الإرهــاب على شــبـكــات الـــتـواصـل الاجتــمـاعـي
يتربّص الإرهاب بالعالم. وبإمكان شظاياه أن تدرك أيّ مجتمع حيثما كان وكانت أحواله. وهو يُمثِّل هاجسا لدى جميع الدّول والهيئات الرّسميّة وغير الرّسميّة. وقد انشغل الباحثون به منذ فترة ليست بقصيرة فأنجزوا دراسات عديدة تناولت الظّاهرة من جوانب مختلفة. و اهتمّ عدد منها بالدَّور الذي تقوم به شبكات التّواصل الاجتماعيّ في هذا المجال ووضعتها موضع الاتّهام بكونها من الأسباب الرئيسيّة في تفشّي هذا الوباء.
مازال هذا المجهود البحثيّ يحتــــاج إلى الــــدّعــم والتّعميق. وقـــد دعــت منظمة الأمم المتّحدة إلى مواصلته وإلى التّركيز على مدى تأثير الإنترنت في انتشار التّطرّف في أوساط الشّباب ودفعه نحو ممارسة العنف والإرهاب. وضمن هذا التمشّي قامت منظمة اليونسكو بدراسة مضامين أكثر من 550 دراسة تناولت موضوع التّشدد والعنف على شبكات التّواصل الاجتماعيّ تمّ إنجازها بالإنكليزيّة والفرنسيّة والعربيّة بين 2012 و2016. وخلصت إلى استنتاجات هامّة يمكن أن تساعد في توجيه وإثراء دراسات لاحقة نحن بأَمَسِّ الحاجة إليها.
من أهمّ هذه الاستنتاجات أنّنا نمتلك اليوم معرفة لا يستهان بها بخصوص أساليب استخدام شبكة التّواصل الاجتماعيّ وتوظيفها لخدمة التّشدّد والتّطرّف والإرهاب، و لكن معرفتنا بخصوص درجة التّأثير والتقبّل لدى المستعملين La réception parmi les usagers وبخاصّة الشّباب منهم تبقى محدودة. و بالتّالي فإنّــه لا يمكن اختزال الإشكاليّة بجميـع أبعادهـا في مجرد «التَّعرُّض» للإنترنت L’exposition à Internet واستخدامه. ذلك أنّ الأمر يتعلّق بأنساق عديدة ومركّبة ومعقّدة نفسيّة واجتماعيّة وتربويّة واقتصاديّة وسياسيّة وإجراميّة...
لقد بيّنت الدّراسات أنّ شبكات التّواصل الاجتماعيّ تُسهِّل نفاذ الشّباب إلى مثلّث: المضامين/ عنـــاويــن الاتّصـال/ السّلوكات Les trois C Contenus/ Contacts/ Comportements))، ومن ثمّ استقطابهم ضمن جماعات يتقاسم أعضاؤها ذهنيّة مشتركة ويتموقعون في مواجهة المجتمع ويقسِّمونه إلى دار إيمان ودار كفر. وقد اكتسبت القوى الصّانعة للإرهابيين القدرة التّقنيّة والاتّصاليّة ذات الطابع الديماغوجيّ على الوصول إلى النّاشئة فنجحت في تركيز منصّات تفاعليّة جاذبة وسهلة الاستخدام للإقناع بمضامين متطرّفة وعنيفة وإجراميّة يصعب التّرويج لها خارج الفضاء الالكترونيّ. إنّها تعمل كوكالات أنباء غير نظاميّة تمدّ روّادها بالأخبار حول التّنظيم والقضايا التي يخدمها. وتتميّز بكونها أيضا تُؤَمِّن اتّصالا حميميا دائما مع المنتدبين وتُقِيم معهم علاقات صداقة وثقة وشراكة. إنّها تحاصر الفريسة وتقتفي آثارها وتسحبها نحو الفخّ الأكبر الذي حين تقع فيه لا تستطيع منه خلاصا.
ويقوم صنّاع الإرهاب المتخفّين وراء الأكمّة بدور نشيط في إذكاء سعير حرب اتّصالية لا هوادة فيها. ويثابرون بأساليب شيطانيّة على التّرويج المكثّف للعنف وإبراز فكرة القوّة كسلاح لبلوغ الأهداف. ويُتقِن عملاؤهم اختلاق الأخبار الزّائفة وإبرازها كحقائق لا تُناقش، فضلا عن مواجهة المضامين المعارضة لهم بالشّعارات التكفيريّة والشّتائم واللّعنات... ويصنعون مضامين مُلهِبة للحماس تتمازج فيها الخطب بالأناشيد شأنها شأن الجيوش أو المجموعات القتاليّة.
لقد أحرزت الدّراسات تقدّما في تحليل أساليـــب استخـــدام شبكـــات التّواصل الاجتماعيّ من قِبَل دعاة العنف والتّشدد والكراهيّة، غير أنّ المعرفة بآليات الـتـّأثر وملامح المتأثّرين من المنتدبين والمريدين مازالت تحتاج إلى مجهود أكبر. لذلك دعت اليونسكو إلى ضرورة تشجيع مراكز البحث ودعمها بهدف تحليل نزعات التّشدد العنيف على شبكات التّواصل الاجتماعيّ في سياقاتها الشّاملة وبأبعادها المتعدّدة وذلك ضمن أُطر بحثيّة متطوّرة ذات بعد إقليميّ ودوليّ. كما يجب الانتباه إلى ضرورة الابتعاد عن الأحكام السّطحية والتّعميمات المتسرّعة بخصوص اختزال الأسباب في البعد التقنيّ الذي تمثّله الإنترنت وتوخّــــي المنهجيّة التّفهمية Compréhensive والتحليليّة التي تتناول المحتوى وتضع تصوّرات لكيفية مواجهته، فضلا عن صناعة مضامين تنويريّة تقدّم إجابـــات شاملة عن الإشكــالات التي تعترض النّاشئـــة. ومـــن هنا التّأسيس للتّربيـــة على مـــواجهـــة التّشــدد والتّطرف.
إنّ تكنولوجيات الاتّصال الحديثة مكسب عظيم للبشريّة فيه منافع للنّاس عديدة. وإنّ وضعها موضع الاتّهام في كلّ ما يعترض المجتمعات من أزمات ومشاكل أمر فيه الكثير من التسرّع والسطحيّة. ذلك أنّ الإشكال لا يكمن في التقنيّة في حدّ ذاتها بل في كيفيّة استعمالها وتوظيفها. ولئن لا يشكّ اثنان في أنّ شبكات التّواصل الاجتماعيّ تساعد بشكل كبير في انتشار التشدّد والأفكار المتعصّبة وتغذيّة التطرّف، فإنّها قطعاً وسيلة ناجعة أيضا في التّصدي لكلّ هذا، وذلك بدعم برامج التّدريب على حسن استخدام الشّبكات ووسائل الاتّصال عامّة. وهو عمل يجب أن يشمل النّاشئة ومؤسّسات التّنشئة والتّربية والأولياء على حدّ سواء.
كما أنّ العمل الثّقافيّ والشّبابيّ مُطَالب بتجاوز الأطر الكلاسيكيّة التي عفا الدّهر على أغلبها، والاتّجاه نحو تشجيع الشّباب على دخول مجال الابتكار في صناعة المضامين الرقميّة التي تخدم القيم النّبيلة وتُعلِي مبادئ السّلام والخير. ذلك أنّ المجال الشّبكيّ الالكترونيّ هو الفضاء الشّبابي الجديد بامتياز. وهو يزخر بتعبيراته ومواقفه وتصوراته. وهو السّاحة التي يجب مقارعة التّشدّد والعنف والإرهاب فيها. إنّها دعوة لنزع الأسلحة الالكترونيّة من أيادي العصابات السّوداء وتحويلها إلى أدوات لبناء المستقبل في أيادي الأجيال الصاعدة.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق