شهادتا طبيبين اختارا طريق الهجرة
لإدراك الأسباب العميقة التي تقف وراء هجرة الأطبّاء، ولا سيّما الشبّان منهم، رأينا من المفيد أن نعرض شهادتي طبيبين اختارا العمل بفرنسا بعد نجاحهما في المناظرة التّي تخوّل لهما مباشرة المهنة في هذا البلد.
كيف للطبيب أن يخفّف الآلام وهو يفتقر إلى أبسط مستلزمات مهنته؟
د.هاشم محجوب, مختص في جراحة العظام والمفاصل: د. هاشم محجوب، مولود سنة 1982، مختصّ في جراحة العظام والمفاصل نجح في مناظرة معادلة الشهادات ومراقبة المعارف بفرنسا لسنة 2017، ممّا يتيح له العمل في البلد. يقول عن هجرته:
«لم يكن يخطر ببالي بتاتا أن أهاجر أو أن أقيم في أيّ بلد أجنبي. فأنا طبيب جرّاح شابّ زاولت تعليمي في المدرسة العمومية التونسية، وفي كلية الطبّ بتونس، كما تلقّيت تكويني في المستشفيات العمومية التونسية وعلى أيدي كفاءات طبيّة تونسية جديرة بكل احترام وتقدير والحقّ يقال.
إثر إنهاء تخصّصي ارتأيت أن أقوم بتربّص لفترة في مستشفى فرنسي لتحسين مؤهّلاتي وتجويد تكويني في انتظار حصولي على وظيفة في المستشفى في بلادي. وأثناء تربّصي اكتشفت ظروف العمل هناك وهي لا تتمثّل فقط في التّجهيزات والبنية التحتيّة بل هي منظومة متكاملة لكلّ فرد فيها دوره وواجبه يؤدّيهما بكلّ تفان وإتقان... والإنسان هناك مهما كان هو محلّ اهتمام وتبجيل.. ومناخ العمل يسوده الاحترام والمرونة .. ممّا جعلني أقارن هذه التّجربة الجديدة بما عايشته في بلادي. كما أنّ ما عرفته بنفسي وما بلغني من الأصداء عن تردّي الأوضاع في ميدان الصحّة في تونس من تدهور ظروف العمل واهتراء المعدّات ونقص الآلات الضرورية، علاوة على ذلك موجة الاستقالات من المستشفيات الجامعية وذهاب العديد من الكفاءات الطبيّة إلى الخارج، دون أن ننسى موجات العنف والتهجّمات على الأطر الطبية في أغلب المستشفيات، كلّ ذلك أكّد شعوري بتأزّم الوضع الصحّي. ممّا جعلني أفكّر جدّيا في الهجرة: وتقدّمت إلى مناظرة معادلة الشهادات ومراقبة المعارف، ونجحت بتفوّق ممّا يحسب طبعا لمدرستنا العمومية، مدرسة الجمهورية التونسية التي أتشرّف دائما بالتّذكير بأنّي أحد أبنائها.
وحينها شعرت بشيء من المرارة، رغم فرحتي بالنّجاح: لأنّني سأمكث هنا واشتغل في فرنسا في حين أنّني لست من الجاحدين لفضل وطني في تكويني وتنشئتي، لكنّني على يقين أنّني استطيع المساهمة في تحسين وضع الصحّة في بلادي من موقعي هذا وذلك أفضل من العودة والانخراط في العمل في وضــع أقلّ ما يقال فيه اتّسامه بانعدام النجاعة والافتقار إلى رؤية استراتيجية واضحة في جلّ الميادين. وهذاعمل شاقّ ولا يمكن أن يتمّ إلا في ظلّ هدوء سياسي واجتماعي وهو ما لا يتوفّر الآن في بلدي. فكيف للطبيب أن يخفّف الآلام وهو يفتقر إلى أبسط مستلزمات مهنته؟ لذلك قرّرت العمل في فرنسا والتمكّن من طرق العمل الحديثة، ولكنّي لن أدّخر أي جهد في إفادة وطني بكلّ ما أوتيت من معرفة وخبرة حتّى يصبح هذا القطاع لا يقلّ نجاعة عمّا هو عليه في أيّ بلـد أوروبي متقدّم».
لا بدّ من إرادة سياسية قويّة
د. مروى بن صالح اختصاص طب عام: تبلــغ د. مـروى بـن صالـح حــرم السايـــس (اختصاص طبّ عام) من العمر 30 عاما. حدّدت بكثير من الدقّة والتفصيل الأسباب التي دعتها شخصيّا إلى اختيار فرنسا لاستكمال الدراسة في الطبّ والعمل وهي بالخصوص:
ارتفاع عدد ساعات العمل بالنسبة إلى الأطبّاء المقيمين والداخليين المباشرين إلى أكثر من 36 سـاعة دون انقطاع ودون أن تتبعها راحة تعويضية على غرار ما يتمتّع به الممرّضون والقوابل مثلا.
- ضغـط العمـل في الأقســام الاستشفائية إضافة إلى العمل البحثي والدّراسي الذي لا يتوقّف.
- هشاشة وضع الأطبّاء المقيمين والدّاخليّين حيث لا يتّمتعون بقانون أساسي ينظّم عملهم فيحدّد واجباتهم نحو المريض ولكن في نفس الوقت يضمن حقوقهم ويحميهم من كلّ تجاوز أو مظالم. وللعلم فإنّ مشروع القانون الخاصّ بالأطبّاء لم يصدر إلى حدّ الآن رغم الاحتجاجات والإضرابات وغيرها من التحرّكات من أجله.
- ضعف الرّاتب الشّهري المسند للطبيب الدّاخلي والمقيم وعدم تناسبه مع الجهد الذي يبذله حيث أنّه لا يوفّر مقوّمات العيش الكريم خاصّة وأنّ دراسة الطبّ مكلفة للعائلات ومرهقة للطالب، إضافة إلى اتّساع فجوة التّأجير بين القطاع العام والقطاع الخاصّ رغم أنّ الأطبّاء يحملون نفس الدرجة العلمية وربّما تخرّجوا معا.
كل هذه الظروف والنقائص وساعات العمل المرهقة تتسبّب في حدوث الأخطاء وعندما تحصل فإنّه يقع تحميلها إلى الحلقة الأضعف في المنظومة القائمة وهي المتكوّنة من الأطبّاء المقيمين والداخليّين.
وبخصوص الحلول التي تقترحها د. مروى من موقعها تقول إنّها لا تحتاج إلى اعتمادات مالية إضافية من طرف الدولة، تاركة جانبا الحديث عن الأجور بما أنّ الجميع يتحدّث عنها خاصّة إذا علمنا أنّ وضع البلاد الاقتصادي لا يسمح بذلك.
وفِي هذا الصدد تؤكّد أنّ الأمر يستدعي إرادة سياسية قويّة حقيقية لا غير للعمل على تحقيق الآتي:
- سنّ قانون أساسي للطالب الطبيب، للطبيب الداخلي وللطبيب المقيم والمصادقة عليه في أسرع وقت ممكن.
- ضمان سلامة الفريق الطبي وشبه الطبي خلال أوقات العمل وخاصّة أثناء حصص الاستمرار في كلّ المؤسّسات الصحيّة.
- استشارة الطلبة والأساتذة حول إعادة النّظر في منظومة الامتحانات والمناظرات وخاصّة منها المتعلّقة بالاختصاص وتركيز العمل بدرجة أكبر على طبيب العائلة.
- الاشتغال على تحسين العلاقة بين الأطبّاء والمرضى وبناؤها على الثقة والاحترام المتبادل من خلال التّحسيس عبر وسائل الأعلام.
- تحسين التصرّف في الموارد البشرية والوسائل قصد ضمان ظروف عمل محترمة.
قراءة المزيد:
هجرة الكفــاءات التــونسيـة: كيـف نـوقــف الــنّـزيـف؟
أيّ حلول لهجرة الأطباء التونسيين؟
د. علي المطيراوي رئيـس جـامـعة ســوسة: أطباؤنا الشبّان تربّوا على الحلم بالهجرة
- اكتب تعليق
- تعليق