أخبار - 2018.03.04

الهادي نويرة: كما عرفته ملـتـزم بـولائه لبورڤـيبـة

الهادي نويرة:  كما عرفته  ملـتـزم بـولائه لبورڤـيبـة

عرفتُ الهادي نويرة، معرفة مباشرة، بعد دخولي العمل الحكومي، في أوائل الستينات. قبل ذلك، كنتُ أراه عن بعد، وقبل الاستقلال، لمّا كنتُ أستاذا، ومسكني قرب نهج الباشا، وكان هو محاميا، ومكتبه، كذلك على قرب من نهج الباشا، فكثيرا ما كانت الطريق تجمع بيننا، ذهابا وإيّابا، من بعيد، دون تلاق.

المعروف إذّاك، عنـه، أنّـه رجــل فكـر، واختصاصه الشـؤون الاقتصاديّة والمـاليّة. وكان هذا الشأن يغلب على مقالاته التي ينشرها بصحيفة الحــزب الحــرّ الدستوري الجديد الأسبوعيّة وعنوانها: Mission. وكانت مقالاته تستهوي النخبة التونسيّة، لِما تتـّسم به من رصانة النهج، ودقّة التحليل، وبُعد عن الصّخب اللفظي الذي كثيرا ما يطغي على المنشورات الحزبيّة، في ذلك العهد.

ورغم أنّه كان من «قادة الحزب» ، فقد عُرف بأنّه متعفّف عن الحرص على الظهور، وأنّه ملتزم بولائه لرئيس الحزب، المجاهد الأكبر.

وقبل الاستقلال، كانت تيّارات خفيّة تعتلج داخل صفوف «الدساترة» ؛ لكن الهادي نويرة كان بعيدا عنها جميعا، لا يُشارك في أيّ كُتلة من الكُتل؛ ولا يبحث لنفسه عن أيّ مركز نُفـوذ. ولمّا دخلتُ الحكومة، أحسستُ بأنّ أغلب أعضائها لَهم، بصورة ما، انتماء إلى كُتلة. لكن الهادي نويرة من القلائل الذين لا همّ لهم في ذلك.

وأذكر أنّ ما جعل بيني وبينه بداية تقارب محادثاتنا عن الكتب الأدبيّة. ثمّ كنتُ، منذ عهـد الطلـب، فـي باريـس، أفضّـل صحيفة Le Monde علـى غيرهـا. فأتّفـق أن تحدّثـتُ، في شأنهـا، مـع سي الهـادي، فأكـّد لـي تميّـز هـذه الجـــريـدة، لكـن مضيفـا أنّ جريـدة Le Figaro لها أهمّيتها.

فأردتُ أن أقف بنفسي على ذلك. فأقبلتُ على مطالعتها؛ فظهر لي أنّ، في تقييم سي الهادي لها، جانبا من الصحّة. فإن لم تكن تبلغ مستوى Le Monde، فمقالاتها مفيدة، أحيانا كثيرة.

والحـقّ انّ Le Monde، في هذه الأيّام، انحـطّ مستواه عمّا كان عليه؛ وأنّ Le Figaro صار أرفع قيمةً، بما ينشره من مقالات تحليليّة أو بتحقيقات ميدانيّة – كانت هذه وتلك من خصائص Monde Le.

وتحادثنا مرارا وتكرارا، في ذلك، وفيما نقرأه من كـُتب؛ ممّا أنشــأ بيننـا علاقة فكريّة، لم تكن بيني وبين سائر أعضاء الحكومة الذين عرفتـُهم إذّاك. ثمّ الذي زاد هذا التقارب لحمة، ما التزمه الهادي نويرة من صمت وهدوء، أثناء «الفعفعة» التي قامت في أواخر سنة 1969، ضدّ التعاضد، والتي شارك فيها كلّ مَن هبّ ودبّ. وأذكر أنـّا كُنـّا يوما، في انتظار بدء اجتماع الديوان السياسي، فقال لي سي الهادي إنّ التشنيع بالتعاضد وبالرجُل الذي كان مسؤولا عنه، ومحاكمة عدد من المسؤولين، والحطّ من قيمتهم في أعين الشعب، لم يكن ضروريا. وقد تكون له انعكاسات على الهيبة التي ينبغي أن يَحظى بها كلّ مسؤول، في المستوى الوطني، أو في النّطاق المحلّي.

ثمّ، لا بدّ، للتاريخ، من ذِكر أمر له أهمّية، وهو أنّ الهادي نويرة، بعد اضطلاعه بمسؤوليّة الوزارة الأولى، أوقف موجة التنديد، فأقلع عن المنهج الذي كانت البلاد سائرة فيه، ضدّ أحمد بن صالح ونظام التعاضد. ولمّا رجعتُ إلى العمل الحكومي، بعد نحو ثلاث سنوات، أذكر أنّ الهادي نويرة قال، أثناء مجلس الوزراء، إنّ ما تيسّر إنجازه لحكومته، منذ نوفمبر 1970، فضلٌ فيه يعود إلى ما أنجز خلال الستينات، من مشاريع كبرى، كانت البلاد في حاجة أكيدة إليها.  كما أذكر أنّ الزميل منصور معَلّى أبدى أيضا، في أحـد اجتماعات مجلـس الوزراء، ما يقارب نفس الرأي.

وللتاريخ أيضا، لا بدّ أن أذكر أنّ الهادي نويرة هو الذي نظّم أشغال مجلس الوزراء، تنظيما يليق بدولة عصريّة، من حيث الدورية، ومن حيث الملفّات المقدّمة إليه، ومن حيث عرض القضايا ومناقشتها. وكان يحرص على سماع آراء المتدخّلين من الوزراء. بل إنّه، عند مناقشة قضايا يعتبرها أساسيّة، كان يطلب، من كلّ أعضاء المجلس، أن يُبدوا آراءهم، ولا يقبل أيّ استثناء، في ذلك. ويتولّى هو، في آخر النّقاش، تلخيص الآراء المقدّمة، وإبراز الأهمّ منها، داعيا المجلس إلى الموافقة على اعتمادها. ورغم أنّه كان يُحسن العربيّة، فقد كان يَعرف أنّها ليست في متناول كلّ المسؤولين؛ وأنّ جدّية العمل تقتضي نوعا من الصرامة في القَول، ومستوى في النقاش، لا يتأتّيان باستعمال العامّية. لذلك كانت الفرنسيّة لغة المجلس، حتى يتمكّن كلّ عضو من تناول الكلمة بكلّ يُسر. وللتاريخ كذلك، لم تكن حقبة السبعينات فترة هادئة، بالنسبة إلى أعصاب الهادي نويرة. فقد كانت مليئة بأنواع المشاكسات، والمؤامرات، خفيّة تارة، وسافرة طورا، ضدّ شخصه، أو ضدّ سياسته.

وكانت المناورات الضدّية تتواتر ضدّه، لدى رئيس الدولة، لإقناعه بخلع «باي الأمحال» قبل لحظة الوراثة – لمّا اعتُبر الهادي نويرة خليفة الرئيس. وأذكر أنّي، في أواخر فيفري 1980، كنتُ مع سي الهادي، ومحمد الفيتوري، في مأدبة عشاء بالسفارة المغربيّة. وبعد تناول «الأتاي»، قام سي الهادي للخروج، وأشار إلينا بمصاحبته. وكان مسكنه إذّاك، على مقربة من السفارة. فأخذنا «نتمشـّى» معه، ذهابا وإيابا، في حديث طويل، دون أن يمسّ الموضوع الذي يشغـل باله : وهو أنّه متوجّه صباحا إلى منطقة الجريد، لمقابلة رئيس الدولة، وما كان له من هواجس تتعلّق بهذه المقابلة.

وفي الغد، صباحا، اتّصل بي مَن أعلمني بأنّ سي الهادي أصِيب، أثناء الليل، بجلطة دماغيّة، لم يُفق منها بعد.

الشاذلي القليبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.