مديـنة الثّـقـافــة : حضر المنجز و غاب التّصوّر
في السّادس من شهر جانفي 2017 ، صدر الأمر الحكومي عدد 76 ، ويقضي بإحداث وحدة تصرّف حسب الأهداف لإتمام الإعداد لافتتاح مدينة الثّقافة واستغلال فضاءاتها الفنّيّة والتّجاريّة و يضبط تنظيمها وطرق سيرها.الحدث، وقد خرج من طور الأحكام والأوامر والورق والتّلاعب الذي بقي عالقا به منذ أواسط التّسعينات ، مثّل، فعلا، حدثا فارقا إذا اعتبرنا ما تعانيه التّظاهرات الثّقّافيّة السّياديّة (مهرجانات أيّام قرطاج السّينمائيّة والمسرحيّة...) من عوائق على مستوى البنى التّحتيّة وما يتبعها من التّجهيزات الفنّيّة المطابقة لشروط العرض والاستقبال الاحترافيّة. والحدث على أهمّيّة بالغة أيضا فيما يتعلّق بمآل الفضاءات الاعتباريّة وتشيّئها مثلا بخصوص السّمة البيئيّة الخصوصيّة للمسرح البلدي الذي تحلّلت صفته الاعتباريّة بسبب التّغييرات التي أدخلت على مركّب البالماريوم وقد أصبح مركّبا تجاريّا شعبيّا بعد أن كان يجمع بين حركيّات مزدوجة مسرحيّة وسينمائيّة وسياحيّة.
من المنظور السّوسيوثقــافي، وكمنجز في مستوى البنية التّحتيّة، لا يمكن التّشكيك في أهمّيّته، لما يفترض أن يؤدّيه من إعادة تشكيل العلاقة بين المدينة كفضاء عمومي من جهة وتمظهرات الشّأن السّياسي والثّقافي والاقتصادي والاجتماعي، خاصّة في وتيرة انفعالاتها اليوميّة، بعد أحداث 14 جانفي2011. لكنّ المتأمّل في إتمام إنجاز مدينة الثّقافة وما حفّ بذلك من خلفيّات، يستشفّ تساؤلات محيّرة سنحاول تحليلها نقطة بنقطة. تتلخّص المبرّرات الأصليّة للمشروع، كما وقع تصوّره في ولاية بن علي، بمفهومين أساسيين وهما: الفضاء كبديل للنّقص في البنى التّحتيّة والذي بدأ يعلن عن نفسه منذ إعادة هيكلة فضاء البالماريوم واستقطاب النّخبة. بعبارة أخرى: الفضاء والنّخبة. وهذا يحيلنا إلى المعادلة المنشودة بين البنية التّحتيّة أي الفضاء المادّي من جهة، والبنية الفوقيّة كمورد فكري يضمن تأثيث الفضاء بالفعاليّات الثّقافيّة، من جهة أخرى. مفارقة بارزة وصادمة تعقّد حلّ المعادلة بالنّظر إلى تشكيلة المسؤوليّات التي عهدت إلى القائمين على شأن المدينة، نلاحظ أنّها تتكوّن أساسا من إداريّين، موظّفين بوزارة الشّؤون الثّقافيّة أو ملحقين بها قدوما من مؤسّسات أو وزارات أخرى عموميّة. والمتمعّن في الأمــر الحكــومي عدد 76 ، يلاحظ أنّ نصّه بنسبة الثّلاثة أرباع تقريبا يوثّق لتسميات الإداريّين الذين ستوكل إليهم إدارة مختلف المصالح المقرّرة في المدينة إضافة إلى التّعهّد ببرمجة الأنشطة الفنّيّة والثّقافيّة.
أيّ جوهر لهذه البرمجة؟ أيّ خطوط كبرى؟ أيّ مخطّطات؟ أيّ فلسفة؟
لا توجد في نصّ الأمر كلمة ولا إشارة للإجابة عن السّؤال الجوهريّ حول الدّروب والمسالك التي ستسلكها مدينة الثّقافة لتخليص الإبداع والثّقافة والفكر من ضيق الفضاء وإضاءته في ظروف احترافيّة تليق به ولا للخطوط الكبرى التي تحدّد مسالك هذا الإبداع.
وزير الشّؤون الثّقافيّة استعرض بعضا من النّقاط استحضرها الإعلام بإطناب واسع و مجملها يركّز على استحثاث إنجاز المدينة وعلى مواصفاتها كبنية تحتيّة وتأثيرها الإيجابي على خدمات الضّيافة سواء بالنّسبة إلى المنتجين والمبدعين أو بالنّسبة إلى الإعلاميّين. وفي هذا المعنى كانت له خلال الأسبوع الذي سبق حفل الافتتاح، جلسة مع مكتب نقابة الصّحافيّين أدّت إلى مذكّرة تفاهم حول تسهيل مهمّة الإعلاميّين وتمكينهم من ارتياد كافّة التّظاهرات الثّقافيّة بمجرّد الاستظهار ببطاقة الاحتراف الوطنيّة. ومن الملفت أنّ مسألة استقبال الصّحافيّين لم تكن مطروحة بقدر تستوجب اتّفاقا مع النّقابة. على أنّ ذلك يدخل في النّسق الاتّصالي للوزارة والذي يتمثّل في احتواء الرّأي العامّ من خلال احتواء الإعلام وسنّ امتيازات خاصّة به وتكليف البعض من عناصره بمهمّات اتّصاليّة وإعلاميّة كان جوهرها في ما يخصّ افتتاح مدينة الثّقافة الإبهار والإدهاش. من خلال الأرقام وأيضا من خلال المكانة التي سيوفّرها فضاء المدينة للعرض وللإبداع وللتّرفيه وللتّسوّق..وللجهات. إذا عدنا إلى وثيقة قرطاج،التي انبثقت عنها حكومة يوسف الشّاهد، التي أمضت على الأمر عدد76، نلاحظ أنّ مبدأ التّمييز الإيجابي الذي نصّت عليه الوثيقة، يضع هذا الأمر الحكومي في مأزق.
ففي الفصل 2 من الباب السّابع المتعلّق بإرساء سياسة خاصّة بالمدن والجماعات المحلّيّة، نقـــرأ ما يلي: «تحديد مخطّط عاجل لتحسين الخدمات العموميّة والمحيط العمراني في كلّ المدن(ترميم وتطوير البنية الأساسيّة والفضــاءات الثّقــافيّة والشّبابيّة والرّياضيّة والمناطق الخضراء)كواحدة من أولويّات الحكومة الوطنيّة التي ستتشكّل بعد تاريخ الإعلان عن الوثيقة(13 جويلية 2016) بأقلّ من شهرين. والمعلوم أنّ حالة الحرب على الإرهاب التي أعلنت في أعلى مستوى في السّلطة، وعدت بأن تتّخذ من المسألة الثّقافيّة سلاحا محدّدا في مقاومة الفكر الظّلامي و الرّجعي. وإن يكن وزير الثّقافة فكّر في برنامج لإخراج الجهات من التّهميش الثّقافي، فإنّ هذا البرنامج الذي أطلق عليه مدن الفنون، لم يؤدّ أيّ دور في هذا المعنى بل إنّه عرّض السّاحات المخصّصة لذلك للتّهميش ولـ«التّدنيس»إذ حوّلت إلى مراكن للسّيّارات وملاعب للكرة وأحيانا لمصبّات...
وها هي مدينة الثّقافة تعلن عن تخصيص مسرح للجهات. لأنّ قاعات العرض في الجهات، المغطّاة منها والتي تشتغل في الهواء الطّلق، لم تحظ بتعجيل «ترميمها» كما أنّ دور الثّقافة التي يفوق عددها عدد الولايات حيث تعدّ بعض الولايات أكثر من واحدة، لا تمثّل موقعا في اهتمامات الوزير الحالي ولا من سبقه. كما أنّ المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة التي لا تتوفّر على قانونها الأساسي، أصبحت تمثّل رمزا للتّزكية ولإرضاء الولايات المهمّشة التي بعث فيها الوزير مراكز جهويّة جلّها يتخبّط في مشاكل ومصاعب هيكليّة ومادّيّة.
هذا المشهد البانورامي الذي وقع فيه الإسراع بإنجاز مدينة الثّقافة لا يمكن أن ينبئ بتأصّلها في تصوّر فكري عضوي وهو تصوّر لا يؤاخذ على وزير الشّؤون الثّقافيّة بالذّات التّقصير فيه. إذ يفترض ألّا يكون معنيّا بالمسألة قطعا لأنّ تصوّر مدينة للثّقافة ليس من المشمولات الحصريّة للإدارة الثّقافيّة وإنّما هي مهمّة لا تقدر على صياغة مفرداتها إلاّ الدّولة بتكليف مجلس أعلى للثّقافة يحدّد الأولويّات فيما يتعلّق بالبنى التّحتيّة ويطرح تصوّرا للثّقافة في علاقة عضويّة بحاجات المدينة للثّقافة، مع استحضار التحوّلات الحادثة في المجتمع حتّى تستعيد مدينة الثّقافة فضاءها المرتهن حاليّا من قبل مؤسّسات الوزارة وموظّفيها وتلتقي بالفاعلين الضّمنيّين فيها.
لم كلّ تلك العجلة في افتتاح المدينة ؟ ألم يكن من الجدير التّمهّل في إنجاز الفضاء و التّفكير في إنتاج عرض متكامل يجمع بين كلّ التّعبيرات الفنّيّة الوطنيّة عوض اللّجوء إلى العرض الأوكراني، لا لأنّه غير تونسي و لكن لأنّه العرض نفسه الذي افتتح الدّورة 52 لمهرجان قرطاج الدّولي بإدارة السّيّد محمّد زين العابدين الوزير الحالي؟ إلاّ إذا كتب لها أن تكون نسخة مطابقة لما أراده لها بن علي.
فهل لو شــاء القدر أن يمدّد في ولاية بن علي وأنجز مدينة الثّقافة على يديه، ستكون مغايرة لما نراه عليها اليوم؟ وهل ستكون للدّولة بدائل للأزمات التي تحفّ بالوضع الذي فتحت فيه مدينة الثّقافة؟
فوزية بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق