حـــنـان زبـيــس: الحرب ضدّ داعــش وحلـم الأكـراد بـالاستقـلال
كغيري من التونسيين لم تكن معرفتي عميقة بالقضية الكردية ولم أكن أحمل في ذهني سوى صورة الجنود الأكراد المقاتلين في صفوف حزب العمال الكردستاني في معاركهم ضدّ الجيش التركي في جنوب تركيا أو صور ضحايا مأساة حلبجة عندما قصف صدام حسين الأكراد في شمال العراق بالغاز الكيميائي في الأيام الأخيرة للحرب العراقية-الإيرانية سنة 1988. ولم أكن أظن يوما أنني سأعيــش بين أحضـان الشعب الكــردي على أرضـــه، بـــل وسأتزوّج منه.
كــان انتقالي للعيش في كردستان العراق في ربيع 2014 وتحديدا في أربيل عاصمة إقلـــيم كردســتان الذي يتمتع بحكم ذاتي منـــذ تدخل الأمريكان لإعلانه منطقة حظر للطيران بعد حرب الخليج الأولى.
أربيل كانت مثلا للمدينة المزدهرة التي تشهد نموّا متسارعا بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 وبداية تمتّعها بخيراتها وتحديدا البترول. خلال عشر سنوات تحوّلت من قرية صغيرة إلى مدينة عصرية ببناءات شاهقة وشوارع جميلة وواسعة وفنادق فخمة ومراكز تجارية مزدهرة. أصبحت تشبه بلدان الخليج حيث ترى الرفاه وتشتم رائحة الدولارات في كل مكان. ولا عجب أن أطلق عليها اسم «دبي الصغيرة»، نظرا للتشابه في البناءات والرخاء والرغبة في الصعود السريع لمصاف المدن ذات القوة الاقتصادية في الشرق الأوسط.
وإلى حدود 2014، كانت أربيل قبلة المستثمرين من جميع أنحاء العالم وخاصة الأتراك والخليجيين واللبنانيين كمدينة اقتصادية مزدهرة ولكن أيضا كمنطقة سياحية نظرا لما تتمتع به من طبيعة خلابة وبنية تحتية فندقية ذات جودة عالية، بالإضافة إلى مناخ من الاستقرار السياسي والأمني على خلاف بقية البلاد العراقية. ولاعجب أن تمّ اختيارها «عاصمة السياحة العربية 2014» من قبل المنظمة العربية للسياحة.
ولكن دخول داعش الى العراق واستيلاءه على مدينة الموصـل في 10 جوان 2014 قلب كل المعادلات. فانطفأ بريق المدينة فجأة وغادرها السياح والمستثمرون وتوقّفت الحركة الاقتصادية فيها وأصبحتَ تتجول بين شوارعها لتعترضك في كل شارع بناءات خالية، غير مكتملة كعلامة على المشاريع المتوقفـــة الى أجل غير مسمّى، وكأنّ قدر المدينة هو أن تجد نفسها دائما في قلب كل الأحداث والحروب التي تعصف بالمنطقة، فبرغم كل محاولات الأكراد في العراق أن يبنوا لأنفسهم وطنا آمنا ومستقلا ومزدهرا اقتصاديا، إلا أنهم لم يستطيعوا الهروب من رحى المعارك التي تدك الشرق الاوسط، ليبقى عدم الاستقرار، الطابع الغالب على حياتهم ومصيرهم.
سقوط الموصل وانعكاسه على الأكراد في العراق
سقوط الموصل أثّر بشكل كبير في الأكراد وفي استقرار منطقتهم. فبحكم وجود الموصل على أطراف إقليم كردستان العراق، وجد الأكراد انفسم في تماس مباشر مع داعش. فأربيل مثلا تبعد حوالي 90 كيلومترا عن الموصل، في حين تبعد عنها دهوك، إحدى المدن الثلاث الأساسية في الإقليم، 60 كيلومترا. وقد أدّى هذا التقارب الجغرافي إلى تدفق آلاف النازحين من الموصل من شيعة ومسيحيين وأكراد وشبك (شيعة الأكراد) إلى مدن الإقليم ليجد نفسه أمام أزمة من أعمق الأزمات الإنسانية التي مرّ بها. فالإقليم الذي يضمّ حولي 5 ملايين ساكن اضطر لايواء ما يزيد عن مليون نازح جاؤوا من كامل سهل نينوى لينضافوا إلى قرابة 300 الف لاجئ سوري معظمهم من أصل كردي احتموا بالإقليم هروبا من أتون الحَرب في سوريا. وهو ما أجهد بشكل كبير البنية التحتية الهشة وعمّق أزمة الكهرباء مع انقطاعات متكررة وإمداد بالكهرباء الوطني لا يتجاوز العشر ساعات يوميا في جوّ قائظ تقارب درجات الحرارة فيه الخمسين درجة.
لكن الأسوأ بالنسبة إلى الأكراد كان هجوم داعش على الإقليم في صائفة 2014 واستيلاؤه على بعض المدن الملاصقة له والواقعة تحت سيطرة الأكراد مثل سنجار وزمار التي تتميز بآبارها النفطية ووصوله إلى تخوم أربيل لولا تدخلّ القوات الأمريكية لصده وإنشاء التحالف الدولي لمقاومة الإرهاب. لم يتوقع الأكراد أن يهاجمهم مقاتلو الدولة الإسلامية لأنّه إلى حدود صيف 2014 كانوا يعتقدون أنّ هجوم مقاتلي التنظيم على العراق واستيلاءهم على الموصل كان ينضوي ضمن الصراع بين السنة والشيعة في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. كما أنّ الأكراد هم أصلا من السنة وكانت تربطهم علاقة تعاون مع التنظيم، حيث كانوا يبيعون له النفط ويسمحون بتمرير الغذاء والسلاح له من تركيا نحو الموصل، بالإضافة إلى أنّ مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق لم يدل بأيّ تصريح عدائي ضد داعش بعد سقوط الموصل. لذلك تفاجأ الأكراد بأنّ حليف الأمس انقلب عليهم فجأة وأجبرهم على دخول الحرب.
ظهور النوايا الاستقلالية من جديد
دخول الأكراد إلى الحرب ساعد على تحريك القضية الكردية من جديد داخل العراق وخارجه، وتحديدا النوايا الاستقلالية للأكراد، سواء كانوا في العراق أو ســوريا أو تركيا. فالانتصارات المتتالية لقوات البيشمركة الكوردية ضد مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية، بمساعدة قصف طائرات التحالف وتمكّنهم من استرجاع كامل الاراضي التي كانت خاضعة للسيطرة الكردية بعد أن استولى عليها التنظيم في شمال العراق، حرّك عندهم من جديد حلم الاستقلال عن باقي العراق، خاصة مع تواصل الخلافات مع السلطة المركزية في العراق حول نصيب الأكراد من ميزانية الدولــة الذي يبلــغ 17% والذي امتنعت السلطات العراقية عن تقديمه للأكراد منذ 2014، في ظلّ إصرارهم على بيع نفطهم بأنفسهم لتركيا وعبرها وعدم ضخّه إلى السلطة المركزية.
من جهة أخرى، فإنّ دخول حزب العمال الكردستاني على خطّ الحرب ضد داعش في سوريا ثم في العراق، وتحديدا في منطقة سنجار الحدودية بين البلدين، أعطى للقضيـــة الكرديــة بعدا جـديدا وأصبح الحديث عن إعادة إنشاء «كردستان الكبرى» بأجزائها الأربعة في العراق وسوريا وتركيا وايران، بعد تقسيمها إبّان اتفاقية سايكس بيكو، أمرا جديا وبدأ التنسيق في هذه البلدان لإيجاد رؤية واحدة من أجل تحقيق هذا الحلم العزيز على كل كردي أينما كان. وهنا لابد أن لا ننسى أنّ مشاركة بيشمركة العراق في الحرب جنبا إلى جنب مع وحدات حماية الشعب الكردية (الجناح المسلّح لحزب العمال الكردستاني في سوريا) في الدفاع عن كوباني وتحريرها من حصار داعش في بداية 2015، عمّق لدى الأكراد الإحساس بأنهم أمة واحدة وأنه قد حان الوقت للاتحاد من جديد. كما أنّ اتصالات سرية بدأت في نفس الفترة بين السلطات في كردستان العراق وعبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، في سجنه لبحث إمكانية تنفيذ حلم الأكراد بوطن واحد يجمعهم ويكون شكله أقرب إلى الكونفدرالية. لكن تركيا أردوغان ما كانت لتسمح لهذا الحلم أن يتحقق وظلت تتابع بقلق كبير انتصارات حزب العمال الكردستاني بجناحيه في سوريا والعراق وهو يحقق الفوز تلو الآخر ضد داعش، خاصة بعد أن كسب دعم الامريكان وقوات التحالف التي رأت في الأكراد القوة الوحيدة القادرة على مجابهة الإسلاميين المتطرفين على الأرض.كما أنّ إعلان الأكراد الحكم الذاتي في المناطق التي يسيطرون عليها في سوريا كمنطقة الجزيرة وكوباني، أشعر تركيا بأن الخطر أصبح يتهدد وحدتها، فما كان منها إلاّ أن استانفت في جويلة 2015 هجوماتها على مواقع حزب العمال في العراق وسوريا، ممّا أجبر هذا الأخير على نقض الهدنة التي كان قد أبرمها مع الحكومة التركية. كما أنّها تغلغلت في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا في إطار مشاركتها في الحرب على داعش. ودخلت أيضا إلى التراب العراقي حيث وضعت قواتها في بعشيقة قرب الموصل وتدخلت في حرب استعادة الموصل دون أن يطلب منها أحد ذلك، هذا إلى جانب ضغطها على حليفها مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان، للتصدّي للنفوذ المطرّد لحزب العمال في كردستان العراق.
ما بعد الحرب على داعش
مع قرب انتهاء الحرب على داعش في العراق، تُطرح مسالة تسوية وضعية القرى والمدن التي حرّرتها قوات البشمركة الكردية من قبضة التنظيم في سهل نينوى، حيث يرفض الأكراد تسليم هذه المناطق ويريدون التعامل مع السلطة المركزية بمبدإ «الأرض لمن يحرّرها». وتندرج هذ السياسية من قبل الأكراد في إطار طموحهم إلى ضمّ المناطق المتنازع عليها بينهم وبين السلطة المركزية والتي تحددها المادة 140 من الدستور العراقي، حيث توجد على الحدود المباشرة للإقليم ويريد الأكراد ضمّها إليه لأنها تضم سكانا أكرادا وهي مناطق تقع في سهل نينوى، وفي محافظة كركوك و ديالى.ولعلّ الطموح الأكبر للأكراد بعد خروج داعش من العراق هو إعلان استقلالهم الذاتي وتكوين دولتهم في شمال البلاد، حيث بدأت السلطات في كردستان العراق تلوح منذ أن بدات الاستعدادات لحرب الموصل بضرورة القيام باستفتاء لإعلان الدولة الكردية المستقلة. وقد بات مسعود البارزاني، رئيس الإقليم، يصرّ في خطاباته على ضرورة تأسيس دولة مستقلة. بعض الملاحظين يعتبرون أنّ ذلك من قبيل المناورة السياسية لإيجاد مخرج للأزمة السياسية العميقة التي تعصف بالاقليم منذ أكثر من سنة ونصف بسبب مسألة الرئاسة، حيث انتهت ولاية البارزاني كرئيس منذ أوت 2015 ولا يحق له الترشح لولاية أخرى إلا إذا تم تعديل قانون رئاسة الإقليم وهو أمر مستحيل نتيجة تعطل أعمال البرلمان منذ أكتوبر 2015. ولم تنجح الأحزاب الكرديّة المتصارعة في إيجاد البديل.
وتتعمق الأزمة السياسية أكثر أمام تعالي بعض الأصوات الحزبية لتقسيم الإقليم إلى نصفين كما كان الحال إبّان الحـرب الأهلية الكـردية (1994– 1998)، نصف يحكمه الحزب الديمقراطي الكردستاني (وهو الحزب الحاكم) يضم أربيل ودهوك وهو شق قريب من تركيا ونصف آخر يحكمه الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير ويضم السليمانية وحلبجة وهو شق قريب من إيران ليخيم من جديد على الإقليم شبح الانقسامات والحرب الأهلية التي سادت في أواسط التسعينات من القرن الماضي بين الحزبين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
وتنضاف إلى هذه الأزمة السياسية العميقة، أزمة اقتصادية خانقة. فالإقليم الذي انتهج سياسية التصادم مع السلطة المركزية أدّت إلى حجب نصيبه في ميزانية العراق، وجد نفسه اليوم عاجزا عن دفع رواتب موظفيه بصفة منتظمة وعلى توفير الخدمات الأساسية لمواطنيه من كهرباء ونفط أبيض للتدفئة، بل إنّه اضطر عديد المرات إلى الاقتراض من تركيا لتسديد نفقاته. كما تبيّن أنّ توليه بيع نفطه بنفسه لم يجلب الثراء والرخاء المأمول، بما أنّ تركيا استغلت خروج النفط الكردي عبر أراضيها وهو المنفذ الوحيد لتصديره لتفرض أسعارا زهيدة لبيعه، لا تكفي الإقليم لسدّ حاجياته. زد على هذا كله أنّ الحرب مع داعش وأزمة اللاجئين استنزفت موارد الإقليم بشكل كبير.
يبقى حلم الأكراد بالدولة المستقلة سواء في العراق أو في سوريا رهين الأوضاع في المنطقة وما سيسفر عنه انتهاء الحرب مع داعش في البلدين من واقع جديد على الأرض و تحديدا ما ستقرّره القوى الكبرى مثل روسيا وأمريكا وإيران بشأن الشكل الجديد لمنطقة الشرق الأوسط..
حـــنــــان زبــــيـــــس
- اكتب تعليق
- تعليق