أخبار - 2017.08.17

سلوى الخضّار زنقر: رائـدات تـــونـسـيّـات

سلوى الخضّار زنقر: رائـدات تـــونـسـيّـات

يقول الطاهر الحدّاد: «المرأة نصف الإنسان وشطر الأمّة نوعا وعددا وقوّة في الإنتاج من عامّة وجوهه... وإذا كنّا نحبّها ونحترمها ونسعى لتكميل ذاتها فليس ذلك إلاّ صورة من حبّنا واحترامنا لأنفسنا وسعينا في تكميل ذاتنا...».

يحفل تــاريخ تــونـس ببصمــات نسائية عميقـــة الأثـر وإن أغفــل المـؤرّخون عن قصد أو غير قصد عن ذكرها عند استقرائهم للأحداث التاريخيــة، فتراثـــها لا يعدّ وقد تعاقبت عليه الأزمنة. وما من شكّ أنّ الرجل بُهــر منذ أقدم فترات الإنسانية ولا سيّــمــا منــذ عصــور ما قبل التاريخ بالقدرة على الإنجاب التّي وهبها الخالق للمرأة. ولعلّ هذا الانبهار هو الذي حدا بالرجل منذ العهد الكبصي إلى نحت صور نسائية على الحجر الكلسي. ويزخر التاريخ بأسماء يرنّ لها صداها في قلوبنا ولعلّ أبرزها علّيسة الفينيقية الشرقية والمؤسسة التي جادت بنفسها من أجل بقاء قرطاج واستمرار مجدها، والكاهنة تلك البربربة التي جمعت بين شجاعة المحاربين وبُعد نظر الحكماء فجازية الهلالية تلك التي سحرت بجمالها وتمكّنت بفطنتها وقوّة شخصيتها من نسج أسطورة. أمّا السيدة المنوبية التي آثرت التصوّف فقد علّمتنا أنّ سبيل الحريّة يمرّ بالمعرفة والبحث عن الحقيقة. وكما سجّل تاريخ تونس في أوائـــل عهد البايات أسمــاء بعض النساء اللّاتي لعبن دورا متميّـــزا في مجتمعهــنّ أمثال الأميرة عطف، فالأميـــرة عــزيزة عثمانة...ولكن بمطلع العصـــور الحديثة، بــدا عـدد التــونسيات اللّواتي تعلّمن وأبدعـــن في ميــدان الأدب والعلوم والفنّ ضئيلا جــدّا لا يمكن مقارنته بعددهنّ في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية بالقيروان والوثائق المتوفّرة لدينا بمتحـف باردو ترمز بالتحديد إلى عهد المعزّ بن باديس رابع خلفاء الزيريين الذي حكم تونس في القرن الحــادي عشــر ميلادي (1062 – 1096) فتذكر هذه الوثائق أمّ مــلال عـمّة المعزّ إذ كانت وصيّة عليه عندما اعتلى العرش في التاســعة من عمره فشاركت أخاها في تسييــر شؤون الدولة ثم أمّ العلو أخت المعزّ، ففاطمة الحاضنة، حاضنة باديس ثمّ ابنـــه المعــز...

وكانت وضعيّة المرأة متميّزة آنذاك. نشير كذلك إلى الصداق القيرواني وهو عقد زواج عرفه المجتمع القيرواني منذ القرن الثامن م وبقي راسخا طيلة إثني عشر قرنا إلى حين صدور مجلّة الأحوال الشخصية وينصّ على أنّ الرجل لا يتزوّج ثانية إلاّ بالحصول على موافقة الزوجة الأولى وفي حال حصول ذلك دون رضاها فلها كامل الحقّ في طلاق الزوجة الثانية...ثم خيّم الظلام فبمطلع العصور الحديثة بدت المرأة التونسية كأخواتها في سائر الأقطار الإسلامية بعيدة كلّ البعد عن الحيــاة العــامّة وقد كبلتها الثقافة السائدة والعقليــات المتحجّــرة. فكانت تربية البنت تقتصـر على تعلّـــم شؤون المنزل والخياطة والتطريز إما بالمنزل أو بالحيّ «بدار المعلّمــة» (عـدد ضئيل من الأسر الأرستقراطية تدفع المصاريف لشيخ مؤدب يأتي إلى المنزل لتعليم بعض السور من القرآن...).

وفي بـــداية القرن العشرين في مجتمع هزّه الاستعمار وأرهقه نادت النخب التونسية بضرورة تعليم المرأة والرفـــع مـن شأنها وأدرجت ذلك ضمن رؤيتهـــا للنهـــوض بالمجتمع والتصدّي لهيمنـة الغرب. كانت المرأة في نظر الوطنيّين، باعتبارها مربية للأجيال، ركنا أســاسيــا في سعيهــم للدفاع عن الكيـان التونسي، في حين راهن عليها المستعمــر لتمــرير مخطّطــاته للقضاء على المجتمع التونسي وكانت الصحافة التونسية تتابع جلّ أفكــار روّاد حــركة الإصلاح بالمشــرق من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبـــده والذين حــاولوا التوفيق بيـــن الإســـلام والحداثة الغربية وكذلك أراء الإصلاحيين أمثال رفاعة الطهطاوي وخاصّة قاسم أمين...على كلّ، اتّفق الجميع على ضــرورة تعليم البنت المسلمة للنهوض بالمجتمع ولكن اختلفت الخطب واحتدمت المجادلة حول نمط التعليم المقصود والغاية منـــه: ثقــــافة عربيّة أم ثقافة غربية؟ لغة عربيّـــــة أم لغة فرنسيّة؟ وتحولت إلى منابر صحـف النهضة و«مرشد الأمّة» و«البـدر» و«لسان الشعب» و«الحــاضرة» و«الصواب»...

وجب الاعتراف هنا بأنّ النساء كُنّ غائبات عــن هــذا النقاش فمنابر التعبير كانت لا تزال حكرا على الرجال بل على أقليّة من الرجــال المتعلّمين. وفي هذا السياق انطلقت أوّل مدرسة لتعليم البنت المسلمة في 1 مـــاي 1900 بخمس فتيات، فكانت المدرســة بالنسبة إلى الأجيال الأولى أوّل انفتاح على آفاق العالم الرحبة. ناهيك أنّ كلّ الإصلاحات التي شهدتها تونس خلال الفترة السابقة لانتصاب الحماية الفرنسية والهادفة إلى جعــــل التعليم متماشيا مع تطور العصر (إعادة تنظيم التعليم بجامع الزيتونة 1870 – 1877 وإنشاء المعهد الصــادقـــي 1875) لم يتضمّن أيّ إجراء لصالح البنات اللّائي لم يكن التعليم لا في الكتاتيب ولا بالجامع الأعظم متاحا لهنّ.

وفتحت في سنــــة 1908 العــــديد من المـدارس بالمــدن التــونسية: بسـوسة والقيروان ونابل... ولعبت تونس في هذا السياق دورا رياديّا مقارنة بجيرانها. وفي بداية العشرينات مـــن القـرن المـاضي، قطعت بعض الأصوات النسائية الصمت مؤذنة ببروز بوادر لاضطلاع المرأة بمهمّة الدفاع عن قضيّتها بنفسها وأبدت هؤلاء الرائدات جرأة لافتة بمواقفهنّ وكانت الأولى سنة 1924 والثانية سنة 1929 حين اعتلت منّوبية الورتاني ثمّ حبيبة المنشاري المنبر الفرنسي معلنة عن سفورها. فكانت الزوبعة في أوساط المثّقفين فعمّ الهيجان والسخط...إلا أنّ صوتا تميّز عـن الجميع ببعد نظره وهـــو صــوت الطاهر الحدّاد إذ اقترح برنامجا متكاملا لتعليم البنت يجمع بين المعــارف العـــامّة والعلــوم الصحيحة فتعالت الأصوات بين ساخط ومؤيّد ومناهض لمشروع الحدّاد الذي اعتبره طرف ثالث سابقا لأوانــه ويقول في هذا السياق المحامي الشاب الحبيب بورقيبة: «هــل يعنـي ذلك أن علينا، كي نحافظ على ذاتيتنا، أن نصُدّ أيّ تقدم أو نردّه؟ إنّ التطوّر يجــب أن يحصــل وإلاّ فمآلنا الموت، سيحصل التطوّر ولكن دون تصدّع ودون القطيعة...إنّ الحجاب والشاشية...سيندثران لاحقا عندما يصبح مثل هذا التطوّر ثمـــرة لتأكيد شخصية تتغيّر عندما يصبح مثل هذا التطوّر ثمرة لتأكيد شخصيّة تتغيّر مـــن الداخل وليس تشبّها وذوبـــانا في شخصــية أخـــرى». (L’Etendard Tunisien 1929).

وكان على التونسيـــات أن ينتظــرن سنة 1944 لتُفتح المدارس الفـــرنسية-العربية ليتمكنّ من الارتقاء إلى المعاهد الإعدادية والمعاهد الثانوية ومع ذلك لم يتجاوز عدد التلميذات بالمعاهد الثانوية 1060 تلميذة سنة 1954 مقابل إثنتين فقط سنة 1902 وقد سجل التاريخ أسماء 50 فتاة فقط اجتزن امتحان الباكالوريا سنة 1954.

إذن، وإن أمكن القول إنّ التعليم لعب دورا لا جدال فيه في تطوّر الفتاة التونسية فإنّ تأثيره يبقى محدودا وهذه المحدودية تؤكدها الأرقام: 10% فقط من الفتيات اللاتي بلغن سنّ التعليم مرسّمات بالمدارس.

وفي هذا الصدد نشير إلى سبب ثان في غاية الأهمية إذ يجدر التّذكير بأنّ تونس شهدت في الثلاثينات العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية تزامنت مع ظهور جيل جديد من المناضلين وأثّرت أيّما تأثير في حياة المرأة التونسية وبرزت خلال تلك الفترة ثلاث منظمات نسائية كان لها نشاط ملحوظ وهي:

1 - الاتحــاد التـــونسي للنساء المسلمات (الاتحاد النسائي الإسلامـــي بقيـادة بشيرة بن مـراد) وقد أصبـح سنة 1944 الاتحاد النسائي التونسي وصدر آنذاك العدد الأوّل من مجلة نسائية «ليلى».

2 - الفرع النسائي لجمعية شبان المسلمين سنة 1944 بقيادة سعاد ختّاش.

3 - نادي الفتاة التونسية سنة 1954 بقيادة توحيدة فرحات.

وبدأت المنظّمات النـسائية تحتـلّ مكـانها على السـاحة حـول الأحـزاب السيـاسية وبذلك يكون الإطار الجمعياتي قد أسهم كذلك في نحت شخصية الفتاة التونسية. ومن المؤســف أنّ التـــاريخ المعاصـر قد أغفل في معظم الأجيال ذكر هؤلاء النساء في تاريخ النضال الوطني غير أنّ وثائق الأرشيف التابع للشرطة الاستعمارية يوفّر العديد من الشهادات والصور فتشير إلى أوّل حضور نسائي في الاجتماع الذّي نظّمه الحزب الحرّ الدستوري الجديد في جانفي 1937 بحديقة ڤمبتّا.

كانت النســـاء المتظاهرات في يــــوم 18 أفريل 1938 بالمئات وكنّ يساعدن على تأجيج الهيجان الشعبي وعلى سريانه من سطح إلى سطح بإطلاق الزغاريد وتزويد المتظاهرين بالأدوات والأسلحة. لقد أكّدت المرأة المناضلة حضورها الفـــاعل بصيـغ متنوّعة ومغايرة لصيغ نضال الرجــل حيث روّجت شعارات الحزب ونظّمت الحملات السّرية لجمع التبرّعات ولعبت دور الخفير لرصد حركات المستعمر وزوّدت المقاومين بالأسلحة والمؤونة وشـــاركـــت في بعض العمليّات الميدانية المحدّدة مثل تخريب خطوط الترامواي.

وقد ناضلت المجموعة النسائية المنتمية إلى الأحزاب في البداية في كنف السرية ودون هيكلة. وكانت اجتماعاتها تنعقد في الحمّامات العموميّة والزوايا والمساجد. وظلّت هذه الخلايا تعمل إلى سنة 1950 حين أعلن الحزب الحرّ الدستوري رسميّا وجودها في صفوفه. وقد لعبت دورا بارزا في مظاهرات 1951 – 1952 وأسفرت هذه المظاهرات عن العديد من الإيقافات وعمليات الاستعباد الجماعي إلى معتقلات رمادة وبن ڤردان. وامتدّت الاضطرابات إلى المـدارس والمعـاهــد، ممّـــا أجـبر سلطــات الحمـايـة على تعـييـن أوّل تـــونسية مـديــرة لمـدرسة لويـز رونـاي مييي Louise Renée Millet (التي أطلق عليها لاحقا اسم مدرسة نهج الباشا)، فأدارت زبيدة عميرة المــدرســة مــن سنة 1952 إلى سنة 1974. وهكـــذا لم تسفـــــر الثقــافة المزدوجـة التي تلقّتها الفتــاة التــونسية في المــدرسة عن اجتثــاثها مـن جــذورها بــل حـوّلتها إلى شخص مسؤول ومتفتّــح على العــالم العصري وحلّــت مـــحـلّ البنت المطيعة والخاضعة فتــاة تتحلّى بالمسؤولية سرعان ما وعــت بمخاطر الاستعمار.

ختاما يمكـــن القـــول إنّ تطوّر المــرأة التونسية تمّ ببطء ولكن بثبات لا فحسب عن طريق المدرسة والإطار الجمعياتي بل وكذلك في خضـــمّ العمــل الاجتمــاعي والنضال الوطني فقدّمت مـن خـلال مقاومتها للآفات الاجتمــاعية وللاستعمار ومن خلال تضامنها مع المعتقلين الدليل على أنّ حاجة المجتمع إلى نسائه لا تقلّ عن حاجته إلى رجاله. كانـــت تــونس المستقلة في مستوى آمال روّاد ورائـــدات تحرير المرأة وتضحياتهم. ويعدّ إصدار مجلّة الأحــوال الشخصيـة في 13 أوت 1956 قرارا ثــوريّا فاندرجـــت ضمنــه وماتزال حركة تحرير المرأة في تــونس. ومن أهمّ دعائم هذا الإنجاز الذي أقدم عليه الزعيم والرئيس الأوّل لتـــونس المستقلة الحبيب بورقيبة إعادة تنظيم الأسرة على أساس تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. وفي هذا السياق تمّ التخلّي عن الحجاب وحصلت المرأة على حقّ التصويت وفتحت أبواب المدارس على مصراعيها حيث غدا التعليم إجباريّا ومجانيا للجميع ممّا يسّر لها العمل بأجر منتظم. وهناك من المؤشرات البالغة الدّلالة ما يحقّ لتونس أن تفتخــر بهـــا فحـــوالي 99% مـــن التونسيــات اللّاتي بلغـــن مـــن العمـــر 6 سنــوات يــزاولن الدراسة وقد فاقــت نسبة البنــات في التعليم الثانوي 52 % من مجموع التلاميذ وبلغ عدد البنات في التعليم العالي نسبة 51% من المجموع الجملي للتلاميذ.

كما اندمجـــت التـــونسيـــات في الحيـاة الاقتصادية والاجتماعية بدرجة متميّزة إذ تمثّل ربع السكان الناشطين فنجد من بينهنّ المدرّسة والطبيبة والمحامية وقائدة الطائرة وصاحبة الأعمال...إضافة إلى دورهــنّ في الحياة السياسية والنشاط الفكري والفنّي مثل المسرح والسينما والرسم والموسيقى والرياضة. وهكــذا برهنــت التونسيات على أنّهنّ خير خليفــة لعلّيسة ومازلن يرفعن التحدّيـات ويتصدّيــــن للرجعـيـة للحفــاظ على مكتسبات تونس الحداثية. ولأنهنّ أسهمـــن في نحــــت تاريخ هذه الربـوع فإنّهن غـدون جديرات بالتحية والثناء والمـــرأة التونسية بالأمــس واليوم هــي تلك البربرية والفينيقية والقرطاجنيّة والرومانية والبيزنطية والعربية المسلمة، وليدة هذا البلد الصغير، الممتدّ تاريخه على ثلاث ألفيات، والذي يمثّل نقطة التقاء لحضارتين: حضارة شرقية وحضارة غربية تركتا أثرا خـالدا في تاريخ الإرث الكوني للإنسانية..

سلوى الخضّار زنقر

مديرة البحوث التاريخية بالمعهد الوطني للتراث

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.