أدب وفنون - 2018.10.03

في مـئـويّــة حسيبـة رشــدي الــفــنّـانـة المتـمــرّدة

في مـئـويّــة حسيبـة رشــدي الــفــنّـانـة المتـمــرّدة

لماذا كُتب على الفنّان أن يقايض حرّيته مقابل الانسلاخ عن وسطه وأهله وأحيانا أقرب الأشخاص إلى قلبه ليسمح لفنّه بأن يينع ويتفتّق؟ لماذا كُتب عليه أن يهرب من محيطه ويغامر بحثا عن محيط جديد لا يقيّد مواهبه بجملة من الأعراف والتّقاليد المسطّرة والمقنّنة والحادّة حدّة السّيف؟

هذا فيما يخصّ الإنسان عامّة. بشأن المرأة، تدخل في الاعتبار مقاييس أخرى وأعراف أخرى أوّلها وآخرها الشّرف..شرف القبيلة الذي لم يتأثّر بالقيم المستجدّة للحداثة ولا بالنّقلة التي عرفتها النّظرة الاجتماعيّة للفنّ وللإبداع.

راودني السّـــؤال وأنا أعدّ هذه الورقة حــــول حسيبة رشــدي، استذكارا لمسيرة فنّـــانـــة اتخــذت لها جناحـــين حـــاولت أن تحلق بهمــا بعيـــدا عـــن العوائق والممنوعات المشحنة بالأوهــــام والزّيف. جوّ نشأتها مثقل بأوزان التّراث الذّكوري فهي ولدت من الزّواج الثّامن لأبيها الذي ينتمي إلى عائلة بــــن عبد النّبي. كان ذلك ذات شتاء في سنة 1918. سمّيت الزّهراء وكتب لها مسار شاقّ تعمّقــت محطّاته بقوّة شخصيّتها وبمثابرتهاعلى تحقيق ذاتها بقناعة لا تبعد في عمقها عمّا نعاينه اليوم في مشهد النّضالات النّسويّة، مع فارق أعتبره هامّا وهو الهدوء والتّواضع. في مثل هذه العائلات، وفي الأوساط  الفلاحيّة الميسورة، وفي منطقة جومين بماطر، جــــرت العادة أن تربّى البنت على «صنعة» تحافظ عليها وتجعل معنى لمركزها الاجتماعي. ولنتخيّل كيف كانت، وهي تتعلّم التّطريز والخياطة، تستمع إلى الموسيقى والغناء، فالمؤرّخون يذكرون أنّها أغرمت بالمغنّيات اليهوديّات. ويذكر المؤرّخون أيضا أنّها هربت من بيت أبيها إلى بنزرت، بعد خلاف مع والدها حول حادثة تذكر فيها آلة الفونوغراف. ممّا يفترض أنّ شغفها بالموسيقى كان سبب ريبة لدى والدها، الذي قد يكون حاول حرمانها من استعمال هذه الآلة.

أين نحن هنا من مشهد أسراب الأطفال والشّبّان ذكورا وإناثا يتوافدون على معاهد الموسيقى العموميّة والخاصّة، كلّ آلته على كتفه ومن بينهم من يكبر ويصبح فنّانا محترفا عازفا أو مغنّيا وأحيانا أخرى، يجمع بين ذلك والبحث الأكاديمـــي في الموسيقى...ولا أحد يضطرّ إلى مفارقة عائلته ومحيطه أو التّخفّي منهما لممارسة هوايته والتّفاعل مع شغفه بها؟

ويُذكر أيضا عن حسيبة رشدي أنّها، إثر هربها، أرجعت قسرا إلى بيت أبيها وزُوّجت غصبا ثمّ عـــاودت الهــــرب، إلى صفاقس هذه المرّة، لتستقرّ فيها وتمارس المسرح ثمّ الموسيقى وتتعرّف على محمّد التريكي الذي سيتزوّجها ويعرّف بها في باريس حيــث قامت بتسجيل أولى أسطواناتها.

وفي مرحلة أخرى وبعد زواجها الثّاني من الأمريكي هنري بـــلاك، مـــساعد القنصل الأمريـــكي في تـــونس، رحلت إلى بروكلين حيث قضت بعض السّنين فتحت خلالها مطعما ثمّ غادرت إلى القاهرة، بطلب من الحزب الدّستوري، لتسليم وثائق للمرحوم الحبيب ثامر الذي كان لاجئا هناك. مسار عاشته حسيبة رشدي في ظرف مضن، لم تكن فيه مظاهرات مساندة ولا اعتصامات ولا احتجاجات ولا تقارير حول الحرّيّات. الحرّيّة اقتلعتها في تجربة مفردة، علـــى مقـــاسها، قادتها إلى أقاصي العالم وواجهت فيها المجهول ثقافةً وعقيدةً وسياسةً وأعرافا..في القاهرة، استقبلها الملك فاروق وأقامت منتدى دعت فيه عددا كبيرا من الفنّانين من بينهم السّيّد شطّا الذي قدّمها إلى مدير إذاعة القاهرة. وفي اختبار أمام لجنة تتصدّرها أمّ كلثوم، خُصّص لها حفل أسبوعيّ في إذاعة القاهرة، كما غنّت في حفلات أمــام الجمهور رفقـــة محمّـــد عبد المطّلب.

وفي القاهرة أيضا، لعبت أدوار البطولة في أفلام مثل: «حبّ» لعبد العزيز حسين إلى جانب الممثلين محسن سرحان وفريد شوقي وسميحــة أيّوب و«طريق الشّوك» لحسين صدقي إلى جانب فريد شوقي و«دماء في الصّحراء» لجياني فرنوتشيو مع عماد حمدي و«انتقام الحبيب» لفرنوتشيو أيضا مع يحيى شاهين وسامية جمال وفريد شوقي. لكنّ هذه المسيرة المشعّة لم تطل فيبدو أنّ أمّ كلثوم وبدعم من نقابة السّينما المصريّة فرضت عليها الرّحيل من مصر.

عند رجوعها إلى تونس في بداية الخمسينات، شاركت في أفـلام عديــدة: «المتمرّد» و«صراخ» لعمار الخليفـــي، «تحت مطر الخريف» لأحمد الخشين، «خليفة الأقرع» لحمّودة بن حليمة إلى جانب منـى نور الدّين، «سلطان المدينة» للمنصف ذويب، «تونسيّات» للنّوري بوزيد، «جحا» لجاك باراتيي إلى جــانب عمر الشّريف وكلوديا كاردينال. شخوص الملحمة التي أبــدعتها حسيبة رشدي ليسوا أبطالا عاديّين. جمعهم بها  تــــوارد الخواطر وتشابه في الاختيارات. جمعتهم أيضا  ضرورة التّحدّيات المتجدّدة في كلّ مفترق طرق يرتادونها.

ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نلفت إليه النظر في هذه الملحمة التي خلّفت ذكرها بعد رحيلها في سنة 2012، هو مــوعظة المنهاج وليس الأنموذج. فقد اعتمد هذا المنهاج في النّضال من أجل تحقيق الحلم الإبداعي فنّانون كثيرون، نساء ورجالا،  بالموازاة  مع مسيرتها وبعدها أيضا : شافية رشدي، فضيلة خيتمي وقبلهما حبيبة مسيكة وفي صفوف الفنّانين جيل كامـل في طليعته محمّد الجمّوسي. في أوائل القرن العشرين، والملحمة تعتمل أحداثها وتترصّدها تهم الأخلاق والأعراف وأحيانا تهمّ العقائد، لم يكن هناك متعهّدو حفلات ولم تكــن مهــرجانـــات ولم تكن الملتيميديا ولا الفايسبوك ولا ذمــم إعلاميّة تشترى لخلق النّجوم ولا «ستار سيستام».

كانت كلمة تخـرج مــن العمــق، تشقّ السّحاب وتمطر سكينةً وعشقا يذوب فيها المتلقّي ويُولد فيها شوق الجمهور إلى المزيد من المغنى والمعنى. إنّه عمـــر البراءة، براءة الإبداع، بلا قيد، بلا شــرط، بلا وسيط وبلا حدود.

فوزية بلحاج المزّي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.