اصدارات - 2018.03.08

البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية (1956 - 1986)

البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية (1956 - 1986)

انطلاقا من أرشيف وزارة الشؤون الخارجية المرحّل إلى مؤسّسة الأرشيف الوطني في سنة 2009 أعدّ كلّ من لطفي عيسى ورياض بن خليفة وكريم بن يدّر- وثلاثتهم أساتذة وباحثون جامعيون في التاريخ -كتابا بعنوان: «البعد الإفريقي في السياسة الخارجيّة التونسية (1956 - 1986)».

والكتاب من منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان الذي أراد من خلال «مغامرة معرفية جميلة» ألّفت بين مجهوداته البحثيّة ومجهودات مؤسّسة الأرشيف الوطني وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية وجامعة تونس وتحـالف دولة الاتّحاد (State of the Union Coalition) إبراز تعلّقه بالبعد الإفريقي في رسالته القائمة على نشر ثقافة حقوق الإنسان الكونية، كما أوضح ذلك رئيسه أ.عبد الباسط بن حسن.

ويقوم الكتاب على عرض وصفي مادّي للرصيد الأرشيفي المتعلّق بعلاقات تونس بمختلف دول القارّة الإفريقية والتوقّف مجهريّا على عيّنات نموذجية تحيل على مجالات التعاون الثنائي ومقارنة المستوى الذي بلغه مع ما تمّ تحقيقه على صعيد التعاون المتعدّد الأطراف. كما يتضمّن هذا الإصدار تقييما لمساهمة تونس في النضال من أجل تصفية الاستعمار ببلدان القارّة ومناهضتها الصريحة لسياسات الميز العنصري ضدّ الأغلبية السوداء بجنوب إفريقيا مع تقييم مشاركتها في إنشاء منظّمة الوحدة الإفريقية وتوضيح تصوّراتها السياسية بخصوص أنجع السبل الضّامنة لدفع التّعاون الإقليمي على مستوى القارّة.

وقدّم للكتاب رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي الذي أكّد أنّه «آن الأوان للقيام بمراجعة عميقة لسياسة بلادنا تجاه القارّة الإفريقية وتطوير التعاون مع البلدان الواقعة جنوب الصحراء شرقا وغربا».

وأضاف: «ولأنّ الحال يحتاج منّا قراءة أوضاعنا بشكل يتلاءم مع ما تعيشه بلادنا منذ سنة 2011، فإنّ المحصّلة التي أقرّها من ركّزوا مجهر الإضاءة على تجربة الدبلوماسية التونسية طوال عهد أوّل رؤسائها وبالنظر إلى ما آلت إليه علاقاتنا مع إفريقيا بعد ذلك من انحسار يدعونا إلى مراجعة عميقة لسياستنا الخارجية المتّصلة بالقارّة الإفريقية».

ونورد من الكتاب هذه الورقات

دور تـونس فـي التـأسيــس منظّــمة الـوحـدة الإفــريقيـــة

كانت نشأة منظّمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا يوم 25 ماي 1963 حيث لعبت تونس في هذا المستوى دورا نشيطا ومباشرا سواء أثناء الإعداد للمؤتمر أو ضمن فعالياته. وتشهد وثائق أرشيف وزارة الخارجية على ذلك من خلال:

  • تأثير شخصية الزعيم بورقيبة والرمزية النضالية التي تمتّع بها – والتي شهد له بها  هيلي سلاسي Haîlé Sélassié 1936 – 1930 1941 ـ 1974 الذي حرص شخصيا على حضور الرئيس التونسي رغم اعتذار هذا الأخير بسبب ارتباطه بالتزامات سابقة. وشدّد الإمبراطور الأثيوبي على حجم الخسارة التي يمكن أن يتعرّض لها المؤتمر التأسيسي لمنظّمة ذات توجّه إقليمي في صورة غياب زعيم وطني قاري يتمتّع بقامة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة»، ومذكّرا في ثنايا رسالة ثانية بتاريخ 26 مارس 1963، بالدعم الكبير الذي يمكن أن تحظى به مبادرة تأسيس تلك المنظّمة في صورة مشاركة الرئيس بورقيبة. وقد مثّل هذا الحرص واحدا من الأسباب التي أقنعت الرئيس التونسي بالتراجع عن قراره وحضور أشغال المؤتمر خاصّة بعد أن تأكّد من اقتناع البلد المنظّم بوجاهة شروط انعقاده.
  • مساهمة تونس في الإعداد الجيّد للمؤتمر، من خلال التأكيد على ضرورة أن يسبق تاريخ انعقاده تنظيم قمّة تضمّ وزراء خارجية الدول المشاركة بغرض تذليل المسائل الخلافية. وهو ما أكّد عليه الزعيم بورقيبة في رسالة بعث بها إلى إمبراطور أثيوبيا بتاريخ 1 فيفري 1963. وقد تمّ ذلك بالفعل حيث عقدت في 15 ماي 1963 سلسلة من الاجتماعات ضمّت وزراء خارجية الدول الإفريقية المشاركة ومكّنت من تقريب وجهات النظر بينها بشكل ملموس...
  • المشاركة التونسية النشيطة والفعّالة في مؤتمر أديس أبابا التأسيسي وذلك منذ الاجتماعات التحضيرية التي عقدها وزراء الخارجية، وترشيحها للمشاركة في اللجنتين المكلفتين بإعداد جدول أعمال اجتماع رؤساء الدول والحكومات. وقد ساهمت الدبلوماسية التونسية في اجتماعات عمل أغلب الوفود، ونسجّل في هذا الإطار أهمية اللقاءات الجانبية التي جمعت الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بالرئيس الجزائري أحمد بن بلّة، وبالرئيس المصري جمال عبد الناصر. فقد مكّن هذا التحاور من إذابة الجليد بين الدولة التونسية وهذين البلدين العربيين والإفريقيين.
  • سعي تونس لإنجاح هذا المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الإفريقية حتّى وإن كلّفها ذلك تنازلات لم تكن لتقبل موضوعيا بتقديمها. فرغم أنّ الفصل العاشر من ميثاق المنظّمة الذي ينصّ، في فقرته الثانية، على أنّ التصويت على القرارات يكون بأغلبية الثلثين، خيّرت تونس «الإمضاء على الميثاق حرصا على عدم تعطيل أعمال المؤتمر وتفاديا لتعكير الأجواء الاحتفالية التي كانت سائدة زمن الإمضاء على الميثاق بعد إقراره من قبل تلك المنظّمة القارية الفتيّة» غير أنّ الرئيس بورقيبة كلّف كاتب الدولة للخارجية «المنجي سليم» بالتنصيص على اعتراض تونس رسميّا على بعض ما جاء في الميثاق. واعتبرت الدبلوماسية التونسية، في الرسالة التي وُجّهت إلى وزير خارجية أثيوبيا بتاريخ 26 ماي 1963، أنّ الفصل المشار إليه «يمسّ وبشكل خطير من سيادة الدول واستقلالية قرارها الوطني. فالدستور التونسي لا يسمح بمثل هذا التخلّي عن السيادة الوطنية». أما التنازل الثاني الذي قدّمه الوفد التونسي خلال المؤتمر التأسيسي، فقد ارتبط بـ «صندوق توفير الدعم المادي لحركات التحرّر الوطني بإفريقيا» الذي اقترح إحداثه كلّ من الرئيس الجزائري أحمد بن بلّة والغيني «أحمد سيكوتوري» فقد اعتبر الوفد التونسي أنّ فحوى هذه المبادرة يمكن أن يشكّل تغليبا للتوجّهات «الديماغوجية» ومدخلا للتوظيف الإيديولوجي بالحثّ على تغليب منطق الاصطفاف والنّزاع. ورغم ذلك، فقد امتنعت تونس عن القيام بأيّ مبادرة من شأنها أن تعطّل هذا الاقتراح كي لا يؤوّل تصرّفها على أنّه سلوك مرتفع وغير مكترث بنضالات الحركات الوطنية، أو معرقل لمشروع اقترحته الأطراف المحسوبة على الخط «الثوري» داخل المنظّمة.

وعموما فقد ساند الوفد التونسي، وفيما عدا مسألة التصويت بالثلثين وصندوق دعم حركات التحرّر الوطني، ودون تحفّظ، كلّ ما جاء في ميثاق المنظّمة، بل وترشّح كاتب الدولة للخارجية التونسية لعضويّة لجنة تكوّنت من أربع دول افريقية هي تونس ونجيريا وليبيريا ودولة رابعة، حدّدت هويتها لاحقا، كلّفت بالسفر إلى نيويورك لمتابعة القضية الأنغولية ودعم مختلف القضايا العادلة للدول الافريقية المستعمرة حال مناقشتها أمام مجلس الأمن الدولي. وتقدّمت تونس خلال أشغال هذا المؤتمر التأسيسي باقتراحين، تمثّل الأوّل في حذف مصطلح «ملغاشي Malgache»، وارتبط الثاني بالدعوة إلى اعتماد اللغات الوطنية الإفريقية، بما في ذلك العربية، كلغات رسمية للمنظّمة إلى جانب الفرنسية والإنجليزية. وقد حظي هذان المقترحان بقبول أغلب الوفود المُؤتَمرة.

تمكّنت الدبلوماسية التـونسية خلال مؤتمر أديس أبابا التأسيسي من تحقيـق مكاسـب عديدة على أكثر من مستـوى، من ذلك مثلا:

  • تغليب المؤتمر للتصوّرات المعتدلة المتصلة بمسار تحقيق الوحدة المنشودة للقارة الإفريقية بما يتماشى ورؤية الدبلوماسية التونسية بخصوص هذه المسألة، حيث تأسّست المنظمة وفق إدارة حرّة لدول مستقلة قرّرت «من دون التخلّي عن سيادتها، التعاون وتنسيق سياساتها في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بما في ذلك التفكير في خطة دفاعية وأمنية مشتركة».
  • التّأكيد على الدور المحوري الذي لعبته الدبلــوماسية التـونسية على المستوى الإفريقي منذ سنة 1957، وترجمته إلى حضور فعّال داخل أبرز مـؤسّسة متخصّصة في العمل الإفريقي الجماعي.
  • دعم العلاقات الوديّة التي جمعت تونس بأغلب الدول الإفريقية وتنقية العلاقات التي شابها التوتّر من خلال النجاح في تهدئة الأجواء والعودة إلى الحوار وخاصّة مع الجارة الجزائرية.
  • تثبيت صورة تونس باعتبارها بلدا مسالما ومعتدلا و»عقلانيا» يطمع إلى لعب دور الوساطة الدبلوماسية، والتّقريب بين وجهات النظر، وتشبيك المصالح بين دول إفريقيا والدول الأوروبية والغربية عامّة. وهي صورة عكسها، وبامتياز خطاب الرئيس الحبيب بورقيبة الذي قوبل بكثير من الترحاب وخاصّة من قبل وفود الدول الإفريقية الموسومة بالاعتدال.

فقد عاد الرئيس بورقيبة، رغم مواقفه المبدئية المتّصلة بمناهضة جميع أشكال الاستعمار، إلى بناء علاقات تعاون وثيق مع الدول المتقدّمة، وأكّد في مواطن عديدة من خطابه أمام المؤتمرين على ضرورة احتماء الدول الافريقية بالمظلّة القانونية الأمميّة، سواء في معركتها المتّصلة بالتخلّص من الاستعمار أو ضمن معركة تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، تلك التي ظلّت في نظره الخاصّ الضامن الرئيسي لاستقلالها. «الاستقلال ليس غاية في حدّ ذاته بل وسيلة تستنـد إليها الشعـوب لتحقيق ما تصبو إليه من رفاه وتقدّم».

وقد لخّص هذا الخطاب الذي حمل عنوان «الوحدة مع التنوّع» التوجّهات الكبرى للسياسة الإفريقية لتونس التي ظلّت، على الرّغم من تميّزها بسمــوّ المبادئ وتنوّع المخطّطات وتماسكهـا من الناحتين النظرية والعملية، خاضعة في تطبيقها لتقلّبات الظرفيتين الداخلية والدولية. وبرز ذلك بشكل أساسي من خلال نسق انخراط تونس في عمـل منظّمة الوحدة الافريقية الذي طُبع عامّة بعدم الاستقرار منذ تاريخ بعث تلك المنّظمة القارية وإلى حدود سنة 1986.

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.