أخبار - 2024.07.16

قراءة لكتاب كمال الحكيم: »زهيّر العيادي، ذاكرة نضال في السياسة والصحافة والرياضة« - تجاوز سرديات الذاكرة واقتحام مجال التاريخ

قراءة لكتاب كمال الحكيم: «زهيّر العيادي، ذاكرة نضال في السياسة والصحافة والرياضة»; تجاوز سرديات الذاكرة واقتحام مجال التاريخ

بقلم حبيب القزدغلي - كل الشكر للسيد كمال الحكيم صاحب كتاب: «زهير العيادي، ذاكرة نضال في السياسة والصحافة والرياضة» وكل الشكر للصديق توفيق الحبيّب الذي قبل إصداره ضمن منشورات ليدرز وتولى تقديمه بنفسه وفي ذلك تأكيد إضافي على التزامه بواجب الاسهام في التعريف بشخصية من طراز زهير العيادي في كتابٍ يوثّق مختلف مراحل نضاله ومساهماته في تاريخ تونس المعاصر وطنيا ومحليا، وكل الشكر أخيرا للسيدة نسيبة العيادي نجلة الفقيد التي أعلمتني بصدور الكتاب عن دار ليدرز (Leaders) بتونس في طبعته الأولى في جوان 2024، حيث لم أنتبه لذلك في الابان نظرا لوجودي حينئذ في مهمة بحثية في الخارج.

احتوى الكتاب على 102 صفحة من الحجم المتوسط وقد سارعت للاطلاع عليه في صبيحة نفس اليوم الذي وافتني  السيدة العيادي بنسخة رقمية منه ومرد ذلك حب الاطلاع على ما احتواه من جديد بشأن الرجل وعلى المقاربة المتوخاة من طرف المؤلف خاصة وأنه سبق لي التعرف على  "الزوهاردي" منذ أكثر من أربعة عقود عندما كنت بصدد اعداد رسالة الدكتوراه في التاريخ حول تطور الحركة الشيوعية بتونس التي نوقشت سنة 1988 والتي اطلع عليها المؤلف عليها في نسختها المطبوعة من طرف كليتي سنة 1992 كما أن حرصي على الاطلاع يعود للنقاشات العديدة التي جمعتني بالصديقة نسيبة على مر السنوات الماضية حول جوانب خفيت عنها في مسيرة والدها.لقد أبرر المؤلف اعتماده المقاربة البيوغرافية في متابعة مسيرة حياة زهير العيادي علاوة على أهمية السير في إثراء التاريخ وترسيخ الذاكرة الوطنية والمحلية على حدّ السواء، لكونها شخصية «لم تنل حظّها من التعريف والدّراسة» (ص 18) وهو في رأينا ليس استثناءً في هذا "التناسي" اذ لا تزال الكثير من أسماء الفاعلين التاريخيين في مختلف المجالات السياسية والنقابية والثقافية... في طي النسيان، "الواعي واللاواعي" على حد السواء وهو موضوع على أهميته لا يسمح المجال بتناول أسبابه وظروفه. فحداثة المقاربة التاريخية الخاصة بالسير لم تكن دائما محل اجماع من طرف المؤرخين أنفسهم. ونحن نسجل اليوم بكل إيجابية ظهور العديد من كتب السير لمناضلين سياسيين وغيرهم مما يبشّر بترسيخ هذا المجال وفتح ابوابه امام الباحثين. وتكمن اهمية اسماء مثل اسم زهير العيادي في كونها اسماء لأعلام انتمت الى النخب التونسية التي كان لها أدوار مفصلية في مختلف مراحل تاريخنا الوطني منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى يوم الناس هذا.  

يخبرنا المؤلف بأنه سلك مسلكا "كرونولوجيا" في التعريف بزهير العيادي حيث تابع أهم المحطات المتتالية في حياته حيث جاء الكتاب في ثلاثة فصول بدءا من نشأته بصفاقس والتحاقه بتونس العاصمة لمواصلة الدراسة والشروع في خطواته الأولى في النضال السياسي ضمن الحركة الشيوعية الناشئة (الشبيبة والجامعة وكمحرر في صحيفة "المستقبل الاجتماعي"). وتلاه الفصل الثاني الذي تعلق باسهاماته المحلية الهامة والمتميّزة بمدينة صفاقس في النضال السياسي (الدستوري) والصحافي والجمعياتي وانتهاءً بعرض "قضية" العقار الفلاحي الذي كان على ملكه وما أثاره من لغط في علاقته بالسلطة الاستعمارية ثم بأطراف تونسية بعد الاستقلال.وأراد المؤلف بتوخيه هذا التمشّي «الكرونولوجي» الاتيان على أهم المحطات في مسيرة زهير العيّادي بما يمثله من «انموذج» ومثال لـ «فئة من النخب التونسية المثقفة والفاعلة ميدانيا على الصعيدين السياسي والتأسيسي وطنيا وجهويا» (ص 19)، وقد بذل المؤلف مجهودا ذا بالٍ في التعامل مع المصادر الارشيفية ومع المراجع المنشورة بحثا عن المعلومة الواثقة قصد إثراء مؤلفه، ولنا بعض الملاحظات التي يمكن الاسهام بها في اثراء النقاش حول هذه الشخصية المناضلة:

1. يُعَدّ العيادي أحد الذين طالهم القمع الذي سلطته السلط الاستعمارية على مناضلي الجامعة الشيوعية بتونس الأوائل اثر بعثها في نهاية شهر مارس  1921، حيث تمت محاكمة زعيمها روبار لوزون وطرده من البلاد وحظرت نشاط الجامعة (في شهر مارس 1922)، ورغم ذلك واصل العيادي النشاط مع مجموعة من رفاقه حيث دعوا في شهر أفريل 1922 الى مقاطعة زيارة الرئيس الفرنسي ميلران لتونس يوم 27 أفريل  فتم اعتقالهم... ولعل مساهماته في تحرير صحيفة الجامعة بالفرنسية «المستقبل الاجتماعي» كانت متميزة اكسبته دربة في العمل الصحفي ودراية بها ستكون له معينا في تجربته الصحافية اللاحقة ضمن الصحيفة التي سيشارك فيها ثم يملكها وفي عنوانها أكثر من معنى (تونس الجديدة) La Tunisie nouvelle.

2. لا شك في أن انخراط العيادي، الشاب، في الجامعة الشيوعية لم يكن إلا تجاوب مع ما كان يطرحه الشيوعيون بتونس من برامج ومطالب تستجيب إلى طموحات الشباب التونسي المتعلم والمتفتح وخاصة في جانبها الوطني حيث كان الشيوعيون أول من طالب باستقلال البلاد.

3. لقد نجحت الجامعة الشيوعية نسبيا في سعيها إلى "تونسة" نشاطها حيث عملت على التعريف ببرنامجها ليس فقط ضمن دائرة الفرنسيين بل اهتمت أيضا  بالشبان التونسيين من مسلمين ويهود وحرصت على تأطيرهم وتشريكهم في أنشطتها فوجد الى جانب العيادي عدد من هؤلاء الشبان التونسيين المتحمسين مثل أحمد بن ميلاد ومحمد بن حسين وغيرهما. وقام زعيم الجامعة روبار لوزون بمجهود كبير من أجل تكوينهم السياسي سواء في مجال النشاطات الميدانية (تنظيم الاجتماعات، توزيع المناشير، التحريض...) أو عبر اصدار العديد من  الصحف باللغة  العربية (قامت السلط بملاحقتها ومنعتها بسرعة خوفا من انتشار الأفكار الجديدة في أوساط التونسيين) والفرنسية، مما جعل هذا الرجل يكون  قدوتهم بما كان له من تأثير على هؤلاء الشباب استمر لفترة طويلة حتى بعد اعتقاله وطرده من تونس في صيف 1922.

4. تبيّن مسيرة العيادي وغيره من التونسيين أن  تجاوبهم مع اطروحات الجامعة الشيوعية كانت لاعتبارات سياسية- أكثر منها إيديولوجية محورها الفكر الماركسي-  حيث عملت الجامعة على التعريف بمفاهيم اجتماعية عامة مثل الصراع بين الفقراء والاغنياء وبين المستعمِرين الفرنسيين الأجانب والأهالي التونسيين، ورفض الاستغلال والظلم، والحلم بمجتمع إنساني يسوده العدل والحرية والمساواة، وبقيت آثار هذا التكوين في وجدان العيادي وغيره حتى بعد انفصالهم عن الحركة الشيوعية ولعل في معاداته للفاشية الايطالية ودعوته إلى تعليم المرأة...، وفي مساندته للتجربة التعاضدية بعد الاستقلال شيء من ذلك.

وكل هذه المثل الاجتماعية النبيلة أصبحت تاريخيا قيما مشاعة في تونس في برامج مختلف مكونات الحركة الوطنية. فالجانب الاجتماعي الذي دعت اليه الجامعة الشيوعية سيعرف امتدادا  عبر ظهور الحركة النقابية التونسية بمنظماتها وتجاربها المختلفة منذ 1924. فقد عبر العيادي عن مساندته النشيطة لجامعة عموم العملة التونسية التي شارك فيها مع رفاقه الشيوعيين حيث يذكر الدستوري أحمد توفيق المدني في مذكراته "حياة كفاح" ص.( 284)" فبينما كنت لوحدي من الحزب الدستوري كان الأخوان مختار العياري وزهير العيادي من رجال الحزب الشيوعي التونسي يلتفون حول الأخ محمد علي الخ..." ويضيف المدني في صفحة 287 " اختلط بهم (النقابيون الدستوريون) عضويا الأخ مختار العياري والأخ زهير العيادي من أقطاب الشيوعيين والرفيق فينودوري الزعيم الشيوعي الكبير ومن أخذت الحكومة فكرة اتحاد الدستوريين والشيوعيين والعمال التونسيين ضد المصالح الفرنسية وضد الوجود الفرنسي". وكل هذا يؤكد ما ذهب اليه مؤلف الكتاب من اعتبار ان المرحلة التي عاشها العيادي في العاصمة لم تكن مرحلة هامشية في حياته كما ذهبت اليه بعض السرديات والتي سعت الى التقليل من شانها أو حتى  نفيها في مسيرة العيادي بالمقارنة مع الدور الذي كان له في صفاقس بداية من سنة 1926.

5. رغم أننا لا نملك وثائق دقيقة توضح ظروف اتخاذ العيادي قرار الاستقرار بصفاقس وابتعاده عن الجامعة الشيوعية تنظيميا فاننا نرجح أن ذلك تم في ظرفية تميزت بتتالي حملات القمع الاستعماري مما جعل يحد من تأثيرها الذي شهد تراجعا وأدى الى تشتت مناضليها بين السجن والابعاد (المختار العياري وفينودوري والطيب الدباب) والهجرة (الحبيب فرحات) كما اختار  البعض الآخر مواصلة النضال ضد المستعمر في الاحزاب الوطنية  (الدستور) كما التحق بعض الشباب الدستوري (علي جراد) بالحزب الشيوعي اثر تعرفه في فترة سجنه على المناضل الشيوعي (روبار باك). لقد مثلت  فترة عشرينات القرن الماضي  مرحلة الانتقال الى مرحلة التنظيم الحزبي والنقابي ضمن أحزاب ذات ميولات متعددة وشكلت احدى مراحل الوعي  الوطني و الاجتماعي لدى هذا الجيل.

عموما جاء الكتاب ثريا وجامعا. ولكن، بالرغم من اعلان مؤلفه اتباع المنهجية «الكرونولوجية» لتفادي الخوض في إشكاليات يمكن إثارتها في علاقة بمناضل يعتبر «شخصية ذات طابع إشكالي طالها اتهام البعض بتغيير مواقفها والتخلي عن النضال السياسي والصحفي مقابل امتيازات عقارية بظهير صفاقس» (ص 19) فإنه لما خاض في هذه الاشكاليات  كان الأمر  ضمن اهتمام محوري. كما أنه عند تطرقه لنشاط العيادي الفلاحي بجهة صفاقس، حيث قدم براهين اعتبرها حجة على براءته من أي "تواطئ" مع السلطة الاستعمارية فهي قضايا على أهميتها تعتبر مسائل تهم القضاء أكثر منها من أنظار المؤرخ خاصة وأنها قضايا تم توظيفها من طرف خصوم سياسيين محليين ضاقوا ضرعا بمكانته الاعتبارية واشعاعه.  اذ من الطبيعي أن تعدد المجالات التي تبدو ضمنها مسيرة رجل من حجم زهير العيادي الانسان والمناضل السياسي والصحافي والمثقف والباعث للعمل الجمعياتي فحري بنا أن نقف على جدلية التفاعل مع واقعه المتغير حتما وبيان ما يمكن تصنيفه في خانة «الخطأ» و«الصواب» التاريخي ضمن رؤية عليها اعتماد التنسيب والنظر الى الظرفية حتى نتمكن من صورة أقرب ما يمكن للواقع الموضوعي والذاتي لـ «بطل السيرة».

ويمكن الإشارة كذلك  إلى أن الفصول الثلاثة للكتاب كان يمكن جمعها في فصلين وفق المحطتين المهمتين في مسيرة العيادي وهما: 1. تجربته في تونس العاصمة بمختلف روافدها السياسية والاجتماعية والصحافية، 2. تجربته الحياتية في مسقط رأسه بعد عودته منذ 1926 بتنوع علاقاته ونضالاته...

ومهما يكن من أمر فان الكتاب ثريّ وجامع وُفِّق مؤلفه كمال الحكيم في متابعة متوازنة لمسيرة مناضل اجتماعي ووطني ومثقف وصحافي في حجم زهير العيّادي. يمثل الكتاب دراسة علمية تاريخية جادة أنصفت العيادي بصفة دائمة  باعتمادها على مصادر التاريخ ومنهجه العلمي عكس ما يوفره "التاريخ الرسمي" من شهرة ظرفيه تقوم على سردية أحادية يوظفها الحاكم لإعطاء مشروعية  تزول بانحدار حكمه. لذلك يعتبر الكتاب حول مسيرة زهير العيادي  إضافة للمكتبة التاريخية التونسية دأبت دار ليدرز على المساهمة فيها بمؤلفات قيّمة وجادّة.

زهير العيادي، ذاكرة نضال
في السّياسية والصّحافة والرّياضة

للدكتور كمال الحكيم
منشورات دار ليدرز للنشر،130 صفحة، 28د.
متوفر لدى المكتبات وعلى المنصة الإلكترونية www.leadersbooks.com.tn

حبيب القزدغلي
الحمامات، 15 جويلية 2024

قراءة المزيد
 صدر أخيرا - زهير العيادي: ذاكرة نضال للدكتور كمال الحكيم
   
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.