر الفوتوغرافي الأمريكي «تيموثي ارشيبالد» التقطها ليوثّق من خلالها سلوك ابنه التوحّدي، في محاولة منه لبناء جسور التواصل مع هذا الأخير من خلال الصّورة. تقارب لمسناه في الفيلم من خلال شخصية الأب لطفي (نضال السعدي) مع ابنه يوسف (إدريس الخروبي) المصاب بمرض التوحّد، عندما كان هذا الأخير يتطلّع طيلة الفيلم وبإصرار كبير إلى التواصل مع ابنه بشتّى الطرق من خلال تسجيل حركاته وسكناته ورصد إشاراته عبر عدسة الكاميرا التي اقتناها لهذا الغرض ، ليتمكّن في نهاية الأمر، وبمحض الصدفة، من إيجاد طريقة بسيطة وطريفة مكّنته من ربط اتصال بصري مباشر مع ابنه وشدّ انتباهه بالاستعانة بمصباحين صغيرين وضعهما قرب عينيه، بعد أن أبدى يوسف انبهارا شديدًا بمصابيح كهربائية ملونّة كان قد علّقها والده في غرفته.

مجرّد حيلة ماهرة كانت وراء لحظة مفصليّة في الفيلم، تمكّن فيها الأب من تجاوز وسائل التعبير التقليدية بإيجاد لغة صامتة ومحايدة مكّنته من فكّ رموز شفرة التواصل مع ابنه، وقطع فيها مخرج العمل مع الرؤية الكلاسيكية للدراما التي تعتمد على إذكاء الأحاسيس وتأجيج العواطف، بتوخّي سبيل المبالغة في تصوير الانفعالات البشرية لاستثارة مشاعر المشاهد واقتحامه عاطفيا.

الفيلم يقدّم رؤية مغايرة لواقع الحياة البشرية والتجربة الإنسانية وما تحمله معها من تناقضات وتباينات كثيرة نقبلها دون تمحيص وتدقيق وفق قناعتنا الذاتية ودوافعنا الغريزية. ومن خلال قراءة هادئة لما بين سطور الحبكة السردية يتبيّن لنا أنّ المخرج تجاوز تعرية وتحليل علاقة التعامل والتعاطي الإنساني مع مرضى التوحّد، ليكشف لنا عن سلوك تمييزي قائم على رﻓﺾ اﻵﺧﺮ ونبذ المختلف عنّا فكراً ومذهباً ومعتقداً، وحتّى المصاب بمرض عضال كما هو الحال في فيلم «في عينيا». وبما أنّ المواقف والسلوكيات تختلف من شخص لآخر فإنّ مخرج العمل حاول أن يبرز هذا التباين من خلال شخصيات فيلمه المتناقضة والمركّبة، التي اختلفت طريقة تعاملها وردود أفعالها مع وضعيّة يوسف الطفل التوحّدي ذي السلوك الفوضوي والتقلّبات المزاجية.

هذه الوضعية الاستثنائية لم يتقبّلها «لطفي» والد «يوسف» في البداية، وخيّر الهجرة نحو فرنسا تاركا وراءه طفلا يتألّم، ليجبر فيما بعد على العودة بعد أن تعرّضت زوجته إلى جلطة دماغية مفاجئة واضطرّت «خديجة» (سوسن معالج) إلى العناية بابن أختها، حيث لم تستسلم هذه الأخيرة في الدفاع عن قناعتها بأنّ الطفل التوحّدي يحتاج إلى رعاية خاصّة وفائقة واستماتت في تبرير وشرح موقفها للأب الذي لم يتقبّل اختلاف ابنه ولم يكبح جماح توتّره أمام هذه الحالة رافضا مبدأ الالتجاء إلى الطبّ النفسي وإلى المراكز المختصّة. جدّة يوسف (منى نور الدين) بدورها لم تقتنع بأنّ حفيدها حالة مرضية خاصّة ولم تتردّد في نعته بالمجنون والمعتوه وشـدّدت على ضرورة نفيه في مستشفى للأمراض العقلية، أمّا عمّه «سليم» (عزيز الجبالي) فكان يتعامل معه من باب الشفقة والرأفة لما يَعْتَوِرُه من نقص وقصور، في حين لم تتردّد المعينة المنزليّة، التي استعان بها الأب للعناية بابنه، في إحضار تميمة ظنّا منها أنها تدفع العين وتحمي من الأرواح الشّرّيرة.

على إيقاع المعاناة النفسية والإنسانية التي تستنطق الواقع الاجتماعي بسخرية مريرة وبلغة سينمائية رفيعة يفهمها المتفرج دون لبس، حاول مخرج العمل عبر هذا الإطار التخيّلي أن يخترق حاجز الصمت الذي اكتنف المواضيع المحظورة والحسّاسة، حيث عرّج على ظاهرتي المعاشرة دون زواج رسمي وإقامة علاقات جنسيّة عابرة، بالإضافة إلى طرح مشكلة الاغتراب الثقافي والفكري في إشارة إلى ابتعاد الفرد عن الثقافة الخاصة بمجتمعه ومخالفة المعايير التي تضـبط السلوك الاجتماعي.

من الناحية الفنيّة والجماليّة، حاول مخرج العمل محاكاة الواقع من خلال شريط صوتي مزعج ومربك تميّز بدرجة تواتر صوتي حادّ وجافّ، حيث تركت الموسيقى التصويرية مساحة هامّة لصراخ وبكاء الطفل يوسف، الذي قدّم أداءً استثنائياً ومتميّزا يعكس حنكة المخرج في تطويع إمكانيات الممثّلين، فقد تلاعب نجيب بلقاضي أيضا بالزمن التخيّلي من خلال توظيف متجدّد لتقنية «الاسترجاع الفنّي» (flash-back) واستدعاء الماضي في الحاضر عن طريق لقطات صوّرت بالهاتف الجوّال وبكاميرا هاوية.  وعلى غير العادة، شكّلت نهاية الفيلم نقطة محورية في التدرّج السردي، إذ قطع المخرج مع النهاية الكلاسيكية ولم يترك الأحداث مفتوحة لتأويلات ذاتية، بل اختار أن يمرّر رسالة واضحة بعد أن قام يوسف بتناول الكاميرا وتصوير والده وهو نائم، في إشارة واضحة إلى ضرورة أن نرى الأشياء كما هي ومن منظور معاكس حتى نستوعب الواقع وندرك ما يحدث من حولنا.

فيلم «في عينيا» يقدّم رؤية درامية صادمة، ولكنّها ضرورية وتتطلّب مشاهدة فاحصة متأنّية، لوضعية الطفل التوحّدي وأسرته والمعاناة التي يمرّون بها، وفي نفس الوقت يقدّم مقاربة نقدية وتحليلية لحالة انفصام اجتماعي يصعب فهمها أو استساغها، لمجتمع لايزال يستهجن الاختلاف والفروق ويستحسن التجانس والامتثالية (conformisme).

محمّد ناظم الوسلاتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.