أخبار - 2017.12.31

الحبيب التهامي: الأسبـاب المـوضوعيـة لفشل الـثّـورة التـونسـية

الحبيب التّوهامي: الأسبـاب المـوضوعيـة لفشل الـثّـورة التـونسـية

وجدت تونس نفسها في مساء 14 جانفي 2011 أمام خيارين أساسيين متناقضين أشدّ التّناقض، إمّا إقرار مبدإ استمرارية الدولة بما في ذلك من سلبيات ونقائص تشهد عليها تجارب الأمم التي مرّت بمرحلة مماثلة وإمّا ترك المجال للشرعية الثورية بما فيها من عنف ومخاطر تشهد عليها تجارب الأمم التي مرّت بمرحلة مماثلة.ولمّا لم تكن الثورة ثورة بالمعنى المتعارف ولمّا لم تكن لها قيادة وبرنامج واضح  فإنّ النّقاش الذي دار حول هذا الموضوع في الدّوائر العليا دون غيرها حُسم سريعا لفائدة الخيار الأوّل فسرعان ما نُصّب رئيس جديد للجمهورية وشُكّلت حكومة ضمّت وجوها قديمة وشخصيات من المعارضة و«المستقلّين» استطاعت تهدئة الخواطر تدريجيا والوصول بالبلاد إلى تنظيم انتخابات أكتوبر 2011. إلا أنّ مبدأ تواصل الدولة أدّى عمليّا إلى استمرار النّظام السّابق بكلّ عيوبه عدا التعددية وحـــرية الكلمة، وهكــذا أطيح ببن علي ولم يطح بنظامه وشكّلت هذه المنظومة مصــدرا أســـاسيّا لكلّ التّناقضات التي غلبت على الحياة السياسية من بـعد.

1 ـ لا نعرف في التّاريخ المعاصر ثورة استطاعت إصلاح ما فسد إذا لم تُقدم على هذا الإصلاح مباشرة  بعد اندلاعها لأنّ الوقت الذي يمرّ يلعب دوما دورا لفائدة القوى القديمة لا لفائدة التّغيير، وحتّى ولو اعتبرنا أنّ الثورة التونسية لم تكن ثورة بالمعنى الصّحيح وإنّما  مجرّد انتفاضة شعبية فإنّه يجري عليها من ناحية التغيير وميقاته وأبعاده ما يجري على كلّ ثورة. على أنّ التغيير الإصلاحي عن طريق القانون أي عن طريق الانتخابات والتشريع كان ممكنا نظريّا لو توفّرت الظّروف الملائمة لكن هذا لم يحدث نظرا لثقافة الطبقة السياسية الجديدة وتركيبتها، حيث أعطت الأحزاب السياسية بعد 14 جانفي 2011 الأولويّة المطلقة للسياق الانتخابي أي لتنظيم انتخابات تشريعية تفرز مجلسا تأسيسيا تنبثق منه حكومة شرعيّة إلاّ أنّ هذا السياق أجّل عمليا تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لما سمّي بالثورة التونسية وأعطى لكل الحكومات الوقتية عذرا تفسّر به تقاعسها عن حلّ المشاكل المطروحة. والواقع أنّ الشّارع التونسي المنادي بالتغيير يتحمّل مسؤولية كبيرة فيما حصل لأنّه شغل نفسه هو أيضا بالانتخابات معتقدا أنّ الانتخابات كفيلة وحدها بتحقيق التغيير المنشود.

2 ـ وصلت إلى الحكم بعد انتخابات 2011 أحزاب سياسية مختلفة أشدّ الاختلاف في كل المسائل المفصلية ،لا تملك مشروعا اقتصاديا واجتماعيا بديلا، جاهلة بكلّ المعطيات الديمغرافية والاقتصادية الأساسية، ثقافتها ثقافة معارضة وليست ثقافة حكم. ولقد برّرت هذه النّقائص بشتّى الأعذار منها احتجاز المعلومات ومحاصرة العمل السياسي المضاد خلال الحقبة الماضية ولكنّ الحقيقة أنّ الأحزاب السياسية التي تكوّنت قبل 14 جانفي 2011 وبعده لم تؤهّل نفسها وكوادرها لتحمّل أعباء الحكم وكان ذلك ممكنا حتّى زمن حكم بن علي لو كان لهذه الأحزاب حرص حقيقي على المعرفة والتفكير والاستشراف والبرمجة. والدّليل أنّ هذه الأحزاب واصلت  نفس النّهج بعد 14 جانفي 2011 رغم فكّ الحصار عنها وتوفّر المعلومات بقدر هامّ.

3 ـ لم تفض انتخابات أكتوبر 2011 إلى بروز أغلبية نيابية واضحة ومتماسكة في المجلس التأسيسي وكان هذا متوقّعا نتيجة لطبيعة طريقة الانتخاب المعتمدة ممّا أدّى إلى تكوين تحالف ثلاثي لا يتّفق على اختيارات أساسية كمفهوم الدولة الوطنية مثلا. وأدّت هذه التركيبة إلى سلسلة من السلبيات منها تعطّل العمل التشريعي وغلبة الطموحات الحزبية والشخصية على العمل الحكومي وإضعاف الثقة في السياسة والسياسيين. ولم تنج انتخابات 2014 من نفس العواقب السيئة بل ازدادت حدّتها كما نلاحظه الآن من خلال تعطّل العمل الحكومي ورداءته وتغلّب قيادات الأحزاب السياسية المؤلفة للأغلبية النيابية على الجهاز التنفيذي رغم أنّ البعض نبّه الرّأي العام منذ مارس 2011 لانعكاسات طريقة الانتخاب على النظام السياسي من حيــث أنّها ستـؤدّي لا محالة إلى تركيز نظام أحزاب لا لنظام برلماني أو رئاسي معدّل.

4 ـ ترجع أسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها تونس حاليا إلى عدّة عناصر منها ما يتعلّق بالتسيب المالي الذي ساد قرارات حكومات ما قبل انتخابات 2011 ومنها ما يتعلّق بالقرارات الاقتصادية والمالية العشوائية التي اتخذتها الحكومات التي نبعت عن هذه الانتخابات ومنها ما يوكل لحكومات ما بعد انتخابات 2014. وتشكّل هذه العناصر وحدة رغم الفروق الإيديولوجية أو السياسية المعلنة وذلك لسببين رئيسيين، الأول أنّ مخلّفات القرارات التي تتخذها حكومة ما في فترة ما تتحمّل أعباءها عمليا الحكومة الموالية في الفترة والفترات الموالية والثاني أنّ السياسة الاقتصادية والمالية التي انتُهجت من قِبل كل الحكومات المتعاقبة لم تتغيّر في مضمونها وإن تغيّرت بعض الشيء في آجال وطرق التنفيذ.

5 ـ لعب البحث المستمر عن «التّوافق» في الميدان السياسي دورا تأرجح بين الحثّ على التعايش وإشاعة الشلل لكنه لعب أيضا دورا سلبيا  في حجب أو تقليل أهمية التّوافق الاجتماعي والاقتصادي في فترة حرجة من تاريخ البلاد، فلقد أقحمت الأطراف الاقتصادية الاجتماعية لفرض توافق سياسي دون أن تبحث لنفسها عن توافق اجتماعي اقتصادي يكمّل ويعزّز التّوافق السياسي البحت.

الملاحظة الأولى التي يجب أن نبديها هنا هي أنّ إقحام المنظّمات المشار إليها في المسائل السياسية البحتة أتى بطلب من الحكومة أحيانا وبطلب من التشكيلات المنتخبة وبطلب من ما يسمّى بالمجتمع المدني أحيانا أخرى و نتيجة لذلك تشابكت الأدوار دون نفع. والملاحظة الثانية هي أنّ كلّ الحكومات عجزت عن إحياء السياسية التعاقدية حول الأجور والمداخيل والجباية والتّحويلات الاجتماعية وعجزت بالتالي عن ضبط محتوى المفاوضات مع الأطراف الاقتصادية والاجتمـــاعية وعــــن تقنيــــن الآليات المنهجيـــة والعملية التي من شـــأنها إيجـــاد توافق حول المــسائل الجـــوهرية التـــي مـــا فئت تسمّــم العلاقات الاجتماعية والمهنية.

6 ـ لبروز الإرهاب على السطح تأثيرات لا تنكر في احتداد الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، ولكنّ تأخرّ معالجة الإرهاب ساهم بقسط أوفر في هذا الاحتداد لتتحمّل الحكومات التي انبثقت عن انتخابات 2011 مسؤولياتها كاملة في الإخلال الخطير الذي حصل في أجهزة الأمن وفي عدم احتساب تداعيات سقوط نظام العقيد القدافي على الأمن والاستقرار في المنطقة. لقد كان القضاء على الإرهاب وتطويقه على الأقلّ ممكنا في المراحل الأولى لو توفّر الاستباق المفروض في هذه الحالة لكنّ المجال تُرك لمسؤولين هواة لا يقدّرون عواقب الأمور، شغلوا الناس وأنفسهم بمناقشات بيزنطية مسّت الدولة وحطّت من إمكانيات  الساهرين على الأمن ومعنوياتهم.

والخلاصة أنّ فشل الثورة التونسية كان منتظرا للأسباب التي ذكرت ولسبب آخر لعلّه أهم لأنّه يتعلّق بالأرضية الثقافية والفكرية والسياسية السائدة في المجتمع التونسي، حيث دلّت كل الانتخابات التي أجريت بعد 14 جانفي 2011 أنّ غالبية التونسيين لا ترغب حقيقة في دكّ النظام الاقتصادي والاجتماعي الموروث وإبداله بنظــام مغاير لأنّها صــوّتت في كلّ مرّة لفائــدة أحـــزاب «محافظة» من هـــذه الوجهة. أمّا إذا وضعنـــــا بلادنا في إطار محيطها الجغرافي والسياسي فإنّه لا منــــاص لنا من اعتـــبار حقيقة لا مفرّ منها وهي أنّ شعوب الأرض المتقدّمة  تنقسم إلى صنفين أساسيين: شعوب قادرة على الإصلاح دون أن تشعل ثورة وشعوب لا تقدر على الإصلاح إلا بإشعال ثورة ونستَطيع أن نقول بالنظر إلى التّاريخ المعاصر إن الشعــــوب المتوسطية تنتمي عمـــوما إلى الصّنف الثّاني وإنّ شعوب أوروبا الشمالية تنتمي عموما إلى الصّنف الأوّل وأمام ما حدث في تــــونس فإنّ صنفا ثالثا رأى النّور وهو صنف الشّعوب غير القادرة على الإصلاح حتّى ولو اشتعلت في محيطها نيران الثّورة أو ما سمّي خطأ وتجاوزا بالثّورة.

الحبيب التهامي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
منير العربي - 01-01-2018 10:25

حقيقة تحليل دقيق وعلمي نجح في تشخيص أغلب اسباب الفشل الذي نحن عليه اليوم بعد ما أسماه ب " الإنتفاضة " ولكن وكبقية المحللين لم تكن مقترحات الحلول حاضرة وهذا لا ينقص من قيمة المقال ولكن يجعلنا كذالك أمام تسائل عن جدلية القدرة على التحليل كونها مهارة قيادية هامة جدا واستشراف الحلول على معنى انها نافذة الامل

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.