أخبار - 2018.01.22

هجرة الكفــاءات التــونسيـة: كيـف نـوقــف الــنّـزيـف؟

هجرة الكفــاءات التــونسيـة: كيـف نـوقــف الــنّـزيـف؟

يتركّز اهتمام الرأي العام في تونس منذ 14 جانفي 2011 على ظاهرة غدت مصدر انشغال عميق وهي هجرة تونسيين أغلبهم من الشباب في اتّجاه أوروبا على متن «قوارب الموت» ولكن قد يغيب عنه صنف آخر من الهجرة يشكّل أكثر خطورة على حاضر البلاد ومستقبلها، ونعني هجرة كفاءات ومهارات تمثّل صفوة النخبة الأكاديمية والعلمية الوطنية نحو أوروبا وأمريكا وكندا ودول الخليج.

حسب تقرير التنمية البشرية في العالم العربي لسنة 2016 تحتلّ تونس المرتبة الثانية عربيّا في تصدير الكفاءات العلمية إلى الخارج. وقد تنامى منذ سنة 2011 عدد التونسيين من ذوي الاختصاصات المهمّة كالطبّ والصيدلة والهندسة الذين يفضّلون العمل بالخارج بعد أن تكوّنوا في تونس ومنهم من يهاجر نهائيا رغم أّنّه يتوفّر على عمل في بلاده، يضاف إليهم  الطلبة التونسيون- وعددهم حوالي 60 ألف- الذين لا يرغب عدد منهم في العودة إلى الوطن بعد إتمام دراستهم الجامعية في أوروبا فتستقطبهم سوق الشغل في البلدان المضيّفة.

نحاول في هذا الملفّ الوقوف على أسباب هذه الظّاهرة واستجلاء الحلول الكفيلة بالحدّ منها مع تسليط أضواء كاشفة على هجرة الكفاءات الطبيّة بالخصوص.

كم عدد الكفاءات التونسية التي هاجــرت إلى الخـارج؟ نجـــزم أنّه لا أحد باستطاعته الردّ بالدقّة المطلوبة على هذا السؤال، إذ لا توجد في الحقيقة إحصائيات دقيقة  تخصّ هجرة الكفاءات التونسية إلى خارج، لأنّ هذه الكفاءات تغادر البلاد بطرق مختلفة، فمنها من يترك أثرا إداريا في المؤسّسات التونسية المعنية ومنها من لا يترك أثرا. والجدير بالذّكر أنّ أولئك الذين يغادرون بالطرق الرسمية عبر الوكالة التونسية للتعاون الفني يمكن إحصاؤهم بشكل دقيق وهم عادة ما يعودون إلى أرض الوطن عند انتهاء عقودهم. ويبلغ عددهم إلى موفّى شهر نوفمبر الماضي 17700 متعاون.

وهناك من يهاجر بصورة غير رسمية وغير منظّمة وهؤلاء لا تشملهم الإحصائيات الرسمية لكن نستطيع تقدير عددهم  من خلال  قراءة الأرقام المتاحة. ففي حين قدّرت منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE في تقرير لها صدر في أواخر 2017 عدد الكفاءات العلميّة التونسية التي هاجرت إلى الخـارج منـذ 2011 – 2012 بـ 94 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 25 و45 سنة، تؤكد الإحصائيات الرسمية لسنة 2012 وجود 85 ألفا من الإطارات في الخارج، وإذا ما قمنا بعملية جمع نقدّر عدد الكفاءات العلميّة التونسية في الخارج في كلّ الأصناف بحوالي 180 ألفا. أمّا الاختصاصات التي تجد رواجا في الخارج فهي الهندسة والطبّ والبحث العلمي والتعليم الجامعي والقضاء. وعرفت هجرة المهندسين وخاصّة في مجال الإعلامية تزايدا في السنوات القليلة الماضية حيث أفاد أحد المسؤولين في شركة تونسية  متخصّصة في البرمجيات أنّ سنة 2017 شهدت استقالة حوالي 80 من المهندسين العاملين في الشركة بسبب عروض أوروبية مغرية.

وسجّلت شركة بنكيّة مهمّة في تونس استقالة 20 مهندس إعلامية بغرض السفر للعمل في الخارج. وأكّد لنا ذلك المهندس «عماد» الذي التقيناه وهو يستعدّ للالتحاق بعمله في فرنسا، مشيرا إلى أنّه سيحصل هناك على ستة أضعاف راتبه في تونس.

ومن ناحية أخرى، شهدت هجرة الأساتذة الجامعيين، تطوّرا كبيرا في السنوات الأخيرة بلغت حسب الإحصائيات الرسمية 8 آلاف إطار من التعليم الجامعي من بينهم 1464 أستاذا جامعيا (منهم 136 أستاذا من صنف «أ»). وبالنسبة إلى الكفاءات التونسية من العلماء ذكرت إحصائية سابقة أنّ عددهم يقارب 4200 عالم تستقطب فرنسا 31% منهم تليها كندا بـ3% ثم الولايات المتحدة بـ 11% ثمّ ألمانيا بـ10%. وهناك من العلماء التونسيين من يعمل بوكالة الفضاء الأمريكية وبمخابر الفيزياء النووية بالولايات المتحدة وبمخابر علميّة أوروبية  وكندية.

للظاهرة أسبابها

لهجرة الكفاءات التونسية حسب الدراسات المتاحة سببان رئيسيان أوّلهما الإغراءات المادية المعروضة من المؤسسات المنتدِبة في ظلّ تدنّي الرواتب في تونس. وعلى سبيل المثال يذكر تقرير لعمادة المهندسين أنّ معدّل أجور المهندسين في المغرب يساوي 4 أضعاف متوسط أجور المهندسين في تونس وفي الأردن يساوي الضعف. 

وفي بلدان الاستقطاب مثل فرنسا وبلجيكا وكندا يساوي الأجر 6 أضعاف ونصف الأجر في تونس.. وتؤكّد دراسة أجراها مركز تونس للبحوث الاستراتيجية نُشرت في شهر أكتوبر من السنة الماضية أنّ 55% من عينّة الدراسة تعتبر السبب المادي السبب الرئيسي للهجرة. أمّا السبب الثاني فيتعلّق بالمناخ العلمي المريح والمتطوّر الذي تتيحه بلدان الإقامة للباحثين وما يتوفّر فيه من وسائل البحث العلمي، هذا إضافة إلى البطالة التي تمسّ أصحاب الشهادات العليا من بينهم 4740 مهندسا و1500 طبيب (إحصائيات 2016) وكذلك البيئة العلمية والثقافية والاجتماعيّة التي لا تولي في تونس قيمة للمتميّزين من الخرّيجين ولا تثمّن تألّقهم في العمل. فلا وجود لمخابر بحث تستقطب الباحثين برواتب مغرية وتوفّر لهم مستوى عيش مناسب وحتّى إن وُجدت هذه المخابر فهي تفتقر إلى الإمكانيات المادية والأكاديمية التي تضمن بيئة علمية ملائمة تساهم في نجاح البحوث التي يقوم بها هؤلاء.

ولا يمكن أن نتغافل في النهاية عن الدّور الذي يلعبه الأولياء في دفع أبنائهم نحو الهجرة وبشتّى الطرق. سألنا أحدهم، وهو رجل أعمال، له ابنة طالبة تدرس الطبّ في رومانيا وابن مهندس في الإعلامية يعمل في فرنسا فقال: «هدفي ضمان مستقبل زاهر لأبنائي بحصولهم على ما يتمنوّن، وهذا لا يتحقّق لهم إلّا في الخارج». يشاطر اليوم تفكيرٓ هذا الوليّ العديد من التونسيين.

هل من حلول؟

رغم أنّ هجرة الكفاءات هي في الواقع خسارة للتنمية في تونس إلا أنّ العديد من الملاحظين يطرحون تساؤلا واحدا هو كيف نقلب الخسارة إلى إثراء؟ وعلى هذا الأساس يرون من الحلول الاستفادة من مهارات المهاجر وخبراته بربط الصلة العلمية به حتّى يتمّ نقل المهارات التكنولوجية المتطوّرة في بلد الإقامة إلى مراكز البحث في تونس للمساهمة في التنمية الوطنية، أسوة بتجارب بلدان كجنوب إفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية والهند. وقد لعبت الكفاءات العلمية الهندية المقيمة في الولايات المتحدة دور الناقل الرئيسي للمهارات التكنولوجية ورؤوس الأموال المستثمرة في الهند وهو نفس الإجراء الذي اتّخذته سويسرا لربط الصلة بين مهاجريها في الولايات المتّحدة والكفاءات العلمية السويسرية في الداخل. لذلك اتّخذت تونس إجراءات تشجّع كفاءاتها بالخارج على بعث المشاريع  القائمة خاصّة على التكنـولوجيات الحديثة وحثّ الباحثين في الخارج على العمل بشراكة مع باحثين في تونس في مجالات البرمجيات وتكنولوجيات المعلومات والاتصال والبيوتكنولوجيا والطّاقة والماء والبيئة والفلاحة وعلوم البحار والصحة والعلوم الاجتماعية والإنسانية.

ومع هذا يبقى من الضروري العمل على وقف النّزيف الذي سيؤدّي إلى تصحّر السّاحة العلميّة من نخبها ليحلّ محلّها أشباه العلماء.ويتّفق الباحثون في هذا المجال على القيام بإجراءات مثل تغيير السياسات الوطنية في مجال البحث العلمي والتكنولوجي لتصبح البيئة الوطنية جاذبة للكفاءات وبعث أقطاب للبحث العلمي والتّجديد التكنولوجي ودعم التّعليم الجامعي وتطويره ممّا يمكّن من فتح خطط جديدة للتدريس والبحث العلمي ويسمح للجامعات التونسية بتبوّؤ موقع متميّز ضمن الترتيب العالمي لأفضل الجامعات وإعطاء الكفاءات المكانة التي تستحق إن كانت مكانة اجتماعية بالترفيع في أجورهم أو مكانة علميّـــة بدعـم بحوثهم وتشريكهم في كلّ الأنشطة ذات العلاقة باختصاصاتهم وفتح المجال أمامهم للإبداع فرادى أو مجموعات. كما يمكن تشجيع إحداث فروع للجامعات الأجنبية الكبرى في تونس ممّا يضمن لطلبتنـا مواصلة الدراسة في بلادهم مع المشاركة في تربّصات خارجية تنمّي مكتسبـاتهم العلمية..

قراءة المزيد:

هجرة الكفــاءات التــونسيـة: كيـف نـوقــف الــنّـزيـف؟

أيّ حلول لهجرة الأطباء التونسيين؟

د. علي المطيراوي رئيـس جـامـعة ســوسة: أطباؤنا الشبّان تربّوا على الحلم بالهجرة

شهادتا طبيبين اختارا طريق الهجرة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.