أخبار - 2018.01.23

أيّ حلول لهجرة الأطباء التونسيين؟

هجرة الأطباء التونسيين

من الفئات المهنية التي طالتها بشكل لافت هجرة الكفاءات فئة الأطبّاء الذين تستقطبهم بالأخصّ بلدان كفرنسا وألمانيا ودول الخليج . وما فتئت هذه الظاهرة في تنام منذ سنة 2011 حيث يفضّل مئات الأطبّاء العمل بالخارج على البقاء في تونس. ولا يقتصر الأمر على الأطبّاء الشبّان بل إنّ رؤساء أقسام في مستشفيات عموميّة وأساتذة في الطبّ يؤثرون هم أيضا البحث عن أفق مهنّي أفضل في هذه البلدان. ولعلّ من أهمّ المؤشّرات لهذه الظّاهرة المتفاقمة مشاركة العديد من الأطبّاء التونسيين من مختلف الاختصاصات كلّ سنة في مناظرة معادلة الشّهادات ومراقبة المعارف بفرنسا، والتي يستأثر فيها التونسيون بأوفر نسب النّجاح.

ففي مناظرة سنة 2017 نجح أكثر من 240 طبيبا تونسيّا من بين مجموع الفائزين وعددهم 494 طبيبا في كلّ الاختصاصات. وقد أدرك نجاح التونسيين نسبا عالية في عدد من الاختصاصات (88 بالمائة في طبّ القلب والشرايين و86 بالمائة في التّصوير الطبّي و80 بالمائة في الإنعاش الطبي.

ما هي أسباب هذا النّزيف المتواصل الذي يشكلّ أكبر خطر تواجهه المنظومة الصحيّة في تونس؟ وكيف السبيل إلى الحدّ منه حتّى تحافظ البلاد على خيرة كفاءاتها الطبية ولا تضطرّ يوما إلى اللجوء إلى خدمات أطبّاء أجانب في عدد من الاختصاصات؟

وجّهنا هذين السؤالين إلى أطراف معنيّة بهذه القضية الخطيرة وهم: أطبّاء لهم خبرة ميدانية واسعة وطبيب مسؤول عن التكوين الجامعي سبق له أن شغل خطّة عميد لكلية الطبّ بسوسة وأطبّاء شبّان اختاروا طريق الهجرة وممثّلان عن المهنة الطبيّة وهما الكاتبة العامّة للنقابة العامّة للأطبّاء الجامعيين ورئيس المجلس الوطني لعمادة الأطبّاء، بالإضافة إلى المديرة العامّة للصحّة بوزارة الصحّة العمومية.

أوضـاع كارثيـة في المستشفيات العمـومية

د.م. رئيس قسم سابقا بمستشفى عمومي: الذي شغل لسنوات عديدة خطّة رئس قسم بمستشفى عمومي قبل بلوغه سنّ التقاعد سنة 2013  يرى أنّ لهجرة الكفاءات الطبيّة التونسية أسبابا عدّة تتلخّص فيما يلي:

  • شعور الأطبّـــاء بتقلّص هيبتهم واهتزاز مكانتهم في المجتمع جرّاء ما استهدفهم في السنوات الأخيرة من حملات شيطنة وتجريم في بعض القنوات الإذاعية والتلفزية التي انتهجت أسلوب الإثارة لجلب اهتمام المتلقّي من خلال التّركيز على الأخطاء الطبية عند وقوعها، ممّا جعل الأطبّاء محلّ شكّ وريبة في نظر المرضى وأسرهم، ومسؤولين عن أيّ حــالة وفــاة تحدث.
  • عدم قدرة الأطبّاء على الاضطلاع بمهامّهم في ظروف طيّبة، بالنظر إلى انعدام الأمن في المستشفيات وتفاقم ظاهرة العنف المادي واللفظي ضدّ الإطار الطبّي وشبه الطبّي، فلا أحد اليوم يحمي الطبيب أو العامل في المستشفى، بما في ذلك وزارة الصحة التي تعاني هياكلها من قصور كبير، بالإضافة إلى تدهور حالة التّجهيزات والفضاءات الصحية وعدم توفّر أطبّاء أخصائيين  بالعدد الكافي في بعض الأقسام. وممّا زاد في تعكير الوضع، غياب الانضباط وتنامي ظاهرة الإفلات من العقاب بسبب تجاوزات بعض النقابات، وهو ما يجعل رئيس القسم فاقدا للسيطرة على الأمور.

وممّا يحـزّ في النفــس أن يقـــف الأطبّاء عـــاجزين عن مجــابهــة أوضــاع كـــارثية والحيلــولة دون تعكّـر حالة المـرضى بسبـب فقدان الأدوية أحيانا، علما وأنّ العـديد منهم قد قضّى قرابة عشرين سنة بعد الباكالوريا بين المناظرات والامتحانات المختلفة ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في مثل هذه الأوضاع.

  • مستــوى الرّواتــب التي يتقـــاضـاها الأطبــّاء لا يتناسب البتّة مع ما يقومون به من عمل ويتحمّلونه من مسؤوليات جسام، من بينها السّهر على تكوين الشبّان. وفِي هذا السياق يجدر التّذكيـــر بأنّ الراتــب الذي يحصل عليه طبيب مقيم لا يتجاوز الألف دينار شهريا، في حين أنّه مطالب بالعمـل مــدّة أربعــين ساعة في الأسبــوع في ظروف صعبــة للغاية.
  • حالة الفوضى السّائدة في عدّة مستشفيات عموميّة بسبب عدم الالتزام بالقانون المنظّم للنشاط الخاصّ التكميلي، ممّا يؤثّر سلبا في نوعيّة الخدمات المسداة للمرضى وكذلك في جودة تكوين الأطبّاء الشبّان ويفسح المجال لكلّ التجاوزات.

وبقدر ما يثمّن د.م مستوى أطبائنا الرفيع باعتبارهم نخبة النّخبة، ممّا يؤهّلهم للعمل في الخارج، فإنّه يلفت النّظر إلى ضرورة إيلاء مسألة التكوين الذي يتمّ أساسا في المستشفى ما تستحقّه من بالغ الأهمية لتجنّب انحدار المستوى في السنين القادمة.

كمـا يشير إلى الصّعـوبات الجمـــّة التي أصبح يلاقيها كلّ طبيب يقتحم مجال العمل في القطاع الخاصّ والمتمثّلة في الاكتظاظ الذي يشهده هذا القطاع وارتفاع الأعباء المالية المترتّبة عن فتـح العيـادة واستمرارها وطــول المـدّة التي يتطلّبها كسـب الحرفاء والتّنافس غير الشّريف النّاجـم عن النّشـاط الخاصّ التّكميلي، علاوة على زيادة في الأداءات الموظّفة على مداخيل الأطبّاء وفق ما جاء في قانون الماليّة لسنة 2018.

الأزمــة تشمل الأطبـّاء بمـخـتلــف رتبـهـم

د. عادل الخيّاطي رئيس قسم سابقا بمستشفى عمومي: شغل لسنوات عديدة خطّة رئيس قسم جراحة القلب والشرايين بمستشفى الرابطة بالعاصمة وخطّة رئيس قســم الجـراحة بكليّة الطبّ بتونس وترأّس الجمعية التونسية لأمراض القلب وجراحة القلب والشرايين، وبالتالي يتميّز بتجربة واسعة على الصعيدين العملي والأكاديمي.

أكّد أنّه كان يعتقد اعتقادا جازما، على غرار العديد من زملاء دفعته عند التخرّج، أنّ مسيرتــه المهنيــة لا يمكن أن تتمّ إِلَّا بالمستشفــى العمـــومي، باعتباره أرضية للتدريس والبحث ولتقديم خـدمات علاجية ممتازة بالخصوص.

وذكر أنّ المستشفى العمومي شهد للأسف في السنوات الأخيرة تدهورا ملفتا ولم يعد مواكبا لتطوّر البلاد الاقتصادي والاجتماعي وبالتّالي أضحى عاجزا عن الاستجابة لانتظارات المواطن المريض.

وأشار إلى أنّ الممارسة الطبيّة في القرن الحادي والعشرين تقوم على حقائق ومعايير وشروط، لذلك فإنّ أيّ هيكل صحّي مطالب،في مستوى الوسائل، بتقديم أفضل الخدمات للمريض. وقال لمّا ينعدم هذا الشّرط، فإنّ الطبيب مدعوّ إلى أن «يتأقلم» أحيانا بالتوقّف عن النّشاط أو بالحدّ منه ولكن بقبول عدم التقدّم في عمله عن مضــض والسّعــي قدر الإمكان إلى سدّ الثغرات.وقـــال الدكتـــور عادل الخيّـــاطي إنّه بسبـــب تدهور ظروف العمل أصبح من الصّعب القيام بمهمّتي الطبيب والمكوّن على أساس احترام مبـادئ الممارسة الطبيـة السليمة.

وبيّن بكثيــر مـــن المرارة أنّه كـان مجبرا على مواجهــة حـالة اضطـراب مسـاعديه ولا سيّما الشبّان منهم، فبدل أن تُستعـرض في اجتماعات الفـريق الطبّي في الساعـة الثامنـة صباحا الحالات الاستعجــالية المسجّلة في الليلة السابقة وطرق التكفّل بها يتنـــاول الحديث الأعطال والغيابـــات، فلا يحتــلّ الحــوار العلمــي إِلَّا مرتبة ثانوية.

ولاحظ أنّ من نتائج هذا الوضع الجمود العلمي وانحسار الجانب الأخلاقي على نطاق واسع، مشيرا إلى أنّ هذه الأزمة شملت كلّ الأطبّاء بمختلف رتبهم ، فنزع الشبّان منهم إلى الهجرة وآثر الذين يكبرونهم سنّا العمل في القطاع الخاصّ وأصبـــح كبــار السنّ من الأطبّاء يجتــازون الامتحانات للالتحاق بأوروبا.

وأوضح د. عادل الخيّاطي أنّه أضطرّ، إرضاء لضميره حتّى لا يقبل بكلّ الإخلالات وتحمّل تبعاتها، أن يغادر المستشفى العمومي الذي يمرّ اليوم على دخوله إليه 37 سنة، وأن يضع حدًّا لمسيرته الاستشفائية والجامعية، إثر حياة زاخرة بالنشاط في المستشفى وكلية الطبّ والجمعيات العلميّة، متخليّا عن «كلّ امتيازاته، بما في ذلك رتبته كأستاذ في الطبّ».

هــذه الشهـــادة التي يستشـفّ منها الشّعور بالحسرة والمرارة تكشف عن واقع أليم: نفور خيرة أطبائنا من القطاع العمومي وتخلّيهم مكرهين عن مهمتي العـلاج والتكوين فيه، ممّا يغذّي لدى الشبّان النّزعة إلى الهجرة.

قراءة المزيد:

هجرة الكفــاءات التــونسيـة: كيـف نـوقــف الــنّـزيـف؟

أيّ حلول لهجرة الأطباء التونسيين؟

د. علي المطيراوي رئيـس جـامـعة ســوسة: أطباؤنا الشبّان تربّوا على الحلم بالهجرة

شهادتا طبيبين اختارا طريق الهجرة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.