ماذا فعل التونسيون بعد بورڤيبة؟
ليس المديح وحده الشّكل المناسب للتعبير عن القناعات والانتماء إلى فكر أو مشروع معيّن ...بل إنّ النقد أحيانا هو أرقى طرائق التّعبير عن التّقدير والامتنان لشخصية مهمّة في تاريخنا الشخصي أو الاجتماعي بشكل عامّ. أي أنّ نقد بورڤيبة هو مهمّة البورقيبيين في حين أنّ رفضه وتجريده من كلّ حسنة تذكر، هو دور الخصوم اللدودين.
في هذا الإطار من القراءة والنّقد، تتنزّل ملاحظاتنا النقدية للسياسة البورقيبية خلال فترة حكمه الممتدّة من 1956 إلى 1987.
لا شكّ في أنّ بورڤيبة هو رجل شغل بال التونسيين أكثر من أيّ رمز آخر عرفته بلادنا: فهو باني الدولة الوطنية الحديثة وهو صاحب المشروع التحديثي الجريء الذي لا تزال تونس تعيش على منجزه.
لكن نلاحظ أنّ بــورڤيبة قد تحـــوّل في السنوات الأخيــرة إلى أكثـــر المواضيع إثارة للجدل والاختلاف أي أنّه محلّ تجاذب أيديولوجي حقيقي بين أطراف حريصة على تقديسه والذّود عنه وأطراف أخرى مهووسة بشيطنته والتعـــامل مـعـــه ليــس من زاوية الخصم الأيديولوجي بل كعدوّ حقيقي ترك من الآثار ما يصعب محوها حتّى بعد موته.
إذن بورڤيبة أصبح موضع خلاف ما فتىء يتعاظم وتشتعل الحرائق والخصومات الجديّة حوله. وهو يتراوح – أي بورڤيبة- إذا ما أردنا حصر المسألة بين صورتين اثنتين : صورة بورڤيبة الأب وصورة بورڤيبة العدوّ. بالنّسبة إلى من يتبنّون صورة بورڤيبة الأب هم الذين يعترفون له بدوره التاريخي في بناء الدولة التونسية ويدركون أهمية الإصلاحات التي قام بها ومثّلت ثورة حقيقية في مجال الأسرة والعلاقة بين الجنسين وفي هدم الهياكل التقليدية للمجتمع وإعادة بناء العقول على حدّ تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. إنّ تونس هي مطبوعة بنظرة بورڤيبة إلى العالم وبروحه وبعبقريته ولولا مشروعه التحديثي لما استطاعت بلادنا تجاوز امتحانات كثيرة. فمكاسب الحكم البورقيبي نوعيّة ومتغلغلة في البناء الاجتماعي للمجتمع التّونسي: الرّجل أصدر مجلة الأحوال الشخصية وانتصر لحقوق المرأة وأقام المحاكم المدنية واشتغل على عقلنة التونسي أكثر ما يمكن. وهو من راهن على التّعليم ودمقرطته ومجانيته واهتمّ بصحة التّونسي. لقد كان التونسي جسدا وعقلا ومعرفة وكرامة الشغل الشاغل لبورڤيبة ونجح في تشكيل مجتمع على نحو جعل فيه المجتمع التونسي يختلف عن المجتمعات العربية الأخرى فيما يتّصل بالعلاقة بالتاريخ والثّقافة والذّات العربيّة الإسلاميّة والأخر المتعدّد ثقافيا. لذلك لطالما وصف بورڤيبة صاحب الكاريزما ورجل الدولة الثّاقب بالأب الرمزي للتونسيين. وهو كذلك لأنّه رجل دولة وصاحب مشروع وصاحب مكاسب وإنجازات، إضافة إلى أنّه أحبّ تونس كما لم يحبّها سياسي آخر. طبعا بورڤيبة هو مدرسة في الفعل السياسي والحضور ويمثّل مرجعيّة مغرية للعديد من الأحزاب والسياسيين الموجودين اليوم والفاعلين في الحقل السياسي الرّاهن. بل إنّ في استحضاره مجال تسابق وتنافس لتحقيق أقصى ما يمكن من مشروعية. البوقيبيون اليوم يرون أنّ تونس لاتزال تتمعّش من المنجز البورقيبي، الذي رغم ما عرفه هذا المنجز من تدهور وتراجع إلا أنّه يبقى حامي البلاد ومصدر صمودها وعدم انهيارها بسبب ما عرفته من تشويش أيديولوجي هائل مسّ الشّباب والنّساء. ولكن ما لم ينتبه إليه البورقيبيون هو أنّهم لم يفعلوا للمشروع البورقيبي شيئا يذكر وأنّ وجودهم في الحكم لم يوظّفوه لدعم المشروع البورقيبي كما يجب. فكانت أغلبيهم عاشقة لبورڤيبة أو مستثمرة لرمزيته دون استيعاب عميق وصادق للبورقيبية فكرة ومعنى ومشروعا وطريقة في التّفكير والفعل السياسيين وتمّ التغافل عن حقيقة هي أنّ البورقيبية مشروع مفتوح على التراكم والإنجاز والبناء.
هذا حال من رأى في بورڤيبة الأب ..فكيف حال من نصّبه عدوّا؟
لنأتي الآن إلى الفريق الــذي يعـــادي بورڤيبة ويرى فيــه أصـــل البـــلاء في تــونس: هــؤلاء لا يعــترفون بأيّ مزيّة للمشـــروع البورقـــيبي ومقاربتهم بنيــوية على طـــريقتهم. فالمشـــروع التحـــديثي لبورڤيبة مرفوض بالنّسبـــة إليهــم جملة وتفصيلا وما يسمّى المكاسب التحديثية هم يعدّونها الأخطاء التّاريخية لبورڤيبة. طبعا نفهم الاختلاف باعتبار أنّ من حقّ أيّ طرف أيديولوجي أو سياسي أن يتبنّى مشروعا للتغيير الاجتماعي خاصّا به. ولكن ما نراه في السنوات الأخيرة أي مرحلة ما بعد الثّورة هو الاستعداء ومحاولات التّهميش المقصودة بشكل لا يتنزّل بالمرّة في إطار نقاش وطني عقلاني. هناك تعسّف واضح من طرف أعداء بورڤيبة على بورڤيبة وهو تعسّف ضد التّاريخ وضدّ الخصائص السوسيولوجية للمجتمع التونسي . فالإصلاح تعتّق مع بورڤيبة من منطلق كونه زعيما يتمتّع بصلاحيات الفعل والمبادرة والجرأة. كما أنّ الأفكار الإصلاحية نبتت في التربة الثقافية السوسيولوجية مع أعمال الوزير خير الدين وتواصلت مع المفكّر الاجتماعي الإصلاحي الطاهر الحداد من خلال كتابة المرجع الأقوى لمجلّة الأحوال الشخصية « امرأتنا في الشريعة والمجتمع» وأبو القاسم الشابي صاحب المقاربة النّقدية للخيال الشعري عند العرب ...لقد بدأت عجلة النّقد تدور قبل بورڤيبة وهو من سقى محرّكها وقطف ثمارها وقدّمها طازجة للمجتمع التونسي. أي أنّ أعداء بورڤيبة ينكرون الاستعداد الثّقافي التونسي لتقبّل مشروع بورڤيبة التحديثي ويتعاطون معه كمشروع صلب ثابت والحال أنّ كلّ مشروع يتّصل بالتحديث هو قائم على النّقد المستمر، باعتبار أنّ الحداثة مشروع مفتوح في الزّمن ومرن في كيفية تواصله مع الثقافات والرّؤى والواقع والتّاريخ.
من المهمّ جدّا عقد علاقة توافق مع مشروع الدولة الوطنية الحديثة: توافق حقيقي فكري وليس فقط سياسيا. ولا ننسى أنّ العداء هو ليس بين أشخاص بقدر ما هو تنافر بين المرجعيات. من ذلك أنّ أطروحات حركة الاتجاه الإسلامي قبل أن تصبح حركة النهضة وما قبل ذلك أيضا كان من غير الممكن التواصل مع إصلاحات بورڤيبة بحكم طابع المعارضة الراديكالية الاحتجاجية من جهة، وبحكم تعارض المرجعيات والمشاريع من جهة ثانية. وبناء على مواقف حركة النهضة من الدستور الجديد التي كانت طرفا في كتابته وفي المصادقة عليه يصبح في الحقيقة لا معنى لموقف الاستعداء الذي يحمله البعض من الإسلاميين ضد بورڤيبة ومشروعه تحديدا.
فكلّ الفاعلين اليوم في الحقل السياسي هم بورقيبيون شاؤوا ذلك أو أبوا.
لا شكّ في أنّ للمشروع البورقيبي نقائص تماما كما له مكاسب ومنجزات ولكن لن يستقيم النّقاش الوطني إلا بضمانتين اثنتين: الأولى توضيح الموقف من المنجزات والانخراط فيها لا فقط سياسيّا بل أوّلا وأساسا ثقافيا وفكريا، والضمانة الثانية المتّصلة بدورها بالأولى تتمثّل في أنّه لا مجال لاستكمال النقائص في معزل عن تبنّي المكاسب والدخول في تجربة المشاركة في عملية البناء الخاصّة بما هو منشود. طبعا للتّجربة البورقيبية نقائص عدّة لعل أهمّها تهميش التعليم الديني والمؤسّسة الزيتونية معرفيا، الشيء الذي خلق تراكما من الفراغ الديني والجهل بالدّين استثمرته التنظيمات الجهادية التكفيرية وهو ما جعل العالم يُفاجأ بظاهرة انتداب هذه الشبكات للشباب التونسي الذي هو سليل تجربة رائدة في العلمنة والتحديث. كما أنّ الانشغــال بالتنمــيــة الاجتمـــاعيــة والاقتصادية وإهمال البعد السيـــاسي منهــا لا يمكن أن يحــسب ضــدّ بورڤــيبــة، بل هي من المؤاخذات التي من الأجــدر توجيهها إلى النظام الذي تلى الحكم البورقيبي لأنّ التنمية مسار كامل يتراكم شيئا فشيئا ولم يكن بوسع بورڤيبة أن يخوض غمار التنمية بكل أبعادها والحال أنّ المجتمع قد خرج من الاستعمار للتّوّ آنذاك ويحتاج إلى تأهيل اجتماعي كامل. يبدو لي أنّ بورڤيبة هو من يحقّ له نقدنا بشدّة اليوم: ماذا فعل التونسيون بعده؟ أي تراكم جديد تمّ تحقيقه؟ ثم إنّ بورڤيبة لم يدع في خطاباته الكثيرة أنّه قدّم مشروعا كاملا ومتكاملا إلى تونس.
إنّ الخطاب المسكوت عنه صراحة هو أنّ بورڤيبة عبّد الطريق بشكل جعلها لا تتفاعل إلاّ مع مشاريع للتغيير الاجتماعي تتوافق والهندسة التحديثية للدولة التي أسّسها بورڤيبة. بورڤيبة كـان صاحب مشـروع ورؤية قابلين للنقد والتقويم ولكن ليس للهجاء والاستعداء.
د. آمال موسى
شاعرة وأستاذة جامعية (علم اجتماع)
- اكتب تعليق
- تعليق