أدب وفنون - 2017.10.08

أحمد اللغماني: »أنا وزماني«

أحمد اللغماني: «أنا وزماني»

ننثر في هذا العدد ورقات من النصّ النثري الوارد في الأعمال الكاملة للشاعـر أحمد اللغماني، الصــادرة في الأشهر الأخيرة عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة». عنوان النصّ «أنا وزماني»، وقد اقترن فيه جمال اللفظ بروعــة التعبير ودقّة الوصف وطلاوة الأسلوب القصصي، وهو بمثابة ترجمة ذاتية، استعرض فيها عددا من الأحداث التي عاشها.

في المقتطفات التالية، يحمل أحمد اللغماني القارئ إلى عالم طفولته في مسقط رأسه، قرية الزّارات من ولاية ڤـابس:

أيّها القارئ العزيز،....لا أعلمُ ولا أحدٌ يعلمُ للزّارات تاريخًا واضحًا فشأنها في ذلك شأن وليّها «سيدي أحمد البكّاي».

أمّا أبناء الزّارات فكيف لي أن أصفهم لك وأنا واحد منهم؟ ما يكون حالُ قوم نشأوا على الحرمان وتطبّعوا به وألفوا الشظف ورضوا عنه فكانت القناعة أولى فضائلهم؟ جاهدُوا الأرض فاقتلعوا منها أقلّ ممّا يُرضي الحــــاجة واكْتفوْا بـــه، ذلك أنّ حــاجتهـــم طوعُ إرادتهم: يمـــدّونها عند الوجد ويشدّونها عند الإملاق. فمنهم «الثريّ» بالقياس إلى مفهوم الثروة عندهم وهو امتلاك بُستانٍ أو غابتين في الواحة أو مزرعتين في البادية وقطيعٍ من الغنم ورأسٍ أو رأسين من الإبل.

وأمّا المعدمون – وما أكثرهم – فلا يبيتون على الطّوى ذلك أنّ للقرية نظامًا في التّضامن قلّ أن يوجد له مثيل في الجهة توارثوهُ جيلاً عن جيلٍ فكان من ثوابتِ خصالهم، فهم –على ما كانوا عليه من حاجةٍ– مُكتفونَ بما قسم الله لهم، مُنغلقون على أنفسهم تتلخّص الدّنيا عندهم وتختصرُ، فهي تقف عند سوادهم وراء ضريح «صيد الواد» غربًا وعند شاطئ البحر شرقًا وسور المدرسة شمالا وعند منتهى الواحة جنوبًا: ذلك كان عالمهم وإنّه ليتسع لعالمهم ولا يضيقُ بآلامهم.

ينقسم الخضوع والنّفوذ في الزّارات إلى حيّين يقتسمان جغرافيّة القرية هما «أولاد منصور» ومن يليهم لهم الشطر الغربيّ من القرية، وحيّ «أولاد الأحول» ومن يليهم ولهم الشطر الشرقيّ.

ظلّ هذان الحيّان يتنازعان النفوذ جيلًا بعد جيل. وربّما لجأ أحدهما إلى استظهار «المستعمر» على مناوئه والاستعانة بـ «المعمّر ترييولي» (TRIOLET) الذي قدم إلى الزّارات أوائل القرن الماضي وامتلك أخصب المزارع المتاخمة للشاطئ، وابْتنى له قصْرًا فخمًا تعلوهُ منارةٌ غريبةٌ يُسميه أهل القرية «برج المعمّر» وأثناء الحرب الثانية كثيرًا ما كان أهل القرية يشاهدون إشارات ضوئيّة ترسلها المنارةُ ليلا. وبعد أن حصلت بلادنا على استقلالها أمّمت بُرج «المعمّر» وأصبح ذلك البرج معملا عصريّا لتصبير السمك، أحدثه أحد شبّان الزّارات الناشطين رحمه الله.

ولأطوف بك أيضًا – أيّها القارئ العزيز – هذين الحيّين وأعرّفك بأولاد منصور وأولاد الأحول وقد التفّ حولهما حلفاء وتفرّعوا إلى فروع وغصون: فتفرّع في حيّ أولاد منصور «اللَّغامنة» وانحازت إليهم أحياءٌ أخرى أهمّها «المعاييف» و«البطائنة» و«الدّحامنة» وكلّ هذه الفسيفساء من العروش يسكنون الجهة الفوقيّة من القرية، وظلّت هذه الفسيفساء مقيمة في الجهة العلويّة.

أمّا «أولاد الأحول» فكانوا يضمّون: «أولاد عمّار» و«أولاد المخاتير» و«أولاد الحجّاج» و«أولاد عيّاد» وغيرهم. وهؤلاء كلّهم مقيمون في الجهة التحتيّة وظلّت هذه الفسيفساء القبليّة مقيمةً على نسق من الحياة لها أخلاقها وتقاليدها وقوانينها، وهي إن اتّخذت مظاهر عصريّة وأشكالاً حضاريّة لا تزال تخضع لدستور «العشيرة» وقانون «العصبيّة» في كلّ شأن من شؤون حياتها. أمّا إذا طرأ طارئ من خارج الزّارات يريد بها شرّا فإنّ هذه الأحياء المتنافرة تلتفّ وتلتحمُ فتكون واحدة على الدّخيل أو المغير، وهكذا تنطبق عليها العبارة: المأثورة «أنا وأخي على ابن عمّي، أنا وابن عمّي على الدّخيل».

وحدث أن تصاهر الحيّان المتنافسان وأنجبا من الأولاد من له خَوَلٌ في الحيّ المُناوئ، وحين يبلغ الولد لا يرى ضيرًا في التعصّب إلى حيّ أبيه ونصرة أعمامه على أخْواله. والزوجة من الحيّ المنافس تظلّ هي أيضًا على ولائها لحيّها، وانحيازها الصامت إليه. وإذا ألمّ بها مرضٌ وأحسّت بقرب أجَلها فقد يحدث أن تعود إلى أهلها لتقبرَ في مقبرتهم.

عرفتُ هذا كلّه عن قريتي وأنا صبّي وعشته كما عاشه أترابي، واغتربت بي الأعوام عن الزّارات وأهلها في فجر شبابي فتباعدت زيارتي لها فامّحت – أو كادت –ميولي لتلك العصبيّة القبليّة.

وعدت إلى الزّارات وتقاربت زياراتي لها وتطاولت فإذا تلك العصبيّة لم تفقُد شيئاً من شحنائها، ولم يزدها ازدهار القرية إلاّ شراسة.

وإلى هنا بيّنتُ موقع الزّارات: شوارعها ومتاجرها، وساكنيها واتصالهم ببعضهم في «أحيائهم» المنفصلة.

والزّارات هذه هي الزّارات القديمة التي حطمتها الحرب الأخيرة ولم يبق منها إلاّ «صيد الواد»: سيدي أحمد البكّاي. والصخرة العظيمة التي استنتجتُ منها أنّ الزّارات ربّما قد كان لها شأن في العهد الروماني. والمكان الذي سمّوه «فم القصر» يُشيرٌ إلى أنّه كان موضعًا لقصر من القصور الرومانيّة. «والله أعلم».

نشأتُ في حجر لا أدري هل عرف غيري من الأطفال حِجرًا في عطفهِ وحنانه وتقلّبتُ في حُضن مازلتُ إلى يومنا هذا أحسّ «دفأه» وحنانه وكلّما اسْتذكرتهُ والتصقتُ به وعيتُ تمام الوعي ما كانت تسرّ به إليّ خفقاته. وحاضنتي في كلّ هذا هي جدّتي للأمّ «أمّي عزيزة» كما كنتُ أدعوها. ذلك لأنّي كنتُ في كفالة جدّي وإن لم أكن يتيما.

لم يكن والدي – مثل سائر وُجهاء القرية – يكتفي لزوجة واحدة. فقد تزوّج والدي أوّل زواجه بفتاة من اللّغامنة وأنجب منها ثلاثة أبناء وبنتًا. ثمّ بدا له أن يخطُبَ امرأة من «أولاد الأحول» ذلك الحيّ المناوئ لحيّنا وأنجبتْ له طفلا هو «ضوءُ» ثمّ فارقها وتزوّج بنت عمّ له توفّي زوجها «الكروي» وكنت أنا ثمرة هذا الزواج. ثمّ فارق أمّي واسترجع بنت الأحول، كما كانت تسمّيها اللّغامنة. جرى كلّ هذا وزوجة والدي الأولى لم تبرح بيتها، عائشة مع أبنائها الأربعة صابرة مصابرة.

كلّ هذا حدّثتني به أمّي عزيزة جدّتي: قالت لقد خرجت من بيت أبيك وأنت جنين. وكانت هنا في هذه السّقيفة التي نجلس عليها الآن. وكـــان ذلك في ليالي الرّبيـــع القــلائلة التي إذا عصفت جنّت.

وتزوّجت أمّــي مـن حيّ أولاد عيّاد الذين كانوا من حُلفاء أبنـاء الأحــول. فكأنّهـا أرادتْ أن تُحـدثَ مُعادلة لزواج والدي من الحيّ المنـاوئ لحيّنا.

كانت أمّي تأتيني إلى بيت جدّي في المواسم لتراني، وكنت ألقى منها ما يلقى الأبناء من أمّهاتهم، لكنّها – رحمها الله – لم تكن تلقى منّي ما تلقاه جدّتي من الميل. فكانت تتألّم من ذلك في صمت.

أمّا والدي فلم أكن أراه إلاّ في المواسم فكنت أذهب إليه في تلك المناسبات فتتلقّاني زوجته بنت الأحول بكلّ حفاوة وتبجيل فلم تكن تدعُ شيئاً ممّا يستميل الأطفال إلاّ أحضرته لي فأقضّي اليوم مكرّما مبجّلا. غير أنّ ذلك كان تكريم الضيف وتبجيله، حتى إذا قرَبَت الشمس الغروب عدت إلى جدّتي.

وأستجدُّ ذاكرتي لأرى في طفولتي الواعيةَ صورةً واحدةً من الإهمال واللاّمبالاة فلا أرى شيئاً من ذلك. بل كنت أمرحُ بين جدّتي وجدّي ولا أرى إلاّ السّعادة والتدليل. فكنتُ سيّد البيت حتى عند أخوالي وأعمامي.

وأدركتُ – في ما بعد – هــذه المفارقة الغريبة التي كانت تسمّى «حياتي».

يقع مسجد القرية في الجهة الفوقيّة بين متجر «بن كريم» ومتجر «أحمد المبروك» له بابان يفتحان على الشمال أحدهما يفضي بالدّاخل إلى باحة صغيرة. وثانيهما يفتحُ مباشرةً على قاعة الصلاة. إذا دخلت المسجد من باب الباحة وجَدتَ على يمينك قاعة الصلاة وعلى شمالك غرفةٌ صغيرة هي «الخلوة» وإن شئـت «الكُتّاب» وإلى جـــانب الخُلوة مـــن الجنوب توجــــد البئرُ ودورة الطهـــارة.

أذكر يومي الأوّل في الكتّاب. أيقظتني جدّتي مع الفجر وهيّأت لي فطوري ثمّ أخذتني إلى المسجد قبل شروق الشمس. وقفتْ بي جدّتي أمام باب الخلوة ونادت: «يا سيدي المــؤدب». فخــرج إليــنا. كان رجلا ربعة نحيلا ذا وجه طويلٍ تحـــوطه لحية ســــوداءُ. كان يلبس «جبّة» من الكتّان الأبيض متعمّما عمامةً بيضــــاء قد تدلّى من عنقـــه خيط أسود يُشبه القلادة انتهى إلى «جيب سدريّة» علمتُ في ما بعدُ أنّه يشدّ ساعتهُ العتيقـــةَ. ذلك هو «سيدي أحمد الزمــــوري» مؤدّب القرية وإمــــامها. قالت لـــه جدّتي في لهجة المستعطف «يا سيدي أحمد الزمـــوري»! «يا سيــــدي المؤدّب»! أتيتُ إليك بابن بنيّتي لتحفّظه كلام الله فابصق في فمه ليأخذ عنــــك ما أودع الله في صـــــدرك من العلم».

ثمّ دسّت في يده بيضتين. أخذ المؤدّب البيضتين في يدٍ وشدّ على يدي بيده الأخرى بدون أن يقول لها كلمةً، وأدخلني الخلوة بعد أن صرف جدّتي بدون أن يقول لها كلمة واحدة. وقضّيت ذلك اليوم بحصّتين: الصّباحية والمسائيّة في ركن من الخلوة بين يديْ لوحةٍ عليها نقوش ونقطٌ لا أفقه منها شيئًا.

يدخلُ الصّبية الخلوة فيجدون المؤدّب متربّعًا على دكّة عبارةً عن مرتفعٍ مبنيّ في طول كنْبَةٍ عرضها يعلو أرضيّة الغرفة بنحو الذراع بُسطت عليه حصير بالية، ووُضعت في زاويته قلة صغيرةٌ.

يبادرُ الصبية حال دخولهم بالازدحام حول المؤدّب يقبّلون ظاهر يده المبسوطة مغمغمين تحيّة مبهمَةً يلقونها إلقاءً سريعًا، ثمّ يُسارعون إلى ألواحهم المسندة إلى الجدار في زاوية من زوايا الخلوة، متزاحمين متشاجرين لأخذها، ويجدون في الاهتداء إليها عناءً أيّ عناءٍ! ولكنّ ذلك الزّحام وتلك الجلبة لا يلبثان أن يهدءا ذلك أنّ المؤدّب أهوى من مجلسه ذلك المرتفع بعصاه الطويلة التي اصطَنَعَها من جريد النخل على جمعٍ من الصّبية فيفرّون صارخين مُولولين يلتمسون ألواحهم في هدوءٍ ونظام.

تبدأ الحصّة في الصباح بعد صلاة الصّبح مُباشرة. يخرج المؤدّب من المصلّى بعد أن أتمّ الصّلاة بالنّاس فيدخل الخلوة إلى دكّته Ùثمّ يأخذ الصّبية المتثاقلين ومازال النّعاس يُثقلُ أجفانهم فيُقبّلون يد سيّدهم المبسوطة، ثمّ يأخذون أماكنهم ويشرعــون في ترديــــد ما أملى عليهم سيّدهم صباح أمس، ويكرّرون، ويردّدون بأصواتهم الخافتة التي لا تلبث أن تعلُوَ شيــئاً فشيئاً وتخـــرجُ إلى ســاحة المسجـــد فإلى الحـــيّ كلّه. وتختلط الأصوات وتتسابقُ وعصـــا المؤدّب تجــول بيــــن رأس هذا وظهر ذاك حاثّة على الجدّ والاجتهاد في الحفـــظ. فإذا أشـــرقتْ الشمسُ وارتفعتْ وقصُرَ ظلّ الجدار الجنوبي من سُــــوَر المسجد قدرًا مُعيّنــــا شـــرعَ المؤدّبُ في اختبار حفظ الصّبية ما أملاهُ عليهم بالأمس واحدًا واحدًا.

يتقـــدّم الصّبيّ مـــن المـــؤدّب وجِلاً من العصـــا الطويلة المسنّــدة إلى فخِذِ مؤـدّبـــه وإلى ذلك الشيء المـــرعب الذي يدعـــونــــه «الفلقة» المركونُ في الزاوية المحاذية للدّكة فيقلب لوحته ويأخذُ في استظهار ما كتبه أمس. فإذا نجح غَمغَمَ له المؤدّب هذه الجملة «فَتَحَ الله عليك» وإذا أخفـــق نال جلداتٍ خفيفةً من العصا الطويلة إن كان من النجباء أمّا إذا كان من المقصّرين الكُســــلاء فَتُشَدُّ رجلاهُ بحبــــل الفلقة وينال جلــــداتٍ تتفـــاوتُ عـــدَدًا وعُنفــا حسب درجة تقصيره وكسلهِ ويحرمُهُ من تناول فطوره، في حين يُسرّحُ الحفظة لتناول فطورهم الذي أتوْا به من بيوتهم. ثمّ يمحُون ألواحهم ويعدّونها للإملاء الجديد.

كان فطورُ الصّبية يتكوّن من «البسيسة» المتكوّنة من الدّقيق الرّطب المختلطُ بالزّيت فيلتهمونه التهامًا ثم يقبلون على جُرنٍ صخريّ يدعونه «المحّاية» فيمحون ألواحهم ثم يطلونها بنوع من الطين الناعم حتى تُصبح بيضاء ملساءَ ثم يرْمونها إلى أشعّة الشّمس لتجفّ وفي انتظار أن تجفّ الألواح لهم أن يمرحوا ما شاؤوا. فإذا جفّت الألواح أخذوها ومسّحوا عليها بأيديهم لإزالة ما عَلِقَ بها من نُثارِ الطّين، ودخلوا الخلوة لتلقّي الإملاء الجديد.

يقســـمُ المؤدّب صبيتــــه قسمين: قســــم الكبار الذيــن تقدّموا شوطا في الطّلب وأصبحوا يتفنّنون في الكتابة والقراءة وهؤلاء يُملي عليهم المؤدّب سُورهم الجديدة آية آية بدون أن يغفل تنبيهةَ كلّ طالب إلى كيفيّة رسم الكلمة على طريقةِ الرّسم «التّوفيقيّ» الصّعب من إثبات المدّ وكيفيّة الرّسم إلى غير ذلك... من صعوبة هذا الرسم التوفيقيّ الذي يحيّر البالَ ويُذهبُ الذهن. ولسيدي أحمد براعة عجيبة في الإملاء. فهو يذكُرُ الجملةَ التي انتهى إليها إملاؤه عند كلّ طالب، فإذا حدث أن نسيها – وهذا نادر جدّا – طلب من الطّفل قراءة آخر آية أملاها عليه ليُواصل إملاءه. وبعد أن يفرغ المؤدّب من الإملاء على الكبار ومن تكتيب الصّغار يأمرهم جميعًا بترديد ما كتبوا إلى أن يصل ظلّ الجدار قدرًا معيّنًا فيُسرح الأطفال وتكون الساعة آن ذاك التاسعة ضُحًى. أمّا حصّة العشيّة فتبدأ عند آذان الظّهر وتخصّص لقراءة ما كتبهُ الأطفال في الصّباح وتكراره فيُقبل الأطفال على التلاوة المنغّمة متبارين في رفع أصواتهم والمؤدّب يُصلح ما يسمع من تصحيف وينشّط من بدأ يأخذه النّعاسُ بزجرة من صوته الأجشّ أو بمدّة العصا الطويلة حتى إذا حلّ وقت آذان العصر سرّح الصبية وصعد الدّرج المؤدّي إلى سطح المسجد ليُؤذّن.

حدث ذات يوم أن رجعتُ إلى البيت أضلعَ لما نال رجليّ من جَلدٍ لأنّي لم أحفظ السورة التي كان عليّ حفظها فنالني من الجزاء الوفاق الذي كان سيدي أحمد يجزي به كلّ مقصّر من الصبية دون تمييز. رأتْ جدّتي ذلك فثارت، وزمجرت، وأرْعَدتْ، وأبْرقت وكالتْ للمؤدّب ما شاء الله أن تكيل من الشّتم واللّعن وكنتُ أصغي إلى ذلك الإبداع المشجّع المقفّى من أدب الشّتيمة باستمتاع كبير.

وحالما عاد جدّي من مجلسه في متجرِ كُريم لقيتْه جدّتي شاكيةً مُشنّعة بقسوة المؤدّب وغلظة طبعه وختمت مرافعتها المدينة تلك وحثّتْ جدّي على الذّهاب إلى المؤدّب لمُحاسبته على صنيعه الشّنيع. فيُجيبها جدّي بضحكة طويلة فيها شيء من الرّقّ وكثيرٌ من الهُزء: «أيّتها العجوز الخرفة! كيف تضيقين بهذه الجلدات الخفاف التي نفَحَ بها المؤدّب أحمد؟ ألا تعلمين أنّ الجسم الذي تنالهُ عصا المؤدّب لا تنالهُ جهنّم؟ دعيني من هذا الهراء! فما على أحمد بأس من عصا مؤدّبه!» وغمغمتْ الجدّة غمغمتها المعهودة عندما تكون ثائرة ولا تستطيع إرضاء ثورتها، ونهضت إلى مطبخها لتُشرف على الغـداء الذي كانت تُهيّئه إحدى نساء أخوالي...

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.