الشـــــاذلي القليبي: أحمد بن صالح، رجُل الحيوية والعزم
هو أحد رجالات تونس الأفذاذ؛ أقام الدليل، طيلة حياته العاملة، على إخلاصه للوطن، وعلى صدق اعتزازه بالانتماء إلى الحضارة العربيّة الاسلاميّة، وعلى دائم كفاحه من أجل قضايا البلاد العربيّة، مغربا ومشرقا. هذا الرجل – الأستاذ أحمد بن صالح – لقد كان دوما مثل الضياء لِمن حوله؛ بذل من جُهده، في سبيل عزّة الوطن ومصالحه العُليا، ما لم يبذله الكثيرون من الاوائل، من حوله. هذا الرجل، ذو القلب الكبير السخيّ، حُرمت تونس – في أوجه عطائه – من مواهبه العالية، ومن خدماته المخلصة؛ وحُرم أهله من حضوره ورعايته، مدّة طويلة، دون أمل ولا بصيص من الرجاء. هذا الرجل، ذو الفكر الثاقب، والاحساس المرهف، حُرم الادب، أيضا، من مواصلة إطلالاته الشعريّة، على غرار ما أسماه بـ«ديوان الفصوص»، كَتَبَه في عنفوان شبابه، ولم ينشره. هذا الرجل الذي آلت به الايّام إلى سنّ لا ترحم، كان له من القوّة، في مقتبل العمر، ما جعله يُواكب عصره باقتدار، في أعلى تطلعاته من الادب، والفكر والفنّ.
شابا، كانت له سطوة في المنتديات، وانتساب إلى أسرة مجلة المباحث، التي لا يُنسى ألقَها؛ وراودته أحلام بوحدة شعوب المغرب العربي الكبير، فرَمَزَ إليها بتأليف جمهرة من شباب المنطقة، أطلق عليهم «إخوان الأطلس» – أرادهم «إخوان الصفاء».
هذا الفتى التهمته مشاعر الغيرة على الوطن، واستبدّ به حبّ الاصلاح؛ فانهمــــك، بكلّ طاقاته، لا يأبه لِحاسد ولا لِحاقد. فحفـّت به الظنون؛ وتآمرت به القاسية قلوبُهم؛ فإذا بآماله تُمنَى بالخيبة؛ فما استكان، ولا ضعُفت عزيمته. هذا الرجل العصامي، الذي بنى، بنفســه، كلّ ما أحرزه، في زمن العمل والتشييد، هذا الرجل الأبيّ، لم تأخذه في الحقّ لومة لائم، رغم تفنّن الحاقدين في تسليط التـُهم إليه. ولقد ربطتْ، بيننا، أيّام اليفْع والشباب، في المدرسة الصادقيّة، ثمّ في كلـّية الصربون، بباريس؛ فأوثقت بيننا أواصر الودّ؛ ثمّ زادنا الالتحاق بالمسؤوليات الحكوميّة تقاربا. فلمّا أُثيرَت قضيّة التعاضد – دون حقّ ولا منطق عدل – كانت نكبة للاشخاص، ومضيعة للجهود، ومتلفة للمصالح. وما كتبتُ هذه الكلمات لِردّ الاعتبار – الذي في الحقيقة لم يفقده الاستاذ أحمد بن صالح، لدى العقلاء والنزهاء من أهل السياسة – وإنّما لِتأكيد أنّه دوما معتبر النابغة من رجالات تونس المخلصين. ومسيرته تدلّ على ذلك:
فلقد كان، منذ شبابه، من روّاد النضال الوطني، أسْوةً بوالده.
كما كـان في طليعـة الكفــاح النقـابي، عند إقامته بمدينة سوسة، أستاذا – وزميله أحمـــد نـورالديـن؛ فكان كلٌّ منهما يُكنّ للآخر الودّ والتقدير.
ثمّ عيّنه فرحات حشاد نائبا عن الاتّحاد، لدى المنظـّمة العالميّة للنقابات الحرّة؛ فحظي في بركسل بعالي الاحترام من القادة ومن الزملاء. وبعد استشهاد فرحات، آلت إليه خلافته؛ فرفع مشعل المنظـّمة الشغّيلة، عاليا، داخل البلاد التونسيّة، وخارجها. وكثيرون يعتبرون أنّه كان خير خلف لِخير سلف.
وكأنّي بالإخوان، اليوم، في الاتّحاد، نسُوا أنّ أحمد بن صالح كان تحمّل المسؤوليات الاولى، في قيادة المنظمة، وفي ظروف حرجة، استطاع فيها أن يخدم قضايا الشغّالين بحماس وإخلاص، وأن يغلـّب مصلحة البلاد على مصالح فئويّة، أو انتماءات خارجيّة. فأثبت أنّ حشّاد كان مدرسة النضال الاجتماعي والكفاح الوطني.
هذا الرجـــل تولـّى، تحـــت قيادة المجا هد الاكبر، أمانة الحزب، ووزارة الصحّة؛ ثمّ أسنِدَت إليه وزارة التخطيط التي حرص أن يُطلق عليها – في بداية تكوينها – «وزارة التصميم»، إشارة إلى ما يستلزم التخطيط، في نظره، من عزيمة وثبات؛ وكانت من أصعب وزارات الحكومة، قام بأعبائها بفحولة نادرة. وقد كان المجاهد الاكبر يقدّر فيه اتّقاد الفكر، وقوّة الحزم، وحسن الاجتهاد في معالجة المشاكل العويصة.
أمّا إخواننا، في بلاد المغرب وبلاد المشرق، فلم ينسَوْا أنّ الاستاذ أحمد بن صالح كان من المتحمّسين للمشروع المغاربي، حُلم الاجيال؛ وكان مُهتمّا بالمصير العربي، مُدافعا، دوما، وحيثما كان موقع مسؤوليّاته، عن قضايا الأمّة العربيّة، وفي مقدّمتها جهاد الشعب الفلسطيني، ضحيّة المظالم الدُوليّة – مرحلةً بعد مرحلة. وممّا ينبغي أن يذكر أيضا، من ماضي أحمد بن صالح، أنّه، أثناء حياة الطلب، بباريس، كـُلـّف بربط الصلة بين إدارة الحزب وبين الملك القدوة المنصف باي، في منفاه بجنوب فرنسا. فقام بالمهمّة أحسن قِيام، وحظي بثقة العاهل الوطني، في كلّ ما كان له معه من لقاءات – التقى فيها برجالات كِبار من السياسيّين التونسيّين، فعرفوا فيه الرأي اللامع والعزم الثابت. كما ينبغي أن لا ينسى أهل الثقافة والادب أنّ الاستاذ أحمد بن صالح، رغم شواغله الحكوميّة، لم يتخلّ عن كلفه القديم بالادب وشؤون الفكر – التي كانت جمعت بيننا، وبين أستاذنا محمود المسعدي، منذ شبابنا.
فقد رسّخت، في أذهاننا، أيّام الطلب، ما انتشر إذاك من نظريات فلسفيّة تدعو إلى «الالتزام»؛ ثمّ إنّ الدراسات التاريخيّة ألهمتنا الرغبة في إحياء حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، التي تناستها الاجيال، وأصبحت مجتمعاتنا ترنو إلى الحضارة الحديثة، بغية الاقتباس منها – وربّما الهجرة إليها. وأثناء كلّ هذه المسيرة الثريّة – وكنتُ شاركتُ في بعض مراحلها – كان الرجل دوما على رباطة الجأش المعروفة عنه، متمسّكا بالتطلـّع إلى الافضل، فيما يُصلح البلاد وينفع العباد: إلى أن لسعته الايّام، وتألـّبت عليه المذاهب المضادّة، ممّا كلـّفه أنواع العناء ومشاق الغربة؛ ولم يُتَح له، في قمّة عمره، أن ينعم بما كان المجاهد الأكبر يسمّيه «فرحة الحياة». لكن الرجل أخذ نفسَه بالصمود والصبر، ولم يُخلد إلى فورات الغضب والشتائم. فقد ثبت، وعمل بكدّ فكره، طيلة السنين التي قضاها خارج وطنه، بمساعدة من كان عرفهم في زمن العزّ، وعرفوا فيه الخصال التي تميّز بها.
ولمّا عاد إلى أرض الوطن، وجد الامور قد اختلفت. لكن كان له أن يعتزّ بأنّ مَن عرفهم بالودّ وَجَدهم ملتزمين بالوفاء؛ وأنّ مَن سِواهم، أغلبهم أصبحوا يكنّون له الاحترام – وكأنّهم مقرّون أنّ ما حصل في أيّام الشقاء لم يكن لا على صواب ولا على حقّ.
ولمّا قامت ثورة الكرامة والشباب، إذا أحمد بن صالح يشعر أنّه منهم وإليهم. ولكن أعراضا صحّية حَرَمته من الإسهام، كما كان يُريد، في توضيح مقاصد العمل الثوري، وسُبُل تحقيق مآربه.
وخلاصة القول، في مناقب الاخ العزيز، أنّ له أن يعتزّ بأن كان، في مختلف محطـّات حياته العاملة، اختار دومــا أن يجعل الأولويّة لِخدمـــة الغــير:
فلمّا كان طالبا، في باريس، استجاب لِنداء الواجب العائلي، فعجّل بالرجوع إلى أرض الوطن، لِكفالة أسرته، بعد وفاة والده.
ولمّا كان على رأس المنظمة الشغيلة، أدرك أنّ اختلال العلاقة بين العملة والاعراف مأتاه اختلالات في النظام الاقتصادي، موروثة، في أغلبها، عن الوضع الاستعماري المرتكز، في الصميم، على أهداف استغلاليّة. فاجتهد لِوضع «برنامج اقتصادي»، نوّهت به الآفاق؛ وحرّضت عليه خصوم الاتّحاد؛ ورأى فيه أصحاب النظر القصير خطرا على مصالح.ومنذ ذلك العهد، تعلـّقت به ظنون، وتوجّهت إليه اتّهامات، لاحقته، طيلة مسيرته، لـَحاق «التابعة» في كلّ خُطاه.
ثمّ لمّا تحمّل المسؤوليات الحكوميّة، أراد أن يُحوّل البــــلاد إلى جَنّةِ عَــــدل. فلقيَ في ذلك ما لقيَ من سوء الفهم، وسوء الظنّ. ولكنّه التزم الصبر، مُستمسكا بالعفو والصفـــح والتجــاوز – وهي من أعلى أركان الاخلاق السياسيّة –ومن أكثرها ندارة.
فتحيّة إلى أخي، وأقرب الاقربين إليّ، راجيا له دوام العافية في نصاعة العقل وحيويّة الضمير، وفسحة الرضى عمّا كــان من أداء الواجب، في شمـــوخ لا يضعف ولا يَنِي.
وقديما حفظنا، أيّام الصادقيّة، أشعارا كثيرة للمتنبّي، يحضرني منها : «على قدر أهل العزم تأتي العزائم».
أثنــاء ما كان يُسمّى «تجربة التعاضد»، كنتُ وأحمد بن صالح مع الرئيس، في سيّارته، قاصدين المنستير. وكان لهما حديث طويل عن مسائل تهمّ الاقتصاد. والذي أذكــره أنّ أحمد طلب رأي الرئيس في كيفية التعامل مع البساتين المحيطة بعدد كبير من المنازل، بصفاقس. وقال: هي بساتين خاصّة، وبها أشجار مثمرة ؛ وليست معدّة أساسا للفلاحة..
الشـــــاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق