أخبار - 2017.12.30

آمال موسى: الاعتقاد فـي التّنجــيـم ضـربة لمعنى العقـلنـة

 آمال موسى: الاعتقاد فـي التّنجــيـم ضـربة لمعنى العقـلنـة

مع نهاية كل سنة وبداية أخرى جديدة يقبل كثير من النّاس بشكل لافت على المنجّمين وكلّهم لهفة للتعرّف على حظّهم في العام القادم وما تبشّرهم به الكواكب من نصيب في المال والحبّ والصحّة والعمل. وما يسترعي الانتباه حقّا أنّ هذه الظاهرة تشمل فئات مختلفة ولا أثر للمتغيّرات مثل متغيّر الجنس أو المستوى الاقتصادي أو التعليمي في إنتاج فوارق ذات قيمة ممّا يعني أنّ هذا التهافت على القنوات الإذاعية والتلفزية لمتابعة قراءات المنجّمين المشهورين للأبراج ظاهرة تشمل فئات متجانسة وغير متجانسة في خصائصها.

كيف يمكن مقاربة هذه الظاهرة ســـوسيـــولوجيا وهل من تفسير لتنــــاميها وانتعـــاش ســوق التّنجيم وبروز نجوم تتســابق نحــو استضافتها وسائل الإعلام؟

إنّ المفارقة الحقيقية هي أنّ هذه الظاهرة غير العقلانية بالمرّة إنّما تفرض نفسها في زمن الحداثة وما بعد الحداثة حيث يتبارى الجميع في التسريع في خطى التحديث وإدّعاء العقلنة في النظرة إلى العالم وفي تفسير الظاهر وفي فهم الحياة والمجتمع وما يعتمل فيه . وهو ما يعني أنّ ظاهرة التّنجيم هي هزيمة للحداثة والعقلانية وتحدّ صريح تصبح في ضوئه مكاسب عدّة محلّ شكّ وتشكيك.

بمعنى آخر فإنّ الإقبال المتزايد على المنجّمين مع قـــدوم كلّ عـــام جديد يمثّل طعنة رمزية قوية في جوهر فكرة الحداثة ومعناها والقيم التي تنتصر إليها مثل قيمة العقل ومركزيته في المجتمعات الحديثة أو الحداثية.

وباعتبار أنّ الظواهر الاجتماعية تتميّز دائما بكونها معقّدة ومركّبة فإنّه في الحقيقة لا يمكن القنوع بسبب واحد في قراءة هذه الظاهرة خصوصا وأنّ التردّد بين مرجعيّات وسجّلات قيمية مختلفة تنتج ذواتا تعاني من انفصام قيمي أيضا ، فقد يكون الفرد عقلانيا أو يبدو لنا كذلك من خلال سلوكه ومواقفه وفي نفس الوقت نجده يبحث عمّا تخبّئه له الكواكب والأبراج في العام القادم أي أنّ مقاربة الظاهرة ليس باليسر الذي قد يبدو وإن كان وجودها في حدّ ذاته ضربة رمزية للعقلانية ومسارها وللحداثة وتجاربها المختلفة المدى والعمق والإرادة.

لذلك لا مفرّ من العودة إلى مساءلة الطبيعة البشــرية ذاتها حيث أنّ التهافت على معرفة تنبّؤات المنجّمين والعرّافين تهافت على المستقبل ومحاولة للتّلصّص عليه من أجل التحكّم في الخوف المرافق للإنسان والقلق الذي لا يكاد يفارقه في مختلف مراحله العمرية.

إنّ الإنسان مصاب منذ الأزل بالخوف والقلق من المستقبل وكلّ ما أنجزته الإنسانيّة إنّما ينصبّ في مقاومة ظاهرة الخوف ومعالجتها ممّا ييسّر حياة الإنسان.

ولا يفوتنا أنّ حالة الخوف والقلق هذه هي من خصائص الطبيعة البشرية، لذلك فإنّ الإنسان رغم إنجازاته العلمية التي قلّصت من الإحساس بالرّهبة أمام الطبيعة، لم يتجاوز البواعث على الخوف والقلق حيث إنّ خصائص الفرد الاجتماعية والاقتصادية ودينامكية علاقاته داخل المجتمع والتوجُّس من المجهول تغذّي لديه مشاعر الخوف والقلق، فإذا بالقلق خاصيّة تطبع النفس البشرية وتلازمها ومن ثمّة فهو - أي القلق- يمثّل إحدى الجذور النفسية لظاهرة التّنجيم والبحث عـــن قــراءات المنجّمين إلى درجة ذهـــب فيـهـــا بعض المفكرين أمثــال جيفونس وكيرك جورد إلى القول إنّه «إذا حذفتم القلق من ضمير الإنسانية تستطيعون أن تغلقوا الكنائس وتجعلوها قاعات رقص» وذلك في سياق ربطه ما بين التديّن والشعور بالخوف . ففي ضوء هذه القراءة النفسية الاجتماعية يتأكّد وجود علاقة بين الشعور بالخوف وعدم الأمان والقلق واللجوء إلى اللاعقلاني.

لذلك يسعى النّاس اليوم إلى التّعويض النفسي ومجابهة الشعور بالخوف والقلق بمحاولة تنشيط الوهمـــي والخيالي وذلك بوصـــف عملية التنشيط هذه آلية ذات جدوى من آليات دفاع الفرد عن نفسه ضدّ الإكراهات المختلفة التي تدفع به إلى الضّعف والخشية من المستقبل لا سيّما وأنّ الوضعية الاقتصادية هــي مـن بين العوامل الرئيسية المتحكّمة في وجود أو مدى وجود شعور الخوف مــن المستقبــــل، ذلك أنّ الإنسان كما بيّن روجي باستيد «ليس روحا خالصة بل له جسم وحاجيات. وهو يعمل أولا كي يشبع هذه الحاجيات.»

ومن هذا المنطلق فإنّ ظاهرة التّهافت على المنجّمين في مطلع العام الجديد تمثّل في وجه من وجوهها نوعا من الإسقاطات النفسية أو حيلة لتحقيق إشباع ما.

واللافت للانتباه كذلك أنّه في الوقت التي نسجّل فيه عودة قوية لمظاهر التديّن بأشكاله المختلفة نلاحظ بشكل متواز تزايد الإقبال على عوالم التّنجيم والعرافة وهو ما يعني أنّ العلاقة بالدّين عند الكثيرين سطحيّة وهشّة وأنّ الحالة الإيمانية ضعيفة. بل إنّ الفكرة المركزية للدين الإسلامي القائمة على الإيمان بالقضاء والقدر وتقبّل أحكام الله ليست بالفكـرة المتغلغلة في السّلوك التديُّني للأفراد.فالقلوب المشرئبّة نحو العرّافين والمنجّمين وكلّها رجاء في أن يكون أصحابها من أكثر الأبراج حظّا في العام القادم هي قلوب خالية من الطمأنينـة وغـير قـادرة على تكذيب المنجّمين ولو صدقوا.

إنّ الخوف من المستقبل سبب رئيس في إنتاج هذه الظّاهرة التي هي في تزايد، ولا شيء يدّل على أنّ العقلنة ستحدّ منها، ذلك أنّ ما يحصل في العـــالم اليوم من توتّرات وحـروب وما تعرفه مجتمعاتنا من تدهـــور اقتصـــادي يتفاوت من بلد إلى آخر وما تشهده من  أزمات البطالة العاصفة يقوّي مشـاعر القلـق والخوف من المستقبل ويجعل الإنسان هشّا نفسيّا، مدفوعا إلى البحث عــن موارد القوّة التي قد يجدها في بعض اللحظات عند المنجّمين الذين يبشّرونه بتوقّعات إيجابية فيتضاءل الخوف إلى حين.

آمال موسى

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.