أخبار -
2017.04.22
دة. رياض الزغل: هل المجتمع التونسي مهدد بالانهيار؟
عند متابعة الأخبار حيث لا يمر يوم دون أن تنقل وسائل الإعلام خبر اعتصام أو حواجز على الطرقات، أوتعطيلا لأنشطة قطاع اقتصادي أو إداري أو ثقافي لا ليوم واحد بل لعدة أيام، يتساءل المرء إذا كان هذا تعبير عن التمرد أم هي علامات انهيار المجتمع؟
العديد من التونسيين اللذين يميلون إلى اعتبار أنفسهم، عن طوع أو مكرهين، كجزء من مجتمع متجانس وسلمي نوعا ما، ينزعجون عند سماع مثل هذه الأخبار التي تتكرر عبر أكثر من قناة إعلامية. وبالموازاة مع هذا الوضع يلاحظ إحياء للعصبيات القبلية والجهوية على أساس مبدأ "ها نحن وهؤلاء ليسوا منا" وبروز السلوكيات العدوانية أو على الأقل دون اعتبار للأخلاق أو متطلبات المهنة.
فتظهر التصدعات والشقوق في النسيج الاجتماعي، وتبرز الاضطرابات التي تؤشر على تفاقم الخلافات بين أجزاء كاملة من المجتمع، الشيء الذي يبعث على التساؤل عما إذا كان المجتمع التونسي لا يزال يحظى بالتماسك الاجتماعي الذي تحتاج إليه الحياة المشتركة والمستدامة.
من وجهة نظر سوسيولوجية، قد لا تبعث على الانزعاج هذه التمظهرات وهذا التعبير عن العداوة لمجموعات متضامنة في الظاهر ضد مجموعات أخرى، إذ من المعلوم أن حياة أي مجتمع تخضع إلى نهجين متناقضين. من جهة، يعيش المجتمع على أساس قاعدة مشتركة من ضمن مكوناتها تمثلات اجتماعية وقيم وقواعد سلوك وتاريخ مشترك ومؤسسات... تسمح هذه القاعدة المشتركة للأفراد بالاندماج في الكيان الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن أي مجتمع هو مجال للصراع نظرا لاختلاف الأفراد ومجموعات الأفراد من حيث الموارد والمصالح والمواقف والقدرات والتموقع ضمن النظام الاجتماعي. غير أن التصارع داخل المجتمع هو من أسباب الديناميكية والتغيير الاجتماعيين.
إنما عدم التوازن بين هذين النهجين يتسبب في إخلالات بالنسق الاجتماعي:
- إذا بلغ التوافق حده ينغلق المجتمع على نفسه وتتحجر التصورات والممارسات التي عفا عليها الزمن لأن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية تغيرت من حولها ؛ وهكذا يجد المجتمع نفسه متأخرا بمرحلة تاريخية مقارنة بالعالم الذي ينتمي إليه.
- ولما يسيطر الزخم الناتج عن التصارع على الحياة الاجتماعية، فإنه يفتح الطريق أمام العثرات والأزمات التي يمكن أن تؤدي إلى فقدان القيم والتفكك الاجتماعي وانهيار المنظومة الاجتماعية. وتظهر أشكال ضيقة من التضامن كالقبلية والطائفية، والجهوية وهي من مظاهر الإخلالات التي تحمل في طياتها خطر الحروب الأهلية المدمرة.
إن المتمعن في المشهد الاجتماعي التونسي اليوم لا يقدر على قراءة بنيته وهذا لا يعني أنها غير موجودة وإنما الفواصل بين مختلف الطبقات الاجتماعية غير واضحة وقابلة للاختراق في ظل ازدهار الأنانية الفردية. من المحتمل أن تؤدي هذه الأنانية إما إلى انهيار اجتماعي أو تتولد عنها ديناميكية خلاقة تعيد هيكلة وتجديد القيم من أجل تماسك اجتماعي جديد أكثر اتساقا وتناغما مع التحول التاريخي الذي تشهده البلاد. هذا هو السؤال الأساسي الذي ينبغي أن يضعه على نفسه كل سياسي رجلا كان أو امرأة في هذه الفترة الحرجة حيث التغييرات المتعددة تجعل مستقبل البلاد مفتوحا على كل الاحتمالات.
إن التونسيين الذين اعتادوا منذ الاستقلال على الحزب الحاكم الواحد، وعلى الإشادة بالرئيس الأوحد وكأنه إلاه ومنظومة إعلامية غير صادقة تعمل على نشر صورة مثالية للواقع، قد اكتشفوا مندهشين بعد انتفاضة 2011 تنوعهم واختلافهم والفجوات المتعددة التي تفصل بينهم منها الاقتصادية والجغرافية والأيديولوجية والثقافية.
صحيح أنه عقب ثورة 2011 ظهرت موجة هائلة من التضامن الاجتماعي ولكنها لم تصمد طويلا بل سرعان ما تركت المكان للتصارع والفردية التي تغذيها الطموحات السياسية وحرب المواقع، فازدهرت الفوضى التي استغلها مختلف أشكال المهربين والمجرمين وكل من يستغل فرص اختراق القوانين. وهنا للمرء أن يتساءل إذا كان المجتمع لا يزال قادرا على ضمان درجة من التماسك الضروري للاستقرار وعلى النظر إلى تنوعه على أنه ثروة ورافعة للديناميكية والإبداع الذين يسمحان بالتكيف مع متغيرات واقع جديد يتسم ببدايات التجربة الديمقراطية وحرية التعبير.
في كثير من الأحيان، عندما تضعف قدرة المجتمع على إنشاء أو تعزيز تماسكه بسبب التغيرات السريعة والعميقة وغلبة النزعة الفردية، تتدخل الدولة داعية إلى ما يسمى ب «اللحمة الوطنية". ونجد في سياسة بورقيبة مثالا ملهما لذلك التوجه حيث كان يصف التونسيين بالتشتت وأنهم ليسوا إلا "غبارا من الأفراد،" أراد أن يجعل منهم أمة مستعملا مفهوم "الأمة التونسية" لتركيز سلطته وفي الآن نفسه تحقيق وحدة وطنية أساسها الانتماء لأمة، ليس بالمفهوم الواسع للأمة العربية أو الإسلامية وإنما تختزل في الدولة التونسية التي "دينها الإسلام ولغتها العربية". وقد اشتغلت هذه الاستراتيجية نوعا ما حتى عام 2011!
إن ما يعطي فعالية لاستراتيجية الدولة لا معتمدة على اللحمة الوطنية هو وجود قاعدة مشتركة لتصور المصالح الوطنية، وعلاقة قوية بين الدولة والمجتمع الذي يرى أن مؤسسات الدولة تعكس اهتماماته مما يعطي شرعية للدولة كسلطة تطبق القانون وتعمل من أجل المصلحة العامة وحمايتها. وهذا الاعتقاد في شرعية الدولة هو الذي يمنحها القوة لممارسة الحكم. ولكن سلوك الحكام ، سواء كانوا منتخبين أو معينين، يضعف الدولة ويهز شرعيتها وذلك عندما يبدو أن هؤلاء الحكام منشغلون بالصراعات الحزبية والمصالح الشخصية أكثر من التزامهم بالعمل من أجل المصلحة العامة. فتفقد الدولة قدرتها على تحقيق الوحدة الوطنية لأنه لم يعد ينظر إليها كتجسيد للمصلحة العامة بسبب ما يشاهد من تصرفات قادتها. ويؤدي غياب الشرعية والثقة تدريجيا إلى اهتراء سلطة الدولة.
يوجد بتونس اليوم عاملان يهددان بتفكيك المجتمع وهما: الأنانية الفردية وضعف الدولة. هذان العاملان يغذيان ويعززان خطر التفكك الاجتماعي وذلك بالتوازي مع ظهور أشكال من التضامن الضيق الذي ينحصر في منطقة أو مجموعة مهنية أو عشيرة أو عائلة ذات نفوذ أو شبكة من المتنفذين بالمال. نظرا لما عليه الوضع اليوم ولتجنب التفكك الاجتماعي ومخاطره الكبرى هناك حاجة إلى إحياء التماسك الاجتماعي الواسع وهو يأتي من المجتمع ذاته وفي الآن نفسه من اللحمة الوطنية التي تؤسسها الدولة علما وأن التماسك واللحمة يمكن أن يتكاملا إذ تعزز الواحدة الأخرى. لكن كيف يمكن تحقيق اللحمة والتماسك ودرء خطر الانهيار الاجتماعي؟
إن بناء اللحمة الوطنية يتطلب احترام القانون، ومصداقية العدالة وحوكمة اجتماعية واقتصادية صالحة ومجدية. والقصد من هذه الحوكمة الصالحة هي التي تعمل من أجل تهيئة الظروف المادية لحياة كريمة، وتسهر على نفاذ قوانين عادلة، وعلى احترام الحريات الفردية، وهي التي تعترف بحق المواطنين في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم اليومية.
أما التماسك الاجتماعي فيتأسس على منظومة من القيم المشتركة ووضع اقتصادي مقبول يحد من الاستياء الناجم عن الفوارق الاجتماعية. ولكي تولد القيم المشتركة تماسكا اجتماعيا فلا بد أن تكون من النوع الذي يعطي معنى للمصلحة العامة ويحفز طاقات المجتمع المدني من أجل تحقيق هذه المصلحة. تنتشر هذه القيم بفضل الحوكمة الصالحة وإنفاذ القوانين العادلة ومكافحة عدم المساواة وتوفير الفرص لأكثر عدد ممكن من المواطنين وقد تسهم وسائل الإعلام في نشر هذه القيم. وفي المقابل فإن عملية التحول الديمقراطي والحوكمة الصالحة يحملان المواطنين على تحمل المسؤولية عن طريق المشاركة في اتخاذ القرار ومساءلة السلطة الحاكمة. هكذا يصبح المواطنون الملتزمون فاعلين بدلا من أن يكونوا دوما متكلين على الدولة متواكلين، ضحايا وعاجزين أو يعيشون بالسطو على إمكانيات البلاد كالطيور الكواسر.ولما يتصرف المواطنون كفاعلين اجتماعيين يكون بمقدورهم اكتشاف مسالك جديدة للرقي وابتكار وسائل جديدة تؤدي إلى تحسين الظروف المادية والثقافية الخاصة بهم وبغيرهم أيضا.
بقدر ما نحتاج اليوم إلى دولة قوية وإلى الحرية نحن نحتاج إلى قيم أخلاقية تعطى معنى ومحتوى لما قد تكون عليه المصلحة العامة. وإذا كانت هذه القيم غائبة فالإصلاح ممكن. أفلا يتوقف الشفاء من الأمراض على التشخيص الصحيح؟
هذه الأسطر رقنتها مساهمة متواضعة في هذا التشخيص المطلوب.
دة. رياض الزغل
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات