رشيد خشانة: في البرازيل سجنوا رئيسا ونحن عاجزون عـن إيقاف وزير سابق
اقتصر الاجتماع التشاوري الذي عُقد في قصر قرطاج يوم السبت 7 أفريل الجاري على الرئاسات الثلاث، إلى جانب الأمينين العامين لاتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة. وهذا إطارٌ جديدٌ للحوار، يبدو أنّه يرمي إلى الالتفاف على ثقل الاجتماعات التي عقدها الموقّعون على وثيقة قرطاج، والانطلاق نحو مناقشة حلول عملية للأزمة السياسية والاقتصادية التي تُمسك بخناق البلاد.
واستطرادا، شكل هذا الإطار الخماسي تجاوزا لإطار الموقعين على وثيقة قرطاج من جهة، وللثنائية المعهودة النهضة-النداء من جــهــة ثانيـــة. طبعا لا شيء يمنع اللجوء إلى هذا الحجم المُصغّر، طالما أنّه يقــع في الخــطّ المُمتدّ مـــن بواكــير الحـــوار الـــوطنـــي في 2013/2014 والـــذي لعبت منظّمتا الشغّــالين والأعراف دورا حاســما في إنجاحه.
الثّابــت أنّ مشكــل تــونس اليـــوم ليــس في الشّكــل الذي يتّخذه الحـــوار، وإنّما في مـــدى قــدرة كل طرف على التســامــي على ضغوطه الداخلية، التي تغلب عليها النّزعة الفئوية بالضّرورة، من أجل التشارك في حلول تُخرج البلاد من المُختنق السياسي، وتحدُ من تمدُّد الاقتصاد الموازي، وما يرافقه من تضاؤل الدخل الجبائي وتعاظم المديونية وتعثُّر النموّ وزيادة التضخّم. واكتسب هذا الاقتصاد الموازي اليوم من النفوذ السيـــاسي والقوّة الاقتصادية ما يجعل أيّة قـــرارات تتّخـــذها الحكومة في شأنه تظلُّ حبرا على ورق. فقد استثمر أباطرة التهريب والشبكــات المــوازية جميــع الثّغرات ليؤسّسوا دولة داخل الدولة لا يمكـــن تفكيـــك مكــوّناتـــها ولا ضرب بُنيتها الأساسية بسهولة، وهو ما أكــده بوضــوح تعــثُرُ الحملة على أشهر أبـــاطرة الفساد والمتـــورّطين معه.
لا يُبــالغ مـــن يقــول إنّ هنـــاك أنفـــاقا ومســـارب بين الــدائــرة الرسمــية والــدوائـــر الاقتصـــادية المــوازية، فثمّة قطعا تعاملٌ وتعاون يرقيان إلى مرتبة التكامل، ولذلك تعود الفرق التي تتوجّه لإلقاء القبض على مُهرّب أو لضبط شاحنة مُخالفة، بخفّي حُنين وبمرارة في الحلق، لأنّها تدرك أنّ اللعب أعلى من رؤوسها.
مــن مفــارقات الزّمـــن الرّاهن أنّ بلـــدا عمـــلاقا مثـــل البرازيل يسير فيه رئيس سابق نحو السّجن سيرا على الأقدام، تنفيذا لقرار القضاء، وإجلالا لمؤسّسات دولته، بالرّغم من أنّه ظل يُردّدُ آناء الليل وأطراف النهار أنّه «بريءٌ، والله بريءٌ» من تُهم الفساد المنسوبة إليه. وليس هذا الرجل رئيسا عاديا. إنّه إنياسو لولا داسيلفا، الزعيم العمالي الذي ظلّت تهتف له الملايين مناضلا ضدّ الاستبداد وقائدا نقابيا ثمّ رئيســا شعبــيا، أشـــرف على إصلاحات كبرى لا يُنكرها حتّى خصومه. داسيلفا رفض المناشدات عندما أكمل عهدته الرئاسية الثانية والأخيرة، وكان في متناوله مراجعة الدستور والاستمرار في كرسي الرئاسة، إلاّ أنّه رفـــض رفضـــا قاطعا وغادر عندما كان يجب أن يُغادر ذلك الكرسي. وهـــا هـــو القائد السبعيني يمتثل اليوم إلى حكم القضاء وفي القــلب حســـرة وفي الحلق غصّة، لكن بضمير مرتاح مثلما قال هو نفسه.
ما أبعدنا عن هذا المعدن من رجال الدولة، فالوزير الذي يدعوه القضاء في ربوعنا إلى المثول أمامه، يلجأ إلى جميع الوسائل القانونية في الأوّل لخداع العدالة، ثم يفرّ فرارا من وجهها عندما تُحاصره. أكثر من ذلك، لا يقتصر هذا الاستخفاف على المسؤولين السياسيين، سابقين أو حاليين، وإنما لا تتورّعُ شخصيات عامّة أخرى عن إتيانه، فتتجاهل استدعاءات القضاة وتمتنع عن تنفيذ قرارات العدالة، أسوة بما فعلته رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة مرارا وتكرارا، بلا أيّ رادع أو حسيب.
وبالعــود إلى الســـوق الموازية تُشير الإحصاءات إلى أنّها باتت تمثّل 10 في المئة من الدّخل الوطني، وأنّها تشمل فردا على كلّ ثلاثة أفراد من السكّان العاملين، الذين يُقدّرُ عددهم بنحو 3.6 ملايين عامل. ولا سبيل مستقبلا لإغراق هذا الاقتصاد الموازي واستعادة الأموال المخطوفة، التي تتحرّك يوميا في قنوات مكشوفة ومعلومة، سوى بوضع مشروع اقتصادي وسياسي إنقاذي. وقد أبان المشروع الذي أرساه الحوار الوطني عن كُنهه خلال السنوات الأربع الأخيرة، فبدا مشروعا أجوف، بوصلتُهُ مُوجّهة إلى منظوري الحزبين الكبيرين، بل إلى الصّفوة منهم، ممّا أدّى إلى تنازع بين الكتل والفرق المتنافسة والمتهافتة على المواقع كلّما فُتحت بورصة التوزير.
وعلى خلفية هذا الانطواء الحزبي، ترعرعت بعض الخطابات الشعبوية، التي تقتات من الإخفاق الاقتصادي (ارتفـــاع المديونية وتفاقم العجـــز وانـــزلاق الدينار...) والاجتمــاعي (تـــزايد البطالة وتمــدّد الفقر...)، لكي تُضـــرم مـــن الحرائق مـــا وسعـــها خطابُها العـــدمي، خــاصّة في المنـــاطق المُهمّشة، بإذكـــاء الشعــور بالمظلومية، وترسيخ روح البغضاء والتّنابذ بين جهات وفئات لا يُفــــرقُ بينهـــا دينٌ ولا طائفـــةٌ ولا عـــرقٌ ولا لغةٌ أو حتّى لهجة.
تعيش بلدان جنوب أوروبا أيضا ما يُشبه اللحظة الشعبوية، بدءا من حزب سيريزا المتشدّد يسارا (سابقا) في اليونان، إلى حزب بوديموس في إسبانيا، مرورا بالجبهة الوطنية المتشدّدة يمينا في فرنسا، وحركة النّجوم الخمس في إيطاليا. ويُعزى هذا المدّ إلى أنّ اللاعبين السياسيين والاجتــمــاعيين التقليديين لم يعودوا يستوعبون الحاجات المُلحة للغالبيــة العظمى مــن سكّـــان بلدهـــم، مـــع حرصــهم في الوقت نفسه على المحــافظة على مكــاسب المنظـــومة القــائمة.أمّا مــا تعيشــه إيــطاليا اليـــوم فهــو تفكّك الأحـــزاب الكـــبرى، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي (الشيوعي ســـابقا) والديمقــراطي المسيحي، واندثارها تقريبا، في إطار مسار بطيءنسبيا، هو بصدد توليــد نظام سياسي جديــد.
والـــدافع إلى هـــذه التحوّلات هو شعور رجل الشــارع بأنّ النـــظام السيــاسي التقليــدي، والتشكيــلات شبه المغلقة التي يعتمد عليها، تتجاهله ولا تكترث لمعـــانــاته، لا بل إنّها تفرض عليه سياسة تقشّفية مُمنهجة. من هنا جاءت الأزمـــة التي يصفهـــا البعـــض بأزمة انســـداد الآفاق، بحســـب تعبير إينيغو إريخـــون Iñigo Errejón مُنظّر حزب «بوديموس»، في كتـــابه الجديد «بناءُ شعب: من أجل تجذير الثورة».
نحن أيضا نحتاج إلى بناء شعب، بمعنى أن نُعيد صياغة الوحدة الوطنية على أساس مشروع جامع وتعدّدي في آن معا، يُوحّد التونسيين، ويوفّر لهم الأمان والكرامة، والحماية من السماسرة والمافيات، والاستفادة من الخدمات الصحية والاجتماعية، بلا رياء ولا شعارات فضفاضة. مشروعٌ يُرسّخ الانتماء إلى الوطن، وسط موجة الهجرة الكبرى للكفاءات، ويُكرس المساواة أمام القانون، ويُحاسب المتلاعبين بالقانون والمُضاربين بالمال العام. مشروعٌ يُجسر الفجــوة الحالية الخطرة بين «تونس الرسمية» و»تونس الحقيقية».
يكتمل هذا الأمل بالاتّجاه نحو تركيز الديمقراطية المحلية، التي ستشكّل ثورة في الإدارة وفي المنهج الذي تُساسُ به الدولة. وإذا لم يتجسّد ذاك الأمل ولم تتغيّر أساليب الحكم والإدارة، سيُجهض لا محالة الأمل في التغيير، فميزة الديمقراطية المحلية تكمن في أنّها ستجعل ممارسة السلطة، التي كانت تقوم على خضوع المحكومين للحــاكمين وفـــق حـــركة عمـــودية، إلى منحـــى أفقي بين فاعلين متساوين، بعدما كانت «التعليمات» تصدر من القمّة إلى القواعد. وهنا تكمن المراهنة على تخــلّي المـــواطن عــن استقالته وانخراطه في نحت مستقبله ومستقبل الأجيــال القادمة..
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق