الممــيّزات المهملة للتشغيل والشغل
ضمن الجزء التاســع مـــن المجلّد المنشـــور من طرف المعهد الوطني للإحصاء والمتعلّق بنتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2014 معلومات هامّة ودقيقة حول تطوّر الخصائص الاقتصادية للسكان كنسب النشاط حســـب الفئـــة العمرية والجنس والمشغّلـــين حســـب الجنــس والقطاع الاقتصادي والمرتبة في المهنة والبطالة حسب الجنس ومستوى التعليم ومدّته إلى غير ذلك من المعلومات الديمغرافية التي يجب استحضارها عند وضع أي خطة وطنية لتنمية التشغيل والحدّ من البطالة. ولقد سبق وأن نُشرت في السابق تحاليل كثيرة تتّصل ببعض الخصائص الاقتصادية المتداولة.
ويسلّط هذا المقال الضوء على بعض الخصائص المغمورة نسبيا رغم أنّها تلعب دورا هامّا في فهم إشكالية التشغيل والبطالة كتوزيع السكان المشغّلين حسب القطاع الاقتصادي وحسب نوعية عقد الشغل أو حســـب الوضعية في المهنة لأنّ هذه المعطيات تفنّد بعض المعتقدات والتصوّرات التي تـــدور في أذهان الكثير من المسؤولين وغير المسؤولين.
الميزة الأولى: شهدت تونس منذ الاستقلال تطوّرا كبيرا في زيادة اليد العاملة المشغّلة يتناسب مع تطوّر عدد السكان الذين هم في سنّ النشاط من جهة ويتناسب مع صيرورة التنمية وما تفرضه هذه الصيرورة من توزيع السكان المشغلّين حسب القطاع الاقتصادي من جهة أخرى. من ذلك التناقص المستمرّ في عدد ونسبة السكّان المشغّلين في قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري ولقد استفاد من هذا التطوّر في مرحلة أولى القطاع الصناعي ثمّ أساسا قطاع الخدمات حيث نلاحظ استقرار نسبة السكان المشغّلين في الصناعة في حدود الثلث تقريبا وبلوغ نسبة السكان المشغلين في قطاع الخدمات 55 بالمائة من مجمل السكان المشغلين في حين تقهقرت نسبة السكان المشغّلين في قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري إلى 10.5 بالمائة فقط في سنة 2014 عوضا عن 39 بالمائة في سنة 1975.
تطــوّر تـوزيــع السكــان المــشــغـّليـــن حسـب القـطاعـات الاقتــصـاديـة
ويدلّ هذا الجدول الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء أنّ عدد السكان المشغّلين في قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري في تراجع مستمر منذ 1994 إذ بلغ 345 ألفا في سنة 2014 عوضا عن 461 ألفا في سنة 2004 وما يقارب نصف المليون في سنة 1994. ويترجم هذا التطوّر دخول البلاد في مرحلة مرّت منها كلّ البلدان المصنّعة أو السائرة في طريق التصنيع والمتمثّل في نقصان عدد السكان المشغّلين في القطاع الفلاحي ( في نسب متفاوتة طبعا وفي آجال مختلفة) ونستطيع حينئذ أن نقول إنّ قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري سيشهد مستقبلا عدّة تغيّرات تمسّ آلة الإنتاج ونوعيتة واليد العاملة إلى غير ذلك من العوامل ولكنّها لن تمسّ بالمنحى العام المتمثّل في استقرار أو تراجع العدد الجملي للسكّان المشغّلين في القطاع.
الميزة الثانية: بلغت نسبة الأجراء ما يقارب 79 بالمائة من مجمل السكان المشغّلين في سنة 2014 عوضا عن 60 بالمائة في سنة 1975 وبالمقابل انخفضت نسبة الأعراف والمستقلّين إلى حدود 19 بالمائة من مجمل السكان المشغّلين في سنة 2014 بعد أن بلغت 30 بالمائة في سنة 1975. وهذا التحوّل الهيكلي في اليد العاملة طبيعيّ أيضا لأنّه يتناســـب مع ما لوحظ في كلّ البلدان الصناعية أو السائرة في طريق التصنيع من تطوّر التأجير وطغيان صنف الأجراء على كلّ الأصناف المشغّلة الأخرى حيث تبلغ نسبة الأجراء 92 بالمائة من مجمل المشغّلين في الولايات المتحدة الأمريكية و82 بالمائة في اليابان و94 بالمائة في السويد و89 بالمائة في فرنسا مثلا في حين لم تتجاوز هذه النسبة 10 بالمائة في مالي و17 بالمائة في السينغال والكامرون. ورغم أنّ البعض يؤكّد نهاية التأجير كما يقال أو على الأقلّ بلوغه نسبة قصوى لا مناص له من نقصانها في المستقبل لفائدة العمــل المستقلّ أو العمل الاجتماعي فإنّ هذا الرأي يبقى مرهونا بتطوّر الإنتاجية القطاعية من جهة وتطوّر العلاقات الاجتماعية والمهنية من جهة أخرى. وفي انتظار ذلك فإنّ الفرضية الأكثر معقولية تشير إلى تطوّر بطيء في نسبة الأجراء من مجمل اليد العاملة المشغّلة في الأمد الديمغرافي المتوسّط، أي في العشر سنوات القادمة.
تطــوّر نــســب مختـلـف الأصنــاف مــن مجمــــل الســـكان المشـــغــّليــن
الميزة الثالثة: رغم أنّ ثلثي السكان المشغّلين يعملون بصفة دائمة ومستمرّة في 2014 نلاحظ أن 3.42 بالمائة منهم يعملون دون عقد شغل و16 بالمائة يعملون بعقد وقتي مع تفاوت ملحوظ لصالح الرجال وهذا يؤكّد مرّة أخرى الحيف الذي تعاني منه النساء في العمل والعلاقات الشغلية علاوة على عدّة فروق أخرى في الانتداب والترقية والأجور. وفي كلّ الأحوال فإنّ نسبة الذين يعملون بعقد دائم لا تتجاوز 40 بالمائة من مجمل المشغّلين وهو وضع يخرق القانون من جهة ويسمّم العلاقات الاجتماعية من جهة أخرى. كما أنّه يساهم بقسط كبير في عدم الاستقرار النفسي وفي تزايد الأمراض المهنية والخوف من المستقبل والركود النسبي للأجور وتسلّط الأعراف على العملة.
ولعلّ هذه الوضعية الهشة تهمّ القطاع الخاص دون القطاع العام ولعلّها تمس أيضا السكان المشغّلين في الفلاحة والخدمات أكثر من المشغّلين في الصناعة بحكم حرص أغلب أرباب الصناعات على المحافظة على عملتهم في حين أنّ أرباب بعض الخدمات التي لا تتطلّب مهارة مهنية عالية لا يتردّدون في تعويض اليد العاملة التي يستخدمونها بيد عاملة جديدة للضغط على الأجور والزيادة في ساعات العمل. إلاّ أنّ لهذه الوضعية انعكاسات سيّئة على المداخيل والاستقرار والعلاقات الاجتماعية وبالتالي على التشغيل نفسه.
تــوزيـــع السكـــان المشغليـــن حســـب نـــوعيـــة العـــلاقــة الشغليـــة في 2014
الحبيب التهامي
- اكتب تعليق
- تعليق