محمّد ابراهيم الحصايري: إطلالة خاطفة على سياسة سلطنة عمان الخارجية
في الحقيقة... خامرتني فكرة هذه الإطلالة منذ فترة، وبالتّحديد منذ أن نجحت سلطنة عُمَان في أكتوبر 2016 في الإفراج عن الرّهينة تونسية الأصل فرنسية الجنسية نوران حواص الموظّفة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تمّ اختطافها واحتجازها في اليمن طيلة عشرة أشهر... وقد عاودتني هذه الفكرة، هذه الأيام، على إثر الزيارة التي قام بها وزير الشؤون الخارجية السوري وليد المعلّم الى مسقط، في أواخر شهر مارس 2018 أي على بُعْدِ أسبوعين من القمّة العربية التّاسعة والعشرين التي ستنعقد بالرياض في 15 أفريل 2018.
قد كان مــن الطبــيعـي أن تستقــطب هــذه الزيـــارة الأنـظار، إذ أنّهــا جـاءت في وقت تواتر فيه الحديث، خاصّة في ظلّ المستجـدّات التـي يشهدها الوضع في سوريا والتطوّرات التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط عموما، عن ضرورة عودة أو إعادة سوريا إلى حضيرة جامعة الدول العربية، وهو ما تجلّى، على وجه الخصوص، في تصريحات كلّ مـــن رئيس لجنة العلاقات الخـارجية في البرلمان العــراقي، عبد الباري زيباري، والنائب جاسم محمد جعفر البياتي، المقرّب من رئيس الوزراء العراقي الذي قال، يوم السبت 31 مارس 2018 إنّ العراق «يقود مساعي حثيثة لإعادة عضوية سوريا في جامعة الدول العربية»، وأكّد أنّ «العراق ومصر والجزائر وتونس تدعم بقوة رُجُوع سوريا إلى وضعها الطبيعي وإعادة عضويتها في الجامعة العربية»، مضيفا أنّ بلاده تنسّق من أجل ذلك مع الجزائر التي يجدر التّذكير بأنّها سبق أن رفضت إغلاق سفارتها بدمشق مثلما أوصت بذلك جامعة الدول العربية، وبأنّ وزير خارجيتها عبد القادر مساهل سبق أن زار في أواخــر شهر أفريل 2016، دمشق حيث التقى بالرئيس بشــار الأسد، ونقل إليه رسالة من الرئيس عبـد العزيز بوتفليقة، كما دعـا في سبتمبر الماضي، من مقرّ الأمم المتحدة بنيويورك، إلى إنهاء تجميد عضوية سوريا في الجامعة...وفي غياب معلومات دقيقة عن مجريات ونتائج زيارة الوزير وليد المعلم إلى مسقط، مباشرة بعد زيارته الى طهران، لا تستبعد تخمينات الملاحظين أن تكون قد اندرجت في نفس هذا الإطار، لا سيما وأنّ سلطنة عُمَان سبق أن عملت على تقريب الشقة بين سوريا وبين دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
كما إنّه ليس من المستبعد أن يكون توجّه دمشق نحو مسقط، في هذا الظّرف بالذّات، قد هدف إلى دعم التحركات العربية الرّامية الى عودتها أو إعادتها إلى حضيرة جامعة الدول العربية خليجيا... خاصّة وأنّ الرباعي الخليجي المصري قد يكون، مع استمرار قطيعته منذ جوان 2017 مع دولة قطر، يشعر بنوع من الحرج من ألاّ يطبّق على الدوحة نفس ما طبّقه على دمشق، علما بأنّ المعارضة القطرية طالبت بمعاملة بلادها نفس المعاملة لا سيما وأنّها كانت «بطلة» التحرّك الذي أدّى الى تعليق عضوية دمشق في الجامعة في شهر نوفمبر 2011، كما إنّها سمحت، عند احتضانها القمّة العربية الرابعة والعشرين في مارس 2013، لرئيس ما يسمّى «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية» باحتلال المقعد السوري وإلقاء كلمة أمام القادة ورؤساء وفود الدول العربية، ورفع علم «الثورة» داخل القاعة الرئيسية للمؤتمر...وبقطع النّظر عن مجمل هذه الحيثيات، وفي انتظار ما ستشهده القمّة القادمة من تطوّرات، أعتقد أنّه من المفيد أن نلقي بعض الضّوء على سياسة سلطنة عُمَان الخارجية وعلى العوامل التي جعلت من السلطنة دولة فاعلة على الصعيدين الإقليمي والدولي...
إنّ أهمّ هذه العوامل، فيما أرى، يتمثّل في أنّ السلطنة التي هي جزء من شبه الجزيرة العربية وكأنّها ليست منها، وهي عضو في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وكأنّها ليست فيه، سلكت نهجا متفرّدا في إدارة شؤونها الخارجية، وفي بناء علاقاتها الإقليمية والدولية، وهو نهج ثابت ومستقرّ منذ أن تولّى السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد السلطة سنة 1970، لا سيّما وأنّه اعتمد في تجسيمه على يوسف بن علوي أحد أقدم وزراء الخارجية العرب وأطولهم عمرا على رأس وزارته...
وتتمثّل أهم خصائص هذا النهج فيما يلي:
- أنّه يضع على رأس أولوياته الحفاظ على علاقات صداقة مع جميع دول المنطقة والعالم، بغربه وشرقه وجنوبه وشماله...
- أنّه يتوخّى مبدأ الحياد الدائم، وعدم التدخّل في شؤون الغير، والنّأي بالنّفس عن الصراعات والتكتّلات التي تدور حول السلطنة.
- أنه يتّسم بعدّة سمات لعلّ أبرزها الحكمة والاعتدال، والتوازن والاتّزان، والانفتاح.
- أنّه ينبذ كلّ أشكال الصدام، ويغلّب الحوار ويحرص على إبقاء بابه مفتوحا مع جميع الأطراف ومهما تعقّدت الخلافات أو تشعّبت الأزمات.
- أنّه يفضّل العمل في صمت وفي كنف الكتمان وبعيدا عن الأضواء والبهرج الإعلامي.
وقد تجلّت هذه الخصائص، من ناحية أولى، في العديد من مواقف السلطنة القديمة والحديثة على غرار عدم قطعها العلاقات مع مصر بعد توقيعها اتّفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ومحافظتها على علاقات جيّدة مع إيران رغم كلّ التقلّبات التي عرفتها العلاقات الخليجية الإيرانية والعربية الإيرانية بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979، وحديثا، إبقائِها على علاقاتها مع دمشق، ووقوفها الى جانب وحدة سوريا واستقرارها ومحاولة التوصّل إلى حلّ سياسي لأزمتها، وكذلك امتناعها عن المشاركة في عملية «عاصفة الحزم» التي تواصل المملكة العربية السعودية وبعض حليفاتها من الدول الخليجية شنّها على اليمن، للسنة الرابعة على التوالي...كما تجلّت، من ناحية ثانية، في تعدّد التحركات التي قامت بها الدبلوماسية العُمَانية من أجل الإفراج عن العديد من الرّهائن والمحتجزين من جنسيات مختلفة، وخاصّة من أجل المساهمة في حلّ الكثير من النّزاعات الداخلية والإقليمية والدولية، وكان من أبرز هذه التحرّكات دور الوساطة الذي اضطلعت به في التمهيد للاتّفاق بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد حول الملّف النّووي الإيراني، والجهود التي بذلتها في بداية سنة 2016، من أجل المساعدة على حلّ الأزمة الليبية وتقريب وجهات النّظر بين الفرقاء الليبيين، حيث استقبلت مدينة صلالة على مدى ثلاثة أسابيع الأطراف الليبية التي توصلّت إلى إعداد مسوّدة دستور ليبي جديد.ولقد تحوّلت السلطنة بفضل نجاحاتها، الكلّية أحيانا والجزئية أحيانا أخرى، في هذه التحرّكات إلى لاعب إقليمي ودولي موثوق به ويُعَوَّلُ عليه في جمع الكثير من الخصوم والأعداء حول طاولات الحوار والتفاوض من أجل تجاوز خلافاتهم ووضع حدّ لنزاعاتهم...أمّا السرّ في هذه النجاحات فإن الوزير يوسف بن علوي يلخّصه في مقابلة أجراها مع قناة «س.ن.ن» (CNN) الأمريكية سنة 2015، في قوله: «نحن لا ننحاز إلى هذا الجانب أو ذاك، بل نحاول أن ننقل لكلا الطرفين ما نعتقد أنّه جيّد لكليهما».
وما من ريب أنّ هذه المقاربة الحكيمة هي التي جعلت سلطنة عمان محطّ أنظار دول المنطقة والعالم وحوّلتها الى «منصّة» حقيقية للعمل الدؤوب من أجل مدّ جسور التواصل والتّحاور والتّفاوض بين الأطراف المتنافرة والمتدافعة والمتصارعة، ولقد أتقنت السلطنة الاضطلاع بهذا الدور حتّى باتت صديقة للجميع وحتّى بات البعض يعتبرها بمثابة «سويسرا» أو «نرويج» الخليج، وربّما «سويسرا» العرب كلّهم لا سيما بعد أن انحسر دور تونس المماثل خلال السنوات السبع العجاف الأخيرة... والسؤال الذي أختتم بــه هذا المقال هو متى تستعيد تونس التي ربطت بينها وبين سلطنة عمان وبين رئيسها الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة وبين السلطان قابوس بن سعيد ال سعيد علاقات وثيقة ووشــائج حميمة، في سبعينـــات القرن الماضي، دورها المفقود هذا؟
محمّد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق