احميده النيفر: 13 أوت, الجازية و»الــــطّــاهـــران«
1- في الذكرى الحادية والستين لصدور مجلة الأحوال الشخصية تتبدّى «الجازية الهلالية» رمزا للمرأة التونسية الحرّة المُلتَحِفَةُ بحصافة الرأي والإخلاص لجموع أهاليها. هذا ما سوّغ دعوتها في هذه الذكرى لمصاحبة تقييم مسيرة «الطاهريْن» اللذين واكبا مشاغلها الحديثة بما قدّماه لها من أعمال ومواقف وخصائص.
2 - وُلد الأوّلُ، الطاهر الحدّاد ( 1899 - 1935)، بالعاصمة بعد أن نزح والداه من حامة قابس في الجنوب التونسي. نشأ في فترة عرفت حركة اجتماعية وسياسية هامة وتلقّى في طفولته تعليما بالكُتّاب التحق بعده بالتعليم الزيتوني مع انتساب إلى الجمعية الخلدونية. تتلمذ على شيوخ عصره من أمثال عثمان ابن الخوجة وعبد الحميد بن باديس. غادر الزيتونة بعد الحصول على «التطويع» سنة 1920 ملتحقا بمدرسة الحقوق التونسية منخرطا في الإصلاح السياسي والنضال الاجتماعي. نشر سنة 1930 أهم آثاره القلمية «إمرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي تسبّب في حملة تشهيرية ضدّه. عاش السنوات الخمس الأخيرة من حياته في عزلة ضاعفت العلل من قسوتها فتوفّي في ديسمبر 1935 تاركا من التآليف مقالات وأشعارا إضافة إلى كتاب «إمرأتنا» وكتاب «العمال التونسيون والحركة النقابية».
3 - في أسرة أندلسية وفدت من «سَلا» بالمغرب الأقصى سنة 1650 لتستقر بتونس العاصمة وُلد الثاني، محمد الطاهر ابن عـاشور (1879 - 1973) ونشأ في قصر جدّه للأم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتّور بضاحية المرسى. ظلّ في رعاية الجدّ متعلما القرآن الكريم ومتلقيا دروسه الأولى بالمسجد الملاصق لدار جدّه بالعاصمة قبل الانخراط سنة 1892 في طلبة جامع الزيتونة حيث تلقى علوم العربية والشريعة على ثلّة من المشائخ مع دروس خاصة للغة الفرنسية. نال شهادة التطويع سنة 1903 مرتقيا بعدها مدارج التدريس بالجامع الأعظم وبالصادقية ومُكلَّفا بالمسؤوليات الإدارية كالنظارة العلمية الزيتونية (العمادة) ولجنة إصلاح التعليم ومجلس الأوقاف الأعلى إلى جانب القضاء المالكي سنة 1913 فالإفتاء سنة 1923. بعد نيله رتبة كبير أهل الشورى المالكية سنة 1927 ارتقى ابن عاشور سدّة المجلس الشرعي إذ عُيِّن سنة 1932 أوّل شيخ للإسلام المالكي. تولّى مشيخة الجامع الأعظم وفروعه مرتين الأولى سنة 1932 ثم سنة 1945 قبل أن يُكلَّف بعمادة كلية الزيتونية سنة 1956. له تراث تأليفي زاخر في التفسير والسيرة والفقه وعلوم العربية والآداب وفي التعليم والتاريخ مع رسائل ومقالات عديدة في الإصلاح والاجتهاد.
4 - «الجازية» الحديثة، من جهتها، كانت أحد أهمّ شواغل تونس منذ نهاية القرن 19 حيث برز الاهتمام بأوضاعها وبتحريرها بالتعليم خاصّة. تحقّق ذلك بجلاء عندما تَبَنَّتْ صحيفة «الحاضرة» قضيّتها باعتبارها أحد مسالك النهضة المرجوّة وتابعتها في ذلك غالبية الصحف الناطقة بالعربية ممّا أدّى إلى نتائج لافتة. فمن 13 فتاة فقط في المعاهد العمومية سنة 1905 َصِـرْنَ 120 سنة 1907 ليبلغ عددهن 5511 سنة 1935 وينتهين إلى 6000 فتاة سنة 1938.
ما يسترعي الانتباه إضافة إلى هذا التطور العددي الخاص بالتعليم اتساعُ حراك المرأة التونسية ضمن المجتمع الحضري والريفي في رهان مندفع للتعلّم لم تستطع الأوساط التقليدية معاندته.
في هذا يجدر استحضار عدة نماذج دالّة من التونسيات اللاتي استطعن تجسيد هذا الحس التمدُّني الواضح. نذكر مثلا توحيــدة بالشيخ (1909 - 2010) أصيلة بلدة راس الجبل من ولاية بنزرت التي تخرَّجت أول طبيبة تونسية ومغاربية من فرنسا سنة 1936 مع نشاط مدني ضمن الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي. معها تبرز بشيرة ابــن مــراد (1913 - 1993) من عائلة علم وخطط شرعية بالعاصمة حيث تولّى والدها محمد الصالح ابن مراد مشيخة الإسلام الحنفي. أسّست بشيرة سنة 1938 الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي مع نشاط صحفي تدعو فيه إلى تعليم المرأة وانخراطها في النشاط العلمي والخيري للمجتمع.
ثالثة النماذج سعاد خَتّاش (1917 - 2003) حرم الشيخ المناضل محمد الصالح النيفر. تولّت رئاسة فرع لجمعية الشبان المسلمين باسم «السيدات المسلمات» صحبة شخصيات نسائية عديدة لبثّ الوعي ولمساعدة المعوزات وتمكين الفتيات من التعليم والتربية.
5 - من هذه النماذج تتكشّف فاعلية المجتمع وقدرته على التغيير والتطور ومدى ما يحقّقه من مراجعة ويؤسّسه من تناغم في الفرد أيّا كان موقعه وقناعاته. لقد تراجع التوجُّس الموروث من تعلّم الفتاة نتيجة دينامية المجتمع المدعوم بالحسّ التمدّني وبحريّة الصحافة والعمل الجمعياتي. لقد انتهى الأمر بعدد من شيوخ الزيتونة المعروفين أن يكتبوا أو يحاضروا مؤيّدين هذا التوجّه التحرّري الذي كانت ترنو إليه «الجازية الحديثة». ذلك كان شأن الشيخ عثمان ابن الخوجة بما نشر من مقالات وكذلك ما حاضر به الشيخ المختار ابن محمود عن ضرورة تعليم الفتيات وتربيتهن. أكثر من ذلك فإنّ صاحب «الحِداد على إمرأة الحداد» مكَّن ابنته بشيرة وأخواتها في الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي من ركن مستديم في مجلّته «شمس الإسلام» لنشر أفكارهنّ المتعلقة بـتعليم المرأة وإصلاح أخلاقها.
6 - عنـد هـذا الحـدّ يتعيّــن، مع ذكـرى 13 أوت أن نحدّد المقـاربة التي اعتمـدها كلٌّ مـن «الطاهريْن» فيمـا قدّماه لإرساء واقع مغاير للجـازية الحـديثـة والمعاصرة.
اعتمد الحداد في أقسام كتابه: الاجتماعي والتشريعي والاستفتائي الموجّه لرجال المجلس الشرعي مقاربةً إشكالية ثلاثية الأبعاد. أوّلها يجلّيه العنوان: «إمرأتنا في الشريعة والمجتمع» فيما يبرزه مستوى الواقع الاجتماعي للمرأة. عن هذا القسم تتكشّف الأزمةُ الخانقة لمؤسسة الزواج والأسرة وما يتفرّع عنها من تفشٍّ لظاهرة الطلاق وما اتصل بها من مشاكل تعدّد الزوجات وما تحيل عليه من عوائق تعلمية وتربوية للرجل والمرأة على السواء. في هذا المستوى الأول يُقرُّ الحداد بحاجة المرأة للتعليم والتربية لكنه لا يقتصر على ذلك.
يتعلق المستوى الثاني بطبيعة الخطاب التشريعي في صيغته السائدة ومدى قدرته على توليد ما تتطلبه مؤسسة الزواج والأسرة من معالجات. في هذا تبرز الفكرة الناظمة للكتاب بكافة أقسامه. يظهر ذلك حين يسأل الحداد عن حقّ المرأة في اختيار الزوج وهل لوليّها أن يختار مكانها؟ ثم يطرح مسألة حريّة المرأة الرشيدة في تصرفها المالي وهل للزوج ولاية عليها في ذلك أو تفويض جبري؟ يتواصل الإشكال مع حقّ الطلاق وما يمكن أن تُطالَب به المرأة من ضمان لها وهل هذا الحقّ بيد الرجل يوقّعه متى شاء و بلا حدّ؟ لينتهي بسؤال: إلى ماذا نعزو الامتياز الذي يتمتع به الرجل إزاء المرأة؟
صميم هذه الأسئلة يرجع إلى المستوى الثاني التشريعي بما يحيل على «قيمة المساواة» التي يبرزها الحدّاد في أحد أسئلته للمجلس: «هل المرأة في البيت رفيق مساوٍ للرجل يعملان باشتراك في الرأي والتنفيذ أم أنها قاصر تحت رعايته كأداة لتنفيذ أوامره»؟ مع هذه الأسئلة ومع إجابات الشيوخ نصل إلى المستوى الثالث من مقاربة الحدّاد وهو المستوى المنهجي المميِّز لمعالجته قضية المرأة.
في هذا المستوى بالذات تبرز إجابات الشيوخ بما فيهم الشيخ ابن عاشور مفتقرة لمنهج محدّد في التعامل مع نصوص الشريعة وفهمها وفق ما يستلزمه التطور التاريخي وما يستدعيه الواقع المتغيّر.
7 - عندما نمعن النظر في أعمال الطاهر ابن عاشور الخاصة بالمرأة ندرك بيسر اختلافه النوعيّ لمقاربة سَمِيِّه. كان ثاني «الطاهريْن»، وفق عبارة الشاطبي، رجلا «رَيَّاناً من علوم الشريعـة، أصـولها وفروعها منقولها ومعقولها، غير مُخلِد إلى التعصّب للمذهب». بذلك كان ابن المؤسسة التعليمية الزيتونية بامتياز في الجانب الرئيس من منهجها والمُتمثِّل لما كانت تواجهه من مصاعب داخلية وخارجية نهاية القرن 19 ومطالع الـ 20. يؤكد هذا هاجسُه الدفاعي فيما ذكره في تفسيره قائلا :»رأيتُ الناس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٌ معتكفٌ فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله يهدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرٌّ كثير...». هل نستغرب بعد ذلك إدانته الرسمية لكتاب الحدّاد الصادرة عن اللجنة العلمية المكونة في الجامع الأعظم التي ترأسها لما احتواه الكتاب من «أوجه كثيرة من الضلال والتضليل...بما يعتبر مروقا عن الدين وتمرّدا على إجماع الأئمة من علماء الإسلام ومحاربة الرسول الأعظم...»؟
في نفس الخط الحمائي تتضافر كتابات ابن عاشور الخاصة بقضايا المرأة مكرِّسة اعتبارَها حقائقَ اجتماعية سائدة نظَّمها المُشرِّع كقضية المهور وتعدد الزوجات للعبيد والمساواة والقوامة. مع ذلك فقد اعتمد مقاربة مغايرة لمسألة ضرب المرأة ولباسها دون التوصل لمنهج مميّز في التعامل مع النصوص التشريعية قصد إعادة بناء المنظومة الثقافية للمجتمع بما يجعلها في مستوى التفاعل مع السياق الحضاري الصاعد.
8 - ما تفيده اليوم اهتمامات «الطاهريْن» أنّ اتحادَهما في المسعى الإصلاحي لا ينبغي أن يُغفِل اختلاف رؤيتهما لطبيعة المعالجة ومجالاتها ومنهجها. هي عند الحدّاد مرتبطة بتعلم المرأة والرجل وبطبيعة الثقافة الفقهية السائدة وبالمنهج المعتمد القادر على بناء منظومة ثقافية وتشريعية مجدّدة للمجتمع، في حين أنّ عناية ابن عـاشــور تركّزت على تعطّل البناء الفكري الفقهي والأصولي بما يجعل منتهى التزامه هو إصلاح المؤسسة التعليمية العريقة نظاما وبرامج.
على هذا يكون سؤال «الجازية» فيما يشغلها اليوم من مستجدات متعلّقا بما كشفه «الطاهران» من انسدادات للمعرفة الشرعية وما تتطلبه من تقعيد نظري ومنهجي بديل. هو سؤال التحدّي المطروح على الذات الوطنية، امرأةً ورجلاً وأسرةً وقانونًا ودولةً، في حاجتها إلى المؤسسة المرجعية المتيحة للتموقع العلمي والقيمي في العصر والقادرة على أن تتغلب على التناقضات الداخلـــية لتلك الـذات بما يمكّنهــا من الفـاعلية في بيئتـها الخارجية.
د. احميده النيفر
- اكتب تعليق
- تعليق