أدب وفنون - 2018.06.05

فيلم «ولد العــكـري»: استطــلاع لتـاريــخ الـحـركــة الـوطنية مــن زاوية معــاكـسة

 فيلم «ولد العــكـري»: استطــلاع لتـاريــخ الـحـركــة الـوطنية مــن زاوية معــاكـسة

لطالما كانت السينما وسيلة لنفض الغبار عن كلّ ما هو غامض تاريخيا وثقافيا من خلال إعادة قراءة الأحداث والتوغّل في تفاصيلها. فيلم «ولد العكري» للمخرج الحبيب المستيري يندرج ضمن هذا السياق، حيث يسلّط الضوء على مرحلة هامّة من تاريخ الحركة الوطنية التونسية وما شابها من غموض واِلتباسات وزادت في حدّة الاتّهامات بين البورقيبيين وبقية الأطياف السياسية حتّى اليوم.

مدّة عرض الفيلم لا تتجاوز 90 دقيقة وقد شارك كل من عبد الفتاح الفخفاخ وعلي سعيدان في كتابة السيناريو وصياغة الحوار إلى جانب مخرج العمل الذي قام باختيار طاقم تمثيل على درجـــة عــالية من الحرفية الفنية، جمع كلّا من أحمد الحفيان (حسّون) ومحمد السياري (رضا) وإيفانا بانتاليرو (شانتال)، وفاطمة ناصر(خديجة)، وعاطف بن حسين (فرج)... وكان الفيلم قد شارك في المهرجان الدولي للفيلم عبر الصحراء، في دورته الرابعة عشر، بزاكورة (المغرب)، أحرز من خلاله الممثل أحمد الحفيان على جائزة أحسن دور رجالي في مسابقة الفيلم الطويل، إضافة إلى تتويج خاصّ من قبل لجنة التحكيم. ويذكر أنّ الفيلم قدّم لأوّل مرّة للجمهور التونسي خلال فعاليات الدورة 28 لأيّام قرطاج السينمائية في إطار أفلام الأقسام الموازية «نظرة على السينما التونسية»، ليخرج إلى قاعات السينما في 9 أفريل المنقضي، مثيرا جدلا واسعا وانتقادات لما تضمنه من دعوة صريحة إلى إعادة النظر في تاريخ الحركة الوطنية التونسية.
بعد تجربة طويلة في التلفزيون تخلّلتها العديد من التّتويجات في إيطاليا، عاد المخرج التونسي «الحبيب المستيري» ليثير الجدل في أوّل فيلم روائي طويل خلال مسيرته السينمائية. «ولد العكري» هو من نوع الدراما التاريخية التي تجمع بين الروائي والوثائقي وتدور أحداثه في فترة ما قبل الاستقلال وإلى حدود معركة الجلاء في بنزرت (1955 - 1961)، وقد تم تصوير أغلب مشاهد الفيلم بمدينة الشابّة من ولاية المهدية حيث وقع تثبيت ديكورات وتصاميم خاصّة بالعمل.

قصّة تستجوب التّاريخ بطريقة رومانسية

فيلم «ولد العكري» مبنـــي أســـاسا على شخصية «حسّون» الذي يجد نفسه طوال الفيلم ممزّقا بين خيارات ومصائر متناقضة في مرحلة دقيقة من تاريخ البلاد. دور معقّد لعبه بحرفية كبيرة بطل الفيلم، الممثّل «أحمد الحفيان»، الذي اختار الانضمام إلى الجيش الفرنسي بغاية العمل كمخبر سرّي لحساب الحزب الحر الدستوري الجديد ومدّ المقاومة بأسرار العساكر الفرنسيين وتحرّكاتهم. خيار سيدفع ثمنه غاليا خاصّة بعد اكتشافه لقائمة «الخونة» من بعض عناصر الحزب المتعاونين مع المستعمر، ليتحــوّل بعد الاستقلال من مناضل وطني إلى خــائن ملاحق ومهــدّد بالتصفية الجسدية مـــن قبــل رفاق الأمس وقادة اليوم في الحزب الذين خذلوه وتنكّروا لنضالاته، خاصّة بعد اكتشــاف أمره من قبل السلطات الفرنسية التي قامت بطرده وتجريده من كافّة حقوقه.
كلّ ذلك على إيقاع قصص غرامية تتبخّر وتتلاشى، بدءا بخسارة حبيبته الإيطالية «شانتال» التي تضطرّ إلى العودة إلى بلدها بعد أن تعقّدت وضعية «حسّون» عَقِب التهديدات والاعتداءات التي استهدفته، ممّا أجبره على اللّجوء إلى منطقة الشابة حيث تعرّف على «خديجة» التي تشاركه تقريبا نفس المعاناة نتيجة تجاهل أهل المنطقة لها، ما دفعها إلى الإحساس بأنّها منبوذة وغير مرغوب فيها نتيجة العزلة التي فرضها عليها محيطها المحافظ بسبب معتقدات وأفكار بالية (سوء طالع هذه المرأة المطلّقة على الرجال). ورغم عزمه الزواج بها، فإنّ كابوس إقصائه من حركة التحرير الوطني دفعه قبـــل ذلك إلى التطــوّع في الجيــش التونســي والمشاركـة في معـركة بنزرت، ليستشهد في المواجهات مع جيش الاحتلال وتنتهي معاناته بعد أن قام في وقت سابق بتسليم نسخة من القائمة السريّة إلى «فرج» المعلّم ذي التوجّهات الشيوعية.

معالجة سينمائية مرتجلة لقضيّة حسّاسة

لا أتّفق أبدا مع منهج التّقليل من شأن الأفلام التي لا تتنـــاغم مــع أفكارنا لأنّها تقول أشياء لا نوافق عليها، ذلك أنّ المخرج السينمائي يصنع فيلمه بالأساس لكي يعبّر عن وجهة نظره هــو لا عن وجهة نظرنا نحن. لهذه الأسباب تحمّست كثيرا لمشاهدة فيلم «ولد العكري» خاصة وأنه ينتمي إلى نوعيّة الأعمال التاريخية والسياسية النّادرة في رصيد السينمـــا التونسية، نظـــرا إلى ما يتطلبه هذا النوع من الأفلام من إمكانيات مادية هائلة لاستنساخ تلك الفترة التاريخية، ومقاييس معيّنة لإعادة قراءة التاريخ قراءة صحيحة وموضوعية بعيدا عن العاطفة التي تتحكّم في كثير من الأحيان في عملية التقييم. ولكنّي أصبت بخيبة أمل بسبب المستوى الفني المتواضع الذي ظهر به العمل خاصّة فيما يتعلّق بأسلوب السّرد السينمائي وغياب الرّؤية الإخراجية التي أدّت إلى إنتاج عمل هزيل نسبيا، رغم القيمة الفنية للممثلين وأهمية القضيّة المطروحة.
ومن البديهي أنّ مخرجا سينمائيا لا يمكن أن يؤلّف تاريخا، وإنما يعتمد على مؤرّخين متخصّصين لبلورة رؤية فنية شاملة لا يشوّه فيها التاريخ بحجّة الإبداع الفني. محاولة إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية وكشف جراح الذاكرة الجماعية من خلال فيلم «ولد العكري»، الذي مثّل إطارا يمتزج فيه الجانب التاريخي مع بالجانب الخيالي، يبدو أنها لم تستند إلى هذه القاعدة نظرا إلى ما لمسناه من غياب لإعداد درامي دقيق يعيد بناء الأحداث بعناية. فقد أطنب مخرج العمل في استعمال تقنية «الفلاش الباك» (عودة إلى الوراء) لتمرير أكثر من 10 مشاهد اخبارية مسجّلة، تتعلّق بعودة بورقيبة من المنفى (1 جوان 1955) وأحداث ساقية سيدي يوسف (8 فيفري 1958) ومعركة بنزرت (جويلية1961) ويوم 15أكتوبر 1963 تاريخ جلاء آخر جندي فرنسي عن تونس... 
وهو ربّما العامل الذي أثّر في نسق استرسال الأحداث السردية الذي جاء رتيبا وكلاسيكيا في ظلّ غياب تامّ لعنصر الإثارة والتّشويق نتيجة عدم استغلال الأدوات والحيل البنائية للحبكة السينمائية (إطالة الزمن، إثارة قلق التوقّع، حركة الكاميرا وتنويع زواياها، اللقطة البطيئة، الحدث المفاجئ، المؤثّرات الصوتية والبصرية ...) التي من شأنها أن تساهم في شدّ انتباه المتفرج وتحفيز ملكاته الذهنية. هذه النقائص لمسناها أيضا من خلال تواضع الديكورات وحصرها في ثلاثة أماكن مملّة (منزل «حسّون»، المقهى، والشاطئ)، أين كانت تتحرك الكاميرا في دائرة مفرغة لتكتفي برصـــد مــــا يحدث داخلها. ومن ناحية أخرى لم تكن لغة الأزياء أكثر سلاسة نتيجة شحّ وغياب تصاميم مبتكرة للملابس والإكسسوارات التي ميّزت تلك الحقبة التاريخية، دون الحديث عن الاختيار غير المـوفّق لبعـــــض الممثـــلين الصــامتــين les figurantsوإقحام بعض الشخصيات الثانوية التي لم تلعب دورًا بارزًا في الأحداث.
فيلم «ولد العكري» يطرح موضوعا دقيقا، يلامس المسكوت عنـــه في تـــاريخ الحركة الوطنية وما رافقه من قراءات متعددة مثيرة للجدل نظرا إلى كثرة المناطق الرمادية وحالة الضبابية التي اتّسمـــت بهـــا تلك المرحلة الحســاسة من تاريخ الـدولة التونسية. ولكنّ المعالجة السينمائية لهذا الموضوع الحسّاس لم ترتق إلى مستوى التحدي الذي رسمه «الحبيب المستيري»، لا عن جهل من المخرج بل لأن هذا النوع من الأفلام يتطلّب منهجيّة بحث دقيقة تعتمد مراجع تاريخية موضوعية ومعطيـات وثائقية متنـوّعة، بالإضافة إلى إمكانيات بشرية ومادّية ضخمة لتحقيق عمل ناضج فنيا وفكريّا وتقنيّا.
محمّد ناظم الوسلاتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.