رشيد خشانة: نهاية صفقة باريس وولادة شراكة جـديدة مـــع الشـاهد
مــات اتفاق باريس الذي توصّل له زعيما حزبي «النهضة» و«النداء» في باريس يوم 13 أوت 2013. مات في سنته الخامسة تقريبا، بعدما أنقذ البلاد من التدحرج نحو الحرب الأهلية، وأتاح من ثمّ إجراء أوّل انتخابات حرّة وشفّافة تقبَل الجميع نتائجها بلا اعتراضات تُشكّك في نزاهتها. غير أنّ الرأي العام في الداخل والخارج تفاجأ باتفاق الحزبين الغريمين على تشكيل حكومة ائتلافية بينهما، إلى جانب أحزاب أخرى، بعدما اقتربا من شفير الصدام أثناء الحملة الانتخابية. وسرعان ما تحولت الشراكة إلى شركة مبنيَة على المحاصصة تدُرّ الامتيازات الحصرية على الحزبين، وتضع بين أيديهما مفاتيح الحياة السياسية الوطنية. واستطاعت هذه الصيغة الصمود طيلة السنوات الماضية، بالرغم من تغيير رئيس الحكومة في 2016.
تعدّد الرؤوس
لكن لوحظ على مدى أسابيع من اجتماعات الأطراف المشاركة في حوارات قرطاج2 أنّ العلاقة الخاصّة بين الشيخين مؤسّس «النداء» ورئيس «النهضة» لم تعد مثلما كانت عليه من السلاسة والتفاهم المتبادل. واستطرادا فإنّ العلاقات بين المدير التنفيذي لـ«النداء» ورئيس «النهضة» لم تكن سالكة في أيّ وقت من الأوقات، لا بل شابتها أحيانا توتّرات لا تُنبئُ بإمكان المحافظة على شراكة باريس مع الإدارة الجديدة لـ«النداء». فقد كانت هذه الشراكة مبنية على رؤية متطابقة تقريبا لإدارة دفّة الحكم في المرحلة الانتقالية، وإن كان أساسُها المحاصصة. أمّا مع القيادة الندائية الجديدة فلم يجد النهضويون مُحاورا مستقرّا، خاصّة في ظلّ الصراعات التي عصفت بالشريك، والتي أفضت إلى تعدّد الرؤوس التي يدعي كلٌ منها وصلا بالشرعية. على هذه الخلفية بدأ التعاطي تدريجيا مع يوسف الشاهد على أنّه المُجسّد لتجربة التوافق والماسك بدواليب الحكم والمُواصل لروح اتفاق باريس. ويمكن القول إنّ هذا الموقف هو الذي غيَر العلاقة بين الشيخين، والتي باتت تغلب عليها التشكيات من «تمرّد» رئيس الحكومة. وبتعبير آخر فإن الشاهد في سياق هذا الموقع الجديد، لن يستقيل ولن يستطيع خصومُه تنحيتــه، طالما أنّه بصدد التحوّل إلى شريك جديد لـ«النهضة».
في المقابل، وجد النهضويون في جناح الشاهد داخل «النداء» مُحاورا يمكن الاتّكال عليه. وتعزّز هذا الاتجاه بعد تشكيل كتلة ندائية داعمة لرئيس الحكومة (الائتلاف الوطني)، وهي كتلة مُرشّحة للتوسّع بما يُوفّر للشاهد، مع نواب كتلة «النهضة»، الحزام الذي يحتاجه لضمان استمرار حكومته واستقرارها، إلى الانتخابات المقبلة. أمّا «النداء» فبالرّغم من محاولات الترقيع واستعادة بعض الوجوه القديمة، لن يبقى رقما في الساحة السياسية. والأرجح أن جسما سياسيا جديدا سيحلّ محلّه، ويكون هو مُعادل «النهضة»، وستتشكلُ عجينتُه من أعضاء الكتلة البرلمانية الندائية الداعمة لرئيس الحكومة. والأرجح أيضا أنّ معظم إطارات الحزب الجديد ستأتي من المكّونات نفسها التي تشكّل منها «النداء» في 2012، وهي مزيج من التجمعيين والنقابيين والمنسحبين من الأحزاب اليسارية.
روزفلت وبرلينغوير
الظاهرُ أن التيّار الذي يقوده الغنوشي في «النهضة» والتيّار الذي يُمثله الشاهد في «النداء» مُقبلان على توافق جديد، يُحيي وفاق باريس 2013، لكن بشروط وصيغ مختلفة. وسيكون هذا التوافق نوعا من التفاهم الجديد A new deal بين حليفين قديمين على قواعد اللعبة. ويمكن وصف هذا التحالف، إذا تمَ فعلا، بكونه من التنازلات التاريخية التي كان القائد الشيوعي الإيطالي أنريكو برلينغوير E. Berlinguer من المُنظّرين البارزين لها في سبعينات القرن الماضي، في معرض تبريره للتفاهم مع غريمه اليميني حزب الديمقراطية المسيحية.
القوّة الأولى؟
في المُحصِلة، ومع تفكّك «النداء» وهزال الأحزاب السياسية الأخرى، فرضت حركة «النهضة» نفسها لاعبا رئيسيا في تحديد وجهة المسار الانتقالي خلال المرحلة المقبلة، حتّى أنّ الاطاحـــة برئيس حكومة أو تسميته في موقعه أضحتا اليـــوم رهينتي مـــوقف الحركة من تلك الاطاحـــة أو التسمية. والأرجــــح في ضـــوء المعطيات القائمة حاليا أنّ «النهضة» ستخرج من الانتخابات البرلمانية المقبلة القوّة الأولى، على خلاف الخارطة التي انبثقت من انتخـــابات 2014، بحكـــم كونها التشكيلة الأكثر استعـــدادا، ورُبّمـــا الوحيـــدة المستعدّة لوجســـتيا وسيــــاسيا لخـــوض الانتخـــابات المقبلة. أكثر من ذلك بوّأت الأزمة السياسية الراهنة الحركة موقعا محوريا جعل منها السند الأوّل لرئيس الحكومة. لكن في الانتخابات ستكون هناك منافسة، ومن الفرضيات الواردة أن يفوز حزب الشاهد، أو النداء الجديد بالمرتبة الأولى أو الثانية، مما يُؤهّله لرئاسة الحكومة مُجددا، لا سيما إذا نجح في تحسين الوضع الاقتصادي، على الرغم من محاولات الإرباك الصادرة من قيادة اتحـاد الشغــل، المُتحالفــة مع غريمه المدير التنفيذي لـ«النداء».
واضح من تصريحات مختلفة أنّ «النهضة» تؤيّد بقاء الشاهد على رأس الحكومة إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، شريطة أن يتعهّد بالامتناع عن خوض السباق الرئاسي، وهو تعهّدٌ يتردّدُ أنّه أعطاه لرئيس «النهضة» في إطار المُفاهمة الجديدة. ومن هنا يمكن اختزال نقاط الاتفاق بين الطرفين الشاهد و»النهضة» على النحو التالي:
- التزام رئيس الحكومة بالامتناع عن الترشّح لرئاسيات 2019
- التزام أعضاء الحكومة بعدم الترشّح لانتخابات 2019 بشقّيها البرلماني والرئاسي
- تركيز الوزراء على العمل الحكومي والنّأي بأنفسهم ووزاراتهم عن الانخراط في الصراعات الحزبية
وإذا كان هناك اليوم حزب واحد يحتكر الرئاسات الثلاث في قرطاج وباردو والقصبة، فالأرجح أن الدولة لن تُساس من قبل تشكيلة واحدة بمفردها بعد 2018. وفي النتيجة ربّما يختبرُ التونسيون تجربة تعايُش، بين حزبين أو أكثر، أسوة بما عرفته ديمقراطيات كثيرة في العالم.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق