أخبار - 2017.01.17

عامر‭ ‬بوعزّة: الديمقــراطية بين‭ ‬صفعتيـن

ثورة 14 جانفي

بعد مضيّ ستّ سنوات على قيام ثورة اصطُلح على تسميتها رسميا بثورة الحرية والكرامة، صفع عون حرس مواطنة في عربة نقل عمومي لمجرّد رفضها التنازل عن مقعدها، فأشعلت هذه الصّفعة مجدّدا فضاءات النّقاش السّياسي لكن بشكل هامشي ويبدو أقلّ أهميّة في غمرة الجدل الوطني المضطرم حول عودة التونسيين المورّطين في قضايا إرهابيّة خارج الحدود وما إذا كان دستور الثورة يسمح بتجريدهم من حقّهم في الجنسيّة.

لقد اتّجهت النخب السياسية في تونس بعد سقوط النظام بشكل مفاجئ وغير متوقّع عشية الرابع عشر من جانفي 2011 إلى إعادة اختراع العجلة، فعملت ثلاث سنوات كاملة على صياغة دستور جديد يضمن الحقوق والحريات وينشئ نظاما سياسيا جديدا يحدّ من صلاحيات الرئيس دون أن يكون هناك عمل قاعدي في العمق للتربية على الديمقراطية وقيم المواطنة. وانبنت المقاربة التأسيسية على فكرة سهلة تختزل الدكتاتورية في شخص الرئيس ومؤسسة الرئاسة وتبشّر بالديمقراطية التي تأتي مدجّجة بحزمة من التّشريعات وترسانة من المؤسّسات واللّجان والهيئات والجمعيّات، لكنّ هذه الديمقراطية الوليدة التي تضمن للسّياسيين مقاعد شبه قارّة في بلاتوهات الثرثرة السياسية والتحاليل الاستراتيجية لم تستطع أن تضمن لمواطنة بسيطة مقعدا في عربة نقل عمومي ولم تحمها من صفعة مهينة بسبب عون حرس متسلّط.

صحيح أن القليل من الضّوء الإعلامي عبر وسائل التّواصل الاجتماعي أولا ثمّ في القنوات الإذاعيّة والتّلفزيونية كان كافيا ليأخذ القانون مجراه الطبيعي في هذه القضيّة، لكنّ هذه الحادثة لوحدها يمكن أن تساعد على محاولة فهم الواقع التونسي الجديد بما فيه من تناقضات، فهي تؤكد شعورا جماهيريا عارما يرقى إلى مرتبة اليقين بأنّ الحرّية بضاعة تلفزيونية لا غير وأنّ الديمقراطية فرجة يتفشّى فيها الاقتتال الإيديولوجي الرمزي، أمّا الواقع اليومي فلم يتغيّر كثيرا، ظل يراوح مكانه، هنا حيث تسود قيمٌ أخرى لم تختلف كثيرا عمّا كان سائدا في الماضي القريب، ألم تندلع الثورة أصلا بسبب صفعة؟!

قد يعتبر البعض أنّ هذا التناقض بين الصورة على الشاشة ونظيرتها في الواقع ليس إلاّ جزءا من المسار وأنّ الديمقراطية لا تأتي هكذا دفعة واحدة إنّما بالتراكم، وهو موقف يتغافل عن أهمية تجذير الديمقراطية في الواقع بالممارسة فالنصّ وحده لا يعني شيئا، والتدريب على قيم المواطنة يعني أساسا التوصل إلى المعادلة السحرية التي تنهض عليها الديمقراطية في الغرب، الحرية في ظل القانون، إن هذه المقاربة تعتبر أنّ النظام القديم لم يكن نظاما دكتاتوريا كما تروّج لذلك أدبيات العهد الجديد لكنه كان نظاما يقوم على الاستبداد، وهو قاسم مشترك بين الجميع ولا تحتكره السلطة السياسية فحسب، الاستبداد ظاهرة اجتماعية وممارسة إنسانية متأصّلة في النفس البشرية والتأسيس للديمقراطية لن يكون بالنجاعة القصوى ما لم يتصدّ لهذه الروح الاستبدادية الجماعية بإعلاء سلطة القانون، فكل توظيف للحرية دون مقاومة للاستبداد يفضي إلى المزيد من العنف.

لقد أعادتنا صفعة عون الحرس المتسلّط إلى المربّع الأوّل رغـم أنّ المســـار يبدو للمبتهجين مضيئا لا سيّما بعد انطلاق جلسات هيئة الحرية والكرامة العلنية التي ستعيد الاعتبار إلى ضحايا الاستبداد، لكننا لم نخرج على ما يبدو من مأزق التناقض الحاد بين الفرجة التلفزيونية الرائقة والحياة اليومية المنهكة تحت وطأة التعب والفوضى، وهذه الدائرة المفرغة في حاجة إلى من يحطّمها قبل أن ينقسم البلد أكثر من ذي قبــل إلى شعبـــين، شعـب يمــــــارس الديمقـــراطية ويتمــتــّع بها وشعب يشاهدها متثائبا من أمام الشّاشات.

بعد عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.