أيـام قـرطاج السينمـائيـة زخم سينمائي بــروح أفريقيـة
لا تعتبر أيام قرطاج السينمائية مجرّد تظاهرة ثقافية بل قلعة من قلاع الثقافة في أفريقيا والعالم العربي، وأحد أهمّ بوّابات الفن السابع للعبور نحو الضفة الأخرى والمشاركة في أهمّ المهرجانات العالمية (من أمثال مهرجانات كان والبندقية وبرلين وغيرها)، فضلا عن كونها توفّر فرصة هامّة للمبدعين الأفارقة والعرب لتقديم إبداعاتهم الفنية والتعريف بآخر أعمالهم وتجاربهم السينمائية. ورغم ما عرفته هذه التظاهرة في السنوات الأخيرة من تأرجح بين مختلف دوراتها خاصّة على المستويين المنهجي والتنظيمي، إلاّ أنّها حقّقت نجاحا نسبيّا في دورتيها الأخيرتين خاصّة بعد العودة إلى الثوابت والأهداف التأسيسية التي قام من أجلها المهرجان...
حركيّة ثقافية ونجاح اتصالي
بعيدا عن نتائج الدورة التاسعة والعشرين لأيّام قرطاج السينمائية، والتي توّجت الفيلم التونسي «فتوى» لمحمود بن محمود بالتانيت الذهبي لدورة 2018، وبعيدا عن الانتقادات التي تطال لجنة التنظيم في كلّ دورة جديدة من المهرجان نتيجة بعض المشاكل والمعوقات التنظيمية، فإنّ هذه التظاهرة السينمائية تستفيد منها الحركة الثقافية والفنية وتساهم في إضفاء أجواء احتفالية مبدعة ومتميّزة، يكون فيها الجمهور السينمائي موطّد هذه الحركيّة بقوّة رابط وجداني مع الشاشة الكبيرة طيلة أسبوع من العروض الفيلمية المتواصلة والمتواترة.
ومن الواضح أنّ هذا الموعد السينمائي نجح في خلق علاقة متينة بين جمهور استثنائي ونوعيّة أفلام تختلف عن السائد من خلال بحثها عن الجادّ والمهمّ واهتمامها بالمضامين الفنية والجمالية المتجدّدة.كثافة الإقبال الجماهيري هي خير دليل على نجاح هذه الأيام في الدورتين الأخيرتين، خاصّة بعد انخراط الهيئة التنظيمية في دعم السينما الأفريقية والعربية مع الانفتاح على سينما الجنوب، من خلال انتقاء مجموعة هامة من الأفلام ذات مستوى فني راق ومحترم، ضمنها أفلام أُنتجت حديثا وتعرض لأول مرة، وأخرى كانت قد شاركت بمهرجانات إقليمية ودولية.
ولعلّ ما ميّز هذه الدورة هو نجاح العملية الاتصالية والإعلامية خاصّة على مستوى التواصل والتفاعل مع الجمهور عبر الموقع الرسمي للمهرجان ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث وقع تحيين قاعدة البيانات الخاصة بالأفلام المشاركة في المهرجان وتوفير كافة المعلومات المطلوبة بدقة ووضوح (البطاقة التقنية للفيلم، الملخص، الإعلان الرسمي للفيلم، أوقات عرض الفيلم) مع تغطية يومية موثّقة بالصور والفيديوهات، لفعاليات المهرجان وأنشطته، بالإضافة إلى تركيز منظومة معلوماتية لاقتناء تذاكر العروض عبر وسائل الدفع الإلكتروني، الشيء الذي مكّن الجمهور من تفادي الازدحام والتدافع. من جانب آخر، وفي السياق ذاته، أثار الملصق الرسمي لهذه الدورة جدلا واسعا في الصحافة والأوساط الثقافية والفنية، نتيجة عدم التجانس بين الشكل والمضمون، حيث غاب عن التصميم عنصر الجذب البصري الذي طغت عليه رؤية لونية باردة (استعمال اللون الأزرق) مع إضاءة ساطعةودرجة تباين عالية لصورة فوتوغرافية جمعت يوسف شاهين بهند رستم فيمشهد سينمائي من الفيلم المصري «باب الحديد»، ليبقى التساؤل مطروحاحول رمزية هذه الصورة دلالاتها وهل كان توظيفها «الخاطئ» مجرّد اجتهاد أم يتجلّى فيها نكران الذات؟
برمجة فيلمية ثريّة ومتنوّعة
بالرغم من ضعف الإمكانيات المادية ومحدوديتها نجح المهرجان في المحافظة على إشعاعه في الداخل والخارج وفي استقطاب عدد هامّ من الجمهور والمبدعين والسينمائيين من جميع أنحاء العالم، حيث تمّ عرض 206 أفلام من47 بلدا انحصر فيها التنافس بين 44 فيلما للفوز بجائزة «التانيت الذهبي» في جميع المسابقات الرسمية للمهرجان، من بينها 13 فيلما روائيا طويلا و12 قصيرا و11 وثائقيا. هذا الزخم السينمائي رافقه أيضا نجاح على مستوى الجودة الفنية والجمالية والإبداعية لعدد هامّ من الأفلام المشاركة في هذه الدورة، والتي نجحت في تسليط الضوء على مواضيع حساسة وآنية وقع تناولھا من زوايا فنیة وجمالیة وتقنية جديدة ومبتكَرة. أفلام ناقشت قضايا حيوية وقدّمت قصصا معبّرة ومؤثرة ذات بعد إنساني، تاركة بصمة خاصّة في ذهن المتلقّي وفكره ، كما ساهمت في إثارة النقاش حول أهمية السينما في المجتمع ودورها في الارتقاء بالذائقة الفنية وتطويرها من خلال البحث في قضايا الإنسان الحديث والمعاصر وتساؤلاته.
ولعلّ ما جلب انتباهنا خلال هذه الدورة، على سبيل الذكر لا الحصر، هو تناول بعض المواضيع الحسّاسة ذات البعد الوجداني والعاطفي في علاقة بحياتنا الاجتماعية والإنسانية، حيث ناقشت عديد الأفلام قضايا جريئة وغير معتادة من زاويا مختلفة، منها ما يرتبط ببعض الأمراض والاعتلالات وتداعياتها على المريض ومحيطه العائلي والاجتماعي مثل الفيلم التونسي «في عينيا» الذي طرح قضيّة مرض التوحّد، والفيلم المصري «يوم الدين» الذي سلّط الضوء على هموم مرضى الجذام، كما قام الفيلم الكيني «سوبامودو» بإبراز قيمة التضامن والحلم لإسعاد المريض ومساعدته على مواجهة مرحلة متأخّرة من المرض.
ومن ناحية أخرى، كان موضوع الحرب والإرهاب حاضرا بقوّة في بعض الأعمال مثل الفيلم السوري «مسافرو الحرب» والفيلم الرواندي «رحمة الأدغال» حيث نغرق في مستنقع الوحشية والهمجية نتيجة الحرب وتبعاتها الكارثية على الإنسان، بينما رصد الفيلمان التونسيان «ولدي» و» فتوى» التحوّلات التراجيدية التي عرفتها العائلات التونسية نتيجة التشدّد الديني والصراع ضدّ الظلامية والإرهاب. ويبقى الفيلم الوثائقي التسجيلي «لقشة من الدنيا» لمخرجه نصرالدين السهيلي، أحد الأعمال المثيرة للاهتمام والإعجاب الشديدين لجرأته وقدرته على تعرية المسكوت عنه دون تنميق أو تزيين من خلال قصّة واقعية لرجلين، تجمع بينهما علاقة ممزّقة بين الرومنسية والمخدّرات والعنف.
انتقاء هذه النوعية من الأفلام يعكس رؤية فنية وجمالية ميّزت الدورتين الأخيرتين من تظاهرة أيام قرطاج السينمائية، وعادت بالمهرجان إلى النّفس التحرّري الذي ميّز بداياته ليتحوّل إلى مخبر لتجارب سينمائية جديدة في أفريقيا والعالم العربي، وينخرط في كوكبة السينما المغايرة أو «سينماالواقع» التي تستمدّ جذورها من الحياة الاجتماعية والإنسانية وتهتمّ بالمضمون والجوهر على حساب الشكل. ويمكن أن نعتبر هذا التوجّه نوعا من أنواع المصالحة الفكرية والثقافية مع المبادئ والأهداف التأسيسية التي قام من أجلها المهرجان بعد إخضاعه للرقابة والتضييق في العهد السابق وبعدأن عرف تحوّلات وتجاذبات كبيرة في الدورات الأخيرة. غير أنّ المشاكل التنظيمية التي لاتزال ترافق المهرجان، رغم تراجعها النسبي في الدورتين الأخيرتين، تدعونا إلى التساؤل عن عدم تعيين هيئة قارّة تعتني بأدقّ التفاصيل وتحدّد التوجّهات العامة للمهرجان وتقف على النقائص والهنات من خلال عملية التقييم والتقويم بعد كلّ دورة، وتقوم بصياغة ميثاق يتضمّن المبادئ العامة وَالقواعد الأساسِيّة الخاصّة بهذه التظاهرة، لضمان تحقيق أهداف المهرجان ورسالته وجعله مقصداً ثقافياً مميّزا على المستويين الإقليمي والعالمي.
محمّد ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق