عز الدّين عناية: جولة في السوق الدينية في الغرب
يطفح الواقع الاجتماعي الأمريكي بظواهر دينية وروحية متنوّعة، بما يحول أحيانا دون الإحاطة بتشعّباته باعتماد أدوات المقاربة التقليدية لعلم الاجتماع، المتلخّصة في منظور ثنائي، علماني ديني، يعتمد الفصل لا الوصل بين المجالين. ذلك أنّ مقولة العلمانية حمّالة ذات وجوه، يتغيّر مدلولها ومحتواها من مجتمع إلى آخر، ومن تقليد سياسيّ إلى غيره. ولذلك لزم على الدّارس الخروج من ضيق الثنائية المعهودة، التي تربط الغرب بالعلمانية، وتُقصِي الدّين بعيدا عن معترك الاجتماع البشري.
الساحة الأمريكية، على سبيل المثال، هـي مـــن الســّاحـات التي تعــجّ بالعــديـد مــن اللّوبيـــات المتشابكة، ذات الطّابع السياسي والدّيني، التي تُصنَّف إجمالا تحت مسمّى عام «اليمين المسيحي»، أو ما يعرف أحيانا بالـ«نِـيُوكُون»، مختصـر المحافظين الجـــدد. وتُنعَت النّواة الدينية في ذلك بالـ«تِـيُوكُون»، المستمدّة من تيُوكُونسرْفتوري، مختصر «اللاّهوتيين المحافظين». باعتبارهم الأكثر إلحاحا في استدعاء الأدوات المحافظة، سواء لتحليل الأوضاع الاجتماعية، أو لتبرير ترسيخ قِيَم الآباء في المجال العمومي، رافعين وبشكل دائم شعار «الكتاب المقدس وحده هاديا ودليلا».
وإن يكن الطابع الغالب على النسيج الديني الأمريكي بروتستانتيا إنجيليا، فإنّ الأسماء الأساسية في التيوكون، هي بوجه عام من الكاثوليك، من أتباع كنيسة روما. نجد منهم ريتشارد جون نيوهاوس، وهو رجل دين كاثوليكي لبق، مسموع الصّوت في الأوساط الأمريكية؛ وميكائيل نوفاك، أحد أبرز علماء اللاّهوت الكاثوليك الأمريكان؛ وجورج ويغل، وهو لاهوتي وخبير سياسي ومؤلّف سيرة «شاهد الأمل» عن البابا الرّاحل، يوحنّا بولس الثّاني، تدعمهم مجموعة من الباحثين يحفرون في الخندق ذاته.
حيث يدّعي تيار التيوكون تراجعا للقيم الخلقية بين الأمريكان، ويفسّر الأمر بقوّة ضغط التيار اللاديني وزحف العلمنة. والملاحظ في توجّه التيوكون، أنه لا تغلب عليه الخاصيات المسيحية الصرفة، بل يحمل في طياته طرفا قويا يمثّله اليهود الأمريكان، لذلك نجد إلحاحا في الدّاخل على شراكة في القيم ووحدة في التراث، طبعا اليهودي المسيحي. وإن يكن الإطار المسيحي الأكثر عددا، فإنّ المكوّن اليهودي، يبقـــى الأوغـــل نفوذا، لذلك نلاحـظ داخل تيّار التيــوكون إلحاحا على الدّين مع عدم تحديد هويّة الدين.
تخاطر الأصوليات
تأتي الحروب التي خاضتها أمريكا في السّاحة العالمية، في أعين كثير من الجماعات الدينية الداخلية، بمثابة حروب مقدّسة، باسم القِيَم اليهودية-المسيحية. وهذا الإحساس العام غالبا ما زادت من حدّته القلاقل التي يشهدها العالم الإسلامي ولا سيما منه العالم العربي. إذ نجد تخاطرا، وتبادلا للأفكار عن بعد، بين السلفي الإسلامي القابع بالداخل في البلاد العربية، ونظيره المقيم في الغرب، سليل الإنجيليات الجديدة وابن التراث المسيحي.
لذلك في خضمّ الأوضاع المتوتّرة التي يشهدها العالم العربي في تاريخه الراهن، تتعدّد أساليب اليمين المسيحي للتعاطي مع «المشكلة العربية». ففي الشبكة العنكبوتية مئات المواقع للتجمّعات الإنجيلية تدفع بأنصارها للتوّجه نحو أرض العرب، غاية العمل على بناء الكنائس السرّية والعلنيّة، وجذب الناس نحو رسالة الفادي المخلص. كما نجد مؤسّسات علمـيّــة مهتمّة بالشّأن، على غرار «جامعة كولمبيا» بكارولينا الجنوبية، التي تكوّن المبشّرين، وتموّل التربّصات لغرض إكساب المتدرّبين تقنيات الفهم والإقناع عند التعامل مع الثّقافة الإسلامية.
وفي ما مضى، على إثر الاجتياح الأمريكي للعراق، حلّ فرانكلين غراهام بأرض الرافدين، وهو ابن المبشّر التلفزي الشهير بيلّي غراهام، زاعما تقديم المعونة المادية والرّوحية للعراقيين بإشراف منظمــة «The Samaritan Purse»، فكان توزيع شيء من الألبسة والأدوية والمأكولات مصحوبة بالكتاب المقدّس. وقبل مغادرته، صرّح فرانكلين غراهام: «إن ما أطلقُ عليه بعملية (الحرّية للعراق) هي فرصة للمسيح. نذهب إلى هناك لنمدّ يد العون إلى العراقيين ولنخلّصهم من الدّين الزائف والشيطاني –أي الإسلام-، فكمسيحي، أتحرّك باسم المسيح»، على ما أورده مختار بن بركة، في كتابه «اليمين المسيحي الأمريكي: الإنجيليون في البيت الأبيض».
وبوجه عام يتحدّر الجيل الأوّل من المحافظين الجدد مــن الطّبقــات الدنيا والوسطى للمدن الأمريكية، من عائلات عمّالية عاشت في عمق أزمة الحرب العالمية الثانية، ومن جيل الشبيبة المثقّفة ذات الميول اليسارية. هذا فضلا عمّا شهده هذا التكتّل منذ نشأته من انضمام عديد العناصر ذات الأصول اليهودية. فقد جعلت تلك التحدّرات الاجتماعية، من طموحات المحافظين الجدد وتطلّعاتهم: مواجهة الحيف، إلى جانب انتقاد النّظام التعليمي بدعوى جعله أكثر جدوى. وبشكل عام كان هذا التيّار في وقت مضى يُنعَت بالميول اليساريّة، ولكن في الراهن الحالي بات يُعَدّ من اليمين الأصيل. وبفعل تجذّر المحافظين الجدد، صاروا في العقود الأخيرة الأكثر نفاذا والأبلغ أثرا في تحريك مسائل الجدل السّياسي، الأمر الذي أهّلهم إلى صنع الخيارات السّياسية.
غواية الأرض المقدّسة
قد يتساءل المـرء عـــن دوافع تقارب اليمين المسيحي مع اليهود ومع الدّولة العبرية. والواقع أنّ الأمر له مبرّر لاهوتي، فهناك اعتقاد شائع بين المسيحيين أنّ انبعاث دولة إسرائيل دليل واضح على عودة المسيح، يأتي ذلك نتاج قراءة نبوية للكتاب المقدّس تبدو فيها إسرائيل محطّة على طريق العصر الألفي القادم. حيث لا عودة للمسيح قبل عودة اليهود إلى أرضهم، فكما يقول الكاتب الإسرائيلي الأمريكي جرشوم غورينبيرغ في كتابه: «نهاية الأزمنة: الأصولية والصّراع على جبل الهيكل» «إنّ العقيدة الإنجيلية في الخلاص هي حالة من خمس مراحل يندثر اليهود في أخراها. ولذلك عُدَّت الانتصارات الإسرائيلية دائما قرباً من نهاية الأزمنة، ومن عصر ظهور المسيح، ويشيع بينهم رفض قيام دولة فلسطينية، كما يتطلّعون إلى تهجير كلّ سكان المنطقة، ولو كانوا سكّان قطاع غزّة، إلى العالم العربي».
وقد دفعت فكرة العودة إلى فلسطين، كمقدّمة إلى الظّهور الثّاني للمسيح، المسيّرين الإنجيليين، مثل بيللي غراهام، وابنه فرانكلين، وجرّي فالوال، ورالف ريد، وبات روبرتسون، إلى المشاركة في التّحريض على إرسال الإنجيليين إلى فلسطين. كما ساهمت في حثّ عديد اللّوبيات الإنجيلية على تمويل مشاريع الهجرة إلى إسرائيل وبناء المستوطنات. وبالنتيجة حلّ عدد هامّ من الإنجيليين بإسرائيل لتعلّم اللّغة العبرية، وسعوا في بناء برامج تعاون مشتركة يهودية مسيحية. ويقدّر اليوم عدد المسيحيين الإنجيليين الذين يقيمون بفلسطين بشكل شبه دائم بستّين ألفا.
السّوق الدّينية
تُعَدُّ عمليّة صنع الرّموز بمختلف أصنافها: الفنّية والسّياسية والمعرفيّة وغيرها، بدعةً مستحدثةً، يهدِف توظيفها في المجال الاجتماعي إلى إيصال رسالة إيديولوجية عميقة الدّلالة، غرضها إحكام القبضة على أذواق الناس وعقولهم عبر سلطة معنويّة رمزيّة. وقد تطوّرت العمليّة بالأساس مع تركّز النّفوذ الرأسمالي في المجتمعات الغربية، وسعي أربابه للمّ شمل العالم وشدّه تحت شبكة نفوذهم. ولم يسلم القطاع الدّيني، من فبركة تلك الرّموز-الأساطير للتحكّم بمقدّرات الحقل الرّوحي. والحال أنه قطاع يفتَرَض أن يبقى بعيدا عن الدّعاية والتوظيف، لما ترسّب في الضّمير الجمعي من علوّ مقصده وتنزّه مكوّناته.
لكن الغرب بعد ثورته النفعيّة في العصر الحديث، أعاد صياغة ثرواته الرّوحيّة المتراكمة أيضا، ضمن متطلّبات التّسويق الجديد، ساحبا منها علويّتها، لتتحوّل المسيحيّة المغَرْبنَة، ومختلف تفرّعاتها المذهبية والنِّحَلية، إلى ما يشبه مخازن الأسواق العامّة، التي تعجّ بالمناسك والطّقوس والعقائد وأدواتها ولوازمها، معروضة عبر تقنيّات
التسويق المتطوّرة ومحتكمة إلى قوانين العرض والطّلب المرتبطة بالاستهلاك.
وضمن أنشطة السوق الدينية في الغرب شكّل بيللي غراهام، في التاريخ المعاصر، إلى جانب البابا الرّاحل يوحنّا بولس الثّاني، والأمّ تيريزا، والدّلاي لاما، خيرة الأيقونات الدّينية، التي جرى ترويجها بشكل واسع، لأجل عولمة الخطاب الدّيني، بعد يقين بانتهاء مرحلة الاستهلاك المحلّي. فإن عبّر بيللي غراهام عن خطاب أمريكا الدّيني، فإن مؤسّسة البابويّة، ممثّلة في حبرها الأعظم في روما، لا تزال خطاب القارة العجــوز الدّيني. وتأتي الأمّ تيريزا، الألبانية الأصل، سعيا لتصفية حساب قديم مع التركي العثماني المتــوغّل في خـاصرة أوروبا. وأمّا الدّلاي لامـا فهو تطوير أوروأمــريكي مشتــرك لمواجهة الصّيـن وفلـــكـها الزاحف، من داخلها بعقائدها وأدواتها.
عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق