إسمـاعيل خـليــل: أعْظِـمْ بــه مـن رجـل دولة، وأكــْرِمْ به مـــن وطنــيّ غيــور

أثارت وفاة السيد إسماعيل خليل السفير والوزير السابق يوم 20 نوفمبر 2017  الأسى والحزن في نفوس كلّ الذين اختلفوا إليه  وعملوا إلى جانبه، فضلا عن مشاعر الاحترام والتبجيل لرجل كان في مختلف المناصب الدبلوماسية والسياسية التي تقلّدها مثال الجديّة والكفاءة والوطنية. عن الراحل نعرض هذه الشهادات. 

«كان رجلا ذا شأن.. كان وطنيا حتّى النخاع، مُجنَّدا لأجل تونس، خدَمَها بكُلِّ ما أوتي من جهد، وبكلّ تفان، في كلّ المناصب والوظائف التي نهض بها بتألُّقٍ وامتياز في مجالات الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد، وأعطى في سبيل ذلك دون حساب. كان ذلك دأبُه، لم يحِدْ عنه قيد أنملة.. ظلَّ متشبِّعا بالقيم الإنسانية، متشبِّثا بخصال الاعتدال والتوافق وسعة الخُلُق.

كنْتُ أكِنُّ للفقيد الجليل منتهى الاعتبار والتقدير والمحبّة.

احتفظ بجمّ الذّكريات عن «المْعَلِّمْ». اشتغلْتُ إلى جانبه وتحت إمْرتِه ردْها من الزمن لمَّا كان على رأس وزارة التخطيط والمالية خلال الفترة الممتدة بين 18 جوان 1983 و27 أكتوبر1987. كانت فترةً صعبة إلى أبعد الحدود بالنسبة إلى البلاد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي؛ فترة تخلَّلَتْها «ثورة الخبز» في جانفي 1984 وقد ظلت تبعاتُها قائمةً حتّى اليوم، فترة شهدت خفْض قيمة الدينار في أكتوبر 1986 ووضْعَ برنامج التعديل الهيكلي وإنجازَه في سنة 1986.

عرف كيف يدرَّبَ معاونيه على ترتيب الأولويات وإدراج الضّرورات في حيز الإمكانات، مستفيدا في ذلك من التجربة التي حصلت له كسفير لتونس في بروكسيل في الفترة 1972-1978 حيث ساهم في نجاح المفاوضات المتعلّقة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وكمدير تنفيذي للبنك الدولي.

كل ذلك هيّأ المجال للدفاع عن مصالح تونس بشكل جيِّد، والحدِّ من الكلفة الاجتماعية لبرنامج التعديل الهيكلي. ولعلّ أفضل شهادة على حنكة إسماعيل خليل القيادية تلك التي جاءت على لسان المسؤول السامي في صندوق النقد الدولي السيد باتهيا الذي صرّح عقب المفاوضات التي جرت بتونس بهدف إبرام اتفاق يمنح صندوق النقد الدولي بموجبه دعما للبلاد التونسية بقوله إنّ «العادة جرت بأن تخضع البلدان التي تلاقي صعوبات إلى برامج تعديل يتولّى صندوق النقد الدولي وضعه؛ لكنّنا نرى اليوم كيف انقلبت الآية، وصار الصندوق هو الذي يخضع إلى برنامج من وضع البلاد التونسية.»

تكفُّلُ تونس ببرنامج الإصلاحات الهيكلية ساعد على وضعه موضع التّنفيذ بنجاح، وآية ذلك توفّق تونس إلى تسديد ما تخلّد بذمّتها لفائدة صندوق النقد الدولي قبل الآجال المقرّرة. لقد ظلّت بعض الذكريات عالقة بذهني عن زميل وجيه حينما كان محافظا للبنك المركزي التونسي خلال الفترة بين 27 أكتوبر 1987 و 3 مارس 1990، فوزيرا للشؤون الخارجية من 3 مارس 1990 إلى 28 أوت 1990، وسفيرا لتونس بواشنطن بين سنتي 1991 و 1994. كنّا نتشاور بشكل منهجيّ في كافّة المسائل المتعلّقة بتنمية تونس وما تطرحه من رهانات كبرى. درج سي إسماعيل على إبداء الرّأي الرّاجح وإسداء النّصح السّديد، كانت له قدرة فائقة على الاستماع الجيّد، ولا يتأخّر قيد أنملة في خدمة بلاده دون انتهازية وبلا حساب رغم ما لحقه من مظالم في أحيان كثيرة.

لن ننسى أبدا معارضته لموقف تونس الرسمي من احتلال الكويت، وكان موقفا يشوبه بعض الغموض. لقد أدان بكلّ شجاعة غزو الكويت الذي مثّل خرقا للشرعية الدولية؛ حصل ذلك في اجتماع وزراء الشؤون الخارجية العرب في القاهرة في أوت 1990... فأصبح مغضوبا عليْه وأقيل من وزارة الشؤون الخارجية وقد عُيِّن على رأسها قبل فترة لا تتجاوز خمسة أشهر. لكن ذلك لم يَحُل دون اعتبار مبادرة الوزير أحد الإنجازات المهمّة التي تُحسب لوزارة الشؤون الخارجية، ناهيك أنّه أُخِذ في الاعتبار في إطار عملية تطبيع العلاقات مع الكويت».

محمد الغنوشي، الوزير الأوّل الأسبق

أحد مـؤسّــسـي الدبلـوماسيـة الاقتصادية

«ظلّ سي إسماعيل هُوَ هُوَ في كافة الوظائف السامية التي مارسها، ذلك الوطني الغيور، والديبلوماسي الحريص على مصالح بلاده، والمؤتمن على خزينة الدولة، يُشهد له بالكفاءة العالية.. لم يحد قطُّ عن مبادئه كلَّفه ذلك ما كلّفه. كان محَلّ تقدير لم ينقطع من كافة زملائه وأصدقائه. لقد بقي قريبا منّا حاضرا أو نائيا.

ستفقد الديبلوماسية التونسية الكثير برحيل الرجل .. كان أحد مؤسّسي الديبلوماسية الاقتصادية حتّى من قبل أن تشهد النّور كما يدلّ على ذلك بشكل جيِّد تدرُّجُه في سُلّم المسؤوليات من سفير في لندن وفي بروكسيل وبون وواشنطن آخر المطاف... وتقلُّبهُ ُ في العديد من الوظائف كوزير للتخطيط والمالية ومحافظ للبنك المركزي ووزير للشؤون الخارجية .. دون أن ننسى أنّ الفقيد كان شَغَل منصب رئيس مدير عام لشركة تونس الجوية، وتقلّد منصب مستشار لدى البنك الدولي بواشنطن».

الطاهر صيود، السفير والوزير الأسبق

وداعا يا مْعَلّم

«اشتغلْتُ طيلة مساري المهني تحت إمرة مسؤولين كُثر، لكنّه كان في نظري الوحيد الأجدر بلقب «الْمْعَلَّمْ». كان كذلك بين سنة 1983 و1987، وظلّ كذلك منذ ذلك الوقت. لقد علَّمني أشياء كثيرة. علّمني كيف يمكن المحافظة على صفاء الذّهن في الأوقات العصيبة؛ وكيف نواجه مصيرنا وُنْقدِم على تغيير مجرى الأمور ونسلك مسلك التقويم والإصلاح. له على ذلك شواهد مأثورة ومن بينها موْقِفَه في سنة 1990 في غمرة أزمة الخليج، والدّور الذي اضطلع به في سنة 1985 حينما تصدّى للنزعة الشعبوية لأحد الوزراء الأول، والحزم الذي أبداه لإنجاح برنامج الإصلاحات الهيكلية وكان هو واضعه والمشرف على إنجازه، وبفضله تجنّبت تونس وَخِيم العواقب وتجاوزت الأزمة بسلام... وأنَّى لنا أن ننسى قدرة الرجل الفائقة على البيان والتّبيين والتبليغ بكلّ يسر. وداعا يا مْعَلَّمْ .. لقد أنهيْتَ المشوار ورحلْتَ قرير العين، مرتاح البال، مطمئنًّا، بعد أن قمت بالواجب بعِزَّةٍ وإباء. وإني لشاهد على ذلك.

لقد لازمْتَ الصّمت طوال هذه السنوات الأخيرة. كُنْتَ مُحِقّا حين فعَلْتَ، لأنَّ الحقَّ حقٌّ حينما يصير مَعينُ الكلام إلى نضوب».

توفيق بكّار، الوزير والمحافظ  الأسبق للبنك المركزي