الحبيب الدّريدي: إنّما الأُمـم الكتـــاب ما بقيــتْ ...
وأيُّ أثر يُمكن أن يشهد على الأمّة سوى فكرها؟ وأيّ معنى أدلّ عليها من عقلها وعبقريّتها؟ وأيّ رمز ألصق بها من ألوان إبداعها؟ وأيّ صوت أجهر من صوت ثقافتها؟ وأيّ لسان أفصح من آدابها؟ وأيّ حديث أبلغ من فنونها؟ إذ لا يبقى للأمّة بعد أن يخمد تناوشها ويخفت صخبها ويسكن جدالها إلّا خلاصة عقلها وحصيلة ثقافتها وفكرها.
وإنّك لا تجد كالكتاب موئلا للفكر المستنير ومحملا للثّقافة الجادّة والمعرفة المحقَّقة المُنزَّهة، وقديما قال الجاحظ: «يجمع من التّدابير العجيبة والعلوم الغريبة ومن آثار العقول الصّحيحة ومحمود الأذهان اللّطيفة ومن الحكم الرّفيعة والمذاهب القويمة والتّجارب الحكيمة ومن الإخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنـازحة والأمثــال السّائرة والأمــــم البائدة ...» (كتاب الحيـــوان، ج 1، ص42).
ولذلك احتفت الأمم المتحضّرة بالكتاب وأعلت شأنه ومنزلته وأقامت له الأعياد والمعارض والأيّام. وقد عرفت تونس الاحتفاء بالكتاب منذ أواسط سبعينات القرن الماضي فأنشأت معرض تونس الدّولي للكتاب الذّي بدأ غضّ الإهاب فتيّا ثمّ بلغ عنفوانه بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي قبل أن تتعدّد المعارض المماثلة في جلّ العواصم العربيّة ويطرأ من تقلّبات السّياســـة والأمن والاقتصاد ما أفقده الكثير من بريقه وإشعاعه.
وها نحن نتطلّع إلى دورة جديدة ستلتئم بعد بضعة أسابيع لعلّها أن تردّنا إلى الأمل الواعد وتعدل بنا إلى الطّمأنينة الرّاضية. وفي انتظار ذلك شغلتنا ملاحظات كرهنا أن تُتْرك محفوظات وعلقتنا خواطر أحببنا أن تُنشر سافرات.
دعم دون المأمول
لا تثريب أن نُقرّ بأنّ الكتاب التّونسيّ يعيش أزمة حقيقيّة ما فتئت تستفحل جرّاء ارتفاع كلفة إنتاجه ومحدوديّة مسالك توزيعه. فلئن نشطت منذ سنوات حركة إنتاج الكتاب التّونسي تأليفا ونشرا فإنّ منظومة الحوافز والتّشجيعات ظلّت ضعيفة، من ذلك أنّ صندوق التّشجيع على الإنتاج الأدبيّ والفنّي لا تتجاوز مخصّصاته للكتاب نسبة 6%. أمّا الميزانيّة المخصّصة لدعم الورق فلم تتجاوز سنة 2015 مبلغ 800 ألف دينار في حين يُقدَّر حجم المنشورات التّونسيّة في مجال الكتاب الثّقافي بما يزيد عن 1700 عنوان كلّ سنة دون اعتبار الكتاب المدرسي والمنشورات الرّسميّة، معنى ذلك أنّ دعم النّسخة الواحدة لا يتجاوز بضع عشرات من الملّيمات! (إذا اعتبرنا أنّ معدّل السّحب من كلّ عنوان يُقدّر بـ 3 آلاف نسخة). وأمّا الميزانيّة المخصّصة لاقتناء الكتاب التّونسيّ فكانت في حدود 1.2 مليون دينار فقط خلال السّنة نفسها، وهو رقم هزيل دون شكّ يعكس غربـــة الكتاب في هذه الدّيار.
غياب دور النّشر الكُبرى
في ضوء هذه المعطيات البليغة في الدّلالة على مجافاة الكتاب والاستهانة به يمكن أن نفهم بعض أسباب تراجع مردوديّة معرض تونس الدّولي للكتاب والزّهد في الإقبال عليه.
ولعلّ التّجليّ الأبرز لهذا التّراجع هو عزوف دور النّشر العريقة والجادّة في البلاد العربيّة عن المشاركة في هذه التّظاهرة مشاركة فعليّة ومباشرة مثل الدّور اللّبنانيّة ذات الصّيت العلميّ المعروف على غرار «دار المشرق» و«دار العلم للملايين» ودار العودة» و«دار الآداب» و«دار الأندلس» و»دار القلم» و«دار الكتاب العربيّ» و«دار الآفاق الجديدة» و«دار الكتب العلميّة» و«دار إحياء التّراث العربيّ»، أمّا «مكتبة لبنان» و«دار الطّليعة» و«المكتبة العصريّة» فلم يكن لها في الدّورة الأخيرة إلّا حضور محدود ومحتشم. وكذلك الشّأن بالنّسبة إلى دور النّشر المصريّة فهي إمّا غائبة مثل «مكتبة الخانجي» و«البابي الحلبي» و«مكتبة الأنجلو» و«نهضة مصر للطّباعة والنّشر» و«الهيئة العامّة لقصور الثّقافة» و«منشأة المعارف بالاسكندريّة» أو محدودة الحضور مثل «دار المعارف» و«دار الكتاب المصريّ».
وقد يزعم البعض بأنّ عددا من هذه الدّور شارك في الدّورات الأخيرة للمعرض، ولذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّنا نُميّز في هذا الصّدد بين الحضور الفعليّ المباشر وهو يتمثّل في المشاركة بالرّصيد الأوفر من منشورات الدّار والاستقلال بجناح خاصّ في المعرض وبين المشاركة «الرّمزيّة» التّي تتمّ عن طريق بعض ممثّلي هذه الدّور بتونس، وهـــي لا تتجاوز عرض عدد قليل جدّا من العناوين التّي يجدها القارئ يوميّا في محلّات بيع الكتب. بل إنّ ظاهرة المشاركة من خلال «النّيابة» و»التّمثيل» هي مظهر آخر من مظاهر انحسار المعرض وتراجعه.
أمّا دور النّشر الغربيّة فقد انقطعت عن المشاركة الفعليّة منذ سنوات عديدة فلم نعد نلحظ أجنحــة لدور كبرى مثل Seuil وGallimard وPUF وBordas وMinuit و L’Harmattan وغيرها، وأضحى الأمر مُقتصرا على عدد محدود من العناوين القديمة التّي أصدرتها هذه الدّور تُعرَضُ في الأجنحة التّابعة لبعض المكتبات الموجودة في تونس.
على أنّ الأمر الإيجابي الذّي لا بدّ أن نسجّله لمعرض تونس الدّولي للكتاب هو كثافة الأنشطة الثّقافيّة واللّقاءات الفكريّة والأدبيّة التّي تُقام بمناسبة المعرض والتّي كان لها أثر واضح في إدخال حركيّة لافتة على هذه التّظاهرة، وقد شكّلت فرصا لمحاورة شخصيّات أدبيّة وأكاديميّة مرموقة من تونس وسائر البلاد العربيّة وتطارح قضايا على قدر بالغ من الأهميّة.
من أسباب التّراجع
وليس من الإنصاف أن نعزو تراجع المعرض إلى القائمين على شؤونه، فلم تخل دورة من بعض الاجتهادات المحمودة الدّالة على حماسة للكتاب وللشّأن الثّقافي عامّة وعلى إرادة للارتقاء بمستوى التّظاهرة. غير أنّ تضافر جملة من الأسباب جعل المعرض يتقهقر من دورة إلى أخرى:
- يُعتبر حجم الميزانيّة المرصودة لتنظيم المعرض ضئيلا وغير كاف بالقياس إلى طموحات هذه التّظاهرة وما تتطلّع إلى إنجازه في ظلّ منافسة عاتية من معارض أخرى أخذت تتكاثر مشرقا ومغربا.
- تواترت التّغييرات على رأس إدارة المعرض وهيئته المنظّمة، وهو أمر لا يُمكّن من ضمان الاستقرار والاستمراريّة اللّازمتين لوضع استراتيجيات عمل طويلة المدى وإرساء تقاليد راسخة في البرمجة والتّنظيم، ولا يسمح بربط صلات متينة مع النّاشرين ونسج علاقات دائمة مع سائر المتدخّلين بما يكفل النّجاح المرجوّ لهذه التّظاهرة.
- يتمّ الإعداد للمعرض في حدود زمنيّة ضيّقة لأنّ المدّة التّي تتاحُ للهيئة من أجل إعداد التّظاهرة والتّحضير لمختلف فقراتها مدّة قصيرة، ذلك أنّ المدير يُعيّن قبل أشهر قليلة من موعد إقامة المعرض، وهو يحتاج قدرا من الوقت لاختيار فريقه ومعاونيه والانطلاق الفعليّ في العمل، ومن شأن هذا الضّغط الزّمنيّ أن يدخل الضّيم على نوعيّة الأداء ويؤثّر سلبا في كيفيّة الاشتغال على مختلف محاور التّظاهرة.
-
أشرنا آنفا إلى أنّ معرض تونس الدّولي للكتاب يلقى منافسة شديدة من قبل معارض الكتاب في سائر البلدان العربيّة، ففضلا عن أنّه كان يتزامن مع معرض الكتاب بالبحرين فإنّ خارطة المعارض العربيّة وروزنامتها تجعل المواعيد متقاربة بما لا يُمكّن النّاشرين من المشاركة في كلّ المعارض. ولا بدّ من الإقرار في هذا السّياق بأنّ تنافسيّة معرض تونس تُعدّ ضعيفة بسبب ارتفاع معاليم مشاركة النّاشرين وازدياد كلفة الشّحن.
-
لا خفاء أنّ الإقبال على اقتناء الكتاب في تونس ضعيف جدّا لأسباب عديدة منها تدهور القدرة الشّرائيّة وتضخّم أسعار الكتب بما جعل اقتناءها ضربا من التّرف والكماليّات ومطمحا بعيد المنال بالنّسبة إلى كثير من الفئات المعنيّة بالقراءة ولا سيّما الطّلبة والمربّين. وهنا يضحى تدخّل الدّولة ضروريّا ومُتأكّدا لمزيد دعم الكتاب باعتباره أداة البناء الحضاري الأكثر نجاعة وفاعليّة في مقاومة تسطّح الوعي وتصحّر الفكر وفي التّصدّي للوثوقيّة والتّحجّر والتّطرّف وتحصين النّاشئة من الوقوع في مزالق الظّلاميّة والانغلاق.
مقترحات لاستعادة البريق
وإذا كان قد تبيّن أنّ الرقيّ الحضاريّ يُبنى على الكتاب وأنّ يقظة الفكر لا تتحقّق إلّا بالكتاب فمن الضّروريّ أن تُفرد الكُتب الجيّدة وكلّ المتدخّلين في تصنيعها ونشرها وتوزيعها بدعم خصوصيّ وإسناد استثنائيّ وأن يّتجه اهتمام القائمين على شؤون الثّقافة إلى تعزيز منزلة الكتاب في برامجهم ومخطّطاتهم.
ولعلّ أوّل خطوة في هذا الاتّجاه هي إعادة البريق إلى معرض تونـــس الدّولي للكتــاب وتعبئة كلّ الإمكانيّات الكفيلة بإرجاعه إلى سالف ريادته وإشعاعه. وفي هذا الإطار تجدر المبادرة إلى وضع خطّة تحـرّك مُحكمـة لاستقطاب دور النّشر الكبرى عربيّا وعالميّا، وسيتطـلّب ذلك دون شـكّ بعـــض الإجــــراءات من قبيل:
التّرفيع في ميزانيّة المعرض
- تفعيل دور المُلحقين الثّقافيين بالسّفارات التّونسيّة بالخارج في المساعدة على استحثاث كبار النّاشرين والوجوه الثّقافيّة والفكريّة البارزة على المشاركة في المعرض.
- مزيد تطوير الأنشطة الموازية التّي تُقام على هامش المعرض وإحكام هيكلتها من ذلك تنظيم ندوة دوليّة كبرى أو جامعة مفتوحة تُلقى فيها محاضرات قيّمة على امتداد أيّام المعرض.
- تطوير مسابقات المعرض والتّرفيع في قيمة جوائزها.
وعلى هذا النّحو يمكن أن تصبح التّظاهرة منتوجا ثقافيّا وسياحيّا من الطّراز الأوّل.
وقد يكون من المناسب إقــرار يوم وطنيّ للكتاب من أجل أن تُصبح القراءة سلُوكا يوميّا وعــادة مـــن العــادات الرّاسخة في مجتمعنا وحتّى يصير الكتاب عنــدنا «خير جليس في الأنــام» قولا وفعلا.
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق