أخبار - 2018.07.20

التمييز الإيجابي في مجال التعليم العالي: مـبـرّرات الــجدل حول وجـاهــة التوجّه

التمييز الإيجابي في مجال التعليم العالي: مـبـرّرات الــجدل حول وجـاهــة التوجّه

تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدإ التمييز الإيجابي. كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية. (الفصل 12 من دستور الجمهورية التونسية)

بالاستناد إلى الفصـــل الثـاني عشر من الدستور، أعلن رئيس الحكومة يوم الثلاثاء 19 جوان 2018، خلال زيارة أدّاها إلى مركز الخوارزمي للحساب الآلي بالمركب الجامعي بمنوبة، عن جملة من الإجراءات والقرارات التي كان مجلس وزاري مضيّق أقرّها قبل يوم واحد، خلال انعقاده بقصر الحكومة بالقصبة، في إطار متابعة سير الاستعدادات للسنة الجامعية 2018-2019. وقد شملت هذه الإجراءات والقرارات عدة جوانب من التعليم العالي على غرار اعتماد آلية جديدة لتوجيه أصحاب المواهب والمهارات الاستثنائية، وإحداث منحةً للناجحين الجدد في الباكالوريا من العائلات ضعيفة ومتوسطة الدخل، وتحسين الخدمات الجامعية بالترفيع في طاقتي الإيواء والإطعام،  ومواصلة تحسين جودة الخدمات، وتعزيز الأنشطة الثقافية، وتنظيم ودعم التكوين المستمر الجامعي من أجل تطوير المعارف والمهارات والكفاءات وتعزيز التشغيلية، والعمل على تنمية الموارد المالية الذاتية للجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث وتوطيد استقلاليتها المالية من خلال دعم انفتاحها على المحيطين الاقتصادي والاجتماعي، وإحداث الوكالة الوطنية للإعلام والخدمات الموجّهة للطلبة الأجانب بما يعزّز استقطابهم ويحقّق اندماجهم في ظروف جيّدة بالتوازي مع الرفع من إشعاع المؤسسات الجامعية التونسية في الخارج من خلال خدمات التسويق والاتصال.

غير أنّ أهم هذه الإجراءات والقرارات، على الإطلاق، تعلّق بما سمّاه «تفعيل التمييز الإيجابي في التوجيه الجامعي» وذلك من خلال تخصيص نسبة 8 بالمائة من المقاعد في ثلاثين شعبة من شعب التعليم العالي موزّعة على حوالي ثلاثين مؤسسة جامعية لفائدة طلبة الولايات الداخلية، فلقد استقطب هذا الإجراء الأنظار وكان محلّ جدل واسع بين المرحّبين به وبين منتقديه...ولأنّنا اعتدنا، للسنة الثامنة على التوالي، على أن يثير كل إجراء أو قرار جديد تتّخذه السلطات الجدل أحيانا بمبرّر وأحيانا أخرى بغير مبرر، فقد بدا الجدل حول إجراء التمييز الإيجابي في مجال التعليم العالي أمرا طبيعيا، خاصة وأنّ الإجراء جاء في سياق سياسي خاصّ، وأنّ تقديمه لم يكن سديدا من الناحية الاتّصالية، كما إنّه لم يكن مكتمل التكوين... أمّا فيما يتعلق بالسياق فما من أحد يستطيع أن ينكر أنّ الإجراء جاء في ظرف يتّسم بالارتباك والقلق السياسيين، وباحتدام التجاذبات بين المنادين ببقاء رئيس الحكومة وبين دعاة رحيله، وهو ما جعله يبدو وكأنّه إجراء «شعبوي» ذو خلفية مصلحية سياسية ظرفية... ويستدلّ أصحاب هذه النظرة على ذلك بأنّ الإعلان عن الإجراء جاء على لسان رئيس الحكومة، وقد كان من الممكن أن يعلنه وزير التعليم العالي والبحث العلمي الذي اضطرّ، لاحقا، إلى الخروج للتدقيق والتوضيح، وحتى للتبرير... وقد أتت بعض تصريحات الوزير لتزيد الطين بلة، حيث تبيّن من خلالها أنّ الإجراءات المعلن عنها اتسمت، إجمالا، بالتسرّع إذ أنّ تدابيرها التطبيقية لم تحدّد بعد، أو هي ما تزال قيد الدرس...وأمّا عن تقديم الإجراء فقد أضرّ به «التمييز السلبي» من طرف رئيس الحكومة بين ما سمّاه الشّعب «النبيلة» وغيرها من الشعب (غير النبيلة)... فهذه التسمية أثارت الكثير من الاستياء خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام، اذ أنّ مقياس المفاضلة بين الشُّعَبِ لا يرتبط بنبلها أو بوضاعتها وإنّما بدرجة الإقبال عليها، وقد لوحظ أنّ وزير التعليم العالي والبحث العلمي كان محرجا عند الحديث عن هذا الموضوع، حيث أكّد في بعض تصريحاته «أنّ وزارته لم تتحدّث أبدا عن الشعب النبيلة»...وأمّا فيما يتعلّق بالإجراء نفسه فإنّ منتقديه والمعترضين عليه يرون أنّ من شأنه الإضرار بجودة التعليم في الجامعات التونسية، وفي هذا الإطار قال الاتحاد العام لطلبة تونس، في بيان أصدره في اليوم الموالي، إنّ القرار «يعدّ محاولة واضحة لضرب الكفاءة ومصداقية الشهادات العلمية والإنقاص من قيمة البعض من الشُّعَب، وبالتالي المزيد من تخريب الجامعة التونسية عموما».

ومع التّحفظ على لهجة التهويل التي اصطبغ بها بيان الاتحاد، فإنّ ما يبرر التخوف من التأثير السلبي الذي يحتمل أن يكون للإجراء على التعليم العالي، هو أنّ وزير التعليم العالي والبحث العلمي يؤكّد «أنّ التحدي الذي واجه اللجنة التقنية والبيداغوجية التي عملت على المشروع كان كيفية تفعيل هذا الإجراء دون المساس بالتميّز الجامعي لأنّ التوجيه الجامعي يرتكز أساسا على تميّز الطالب واستحقاقه العلمي».

ولسنا ندري إن كانت اللجنة اهتدت إلى الكيفية المطلوبة أم لم تَهْتَدِ، والأرجح أنّها لم تَهْتَدِ إليها، إذ نلاحظ أنّ الوزير حاول أن يطمئن رافضي الإجراء بالتأكيد على أنّ «التمييز الإيجابي إجراء وقتي لإعطاء فرصة لأبنائنا في انتظار الإصلاح الشامل»... وهو لا ينكر أنّ القرار «سياسي» لكنه يشدّد على أنّه «وقتي»، ويعترف بأنّ «الأصحّ هو الإصلاح الشامل للمنظومة التعليمية»، غير أن مثل هذا الاصلاح الجذري يحتاج الى وقت طويل، ولذلك فإنّ الوزارة فضّلت العمل، في الأثناء، بآليات تعديلية آنية قصد التخفيض من الفوارق القائمة، وهذه كما يَسْتَخْلْصُ تجربة  أولى من المؤمل أن تتحسن وأن ينتهي العمل بها على مدى متوسط...وهنا بالذات تكمن مشكلة بلادنا منذ 14 جانفي 2011، فنحن للسنة الثامنة على التوالي نعيش على المؤقّت، ولا نخرج من مؤقّت إلا لندخل في مؤقت آخر، في غالب الأحيان أسوأ من الذي سبقه...

والسؤال الذي ينبغي طرحه هو متى سيأتي الإصلاح الشامل والكامل؟ وإلى متى سنظلّ ننتظر؟.. 

إنّ الإعلان عن البدء في تطبيق مبدإ التمييز الإيجابي في مجال التعليم العالي جاء ليذكرنا بحقيقة مُرَّة هي أنّ العديد من بنود الدستور الذي مرّت على إصداره ثلاث سنوات ونصف ما تزال حبرا على ورق، فبعضها سقط على ما يبدو في غَيَابَة النسيان المُتَعَمَّد، وبعضها الاخر لم يجد طريقه إلى التنفيذ، أما ما يراد الشروع في تنفيذه فإنّ تفعيله يتم بطريقة هشّة وبالانطلاق من رؤية انفعالية ارتجالية متسرعة تجزيئية ومتقطعة... وهي بالتالي لا تسمن ولا تغني من جوع... وبالرغم من أنّني شخصيا أومن بأنّ التمييز يبقى تمييزا حتّى وإن كان إيجابيا، فإنّ واجب «الانصياع» لما جاء في الدستور يجعلني أدعو الى تطبيق مبدإ التمييز الإيجابي لكن شريطة أن يكون ذلك بطريقة مدروسة ووفقا لرؤية سليمة، ومنهج قويم قادر على الإسهام فعلا في دفع التنمية في الولايات والمناطق الداخلية... إنّ مثل هذا التوجّه الذي يضع نصب عينيه تطبيق مبدإ التمييز الإيجابي في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة، هو الذي يمكن أن يعيد للدولة شيئا من مصداقيتها المتآكلة والتي ستزداد تآكلا بإجراء تفعيله في مجال وحيد (التوجيه الجامعي)، قد يستفيد منه بعض الأفراد ممن سيدخلون الجامعة في إطاره، لكنه لن يمس سكان المناطق المحرومة كلهم... لكل ذلك، أعتقد أنّ الوقت حان لكي نضع تصوّرا كاملا شاملا لكيفية تفعيل مبدإ التمييز الإيجابي، غير أنّ ذلك لا يمكن، كما أثبتت التجربة، أن يتم على أيدي حكومات يكاد همّها الأوحد أن يكون إدارة اليوميّ من الشؤون، ومعالجة الطارئ من الأمور، وانما يتم على يد آلية متعددة الاختصاصات متفرّغة للتفكير، يمكن على سبيل المثال أن يتولى المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع الرئاسات الثلاث إحداثها في صلبه، وتكليفها برسم معالم سياسة تمييز إيجابي كفيلة بتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين مناطق البلاد وجهاتها.

محمّد ابراهيم الحصايري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
Salhi sgfhaie - 20-07-2018 09:52

لمدة فاقت 15 سنة تمتع طلبة الساحل "بالتمييز الايجابي " للاتحاق بالدراسات الطبية تحت اجراء التنفيل الذي اوقف سنة 2012 والذي كان يمكن الطلبة من جهة الساحل بالتحاق بدراسة الطب بمعدل اقل من من معدلات الملتحقين بكليات تونس وصفاقس بفارق 1.20 من معدل الباكالوريا ( 16.20 مقابل 17.40 تقريبا

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.