بـــاب بحـــــر :فجأة خلت شوارعُ العـــــــــاصمة مــن البــاعة الفـــوْضوييـــن!
وتنفّس التونسيّون الـذين يظهـــرون فــي ريبــــورتاجات التلفـزة الصّعــــداء، فبــدوا مبتهجين مسرورين وهُم يتجوّلــون في شـوارع شبه خالية، وأضاف الخيــال الشّعبي هذا الإنجاز إلى سجــــلّ حســنات الوالي الجديد الذي يبدو صاحب كرامات لا تُحصى.
الذين يعرفــون العاصمة جيّــدا يدركـــون أن البــــاعـة الجــــــوّالين جــــــــزء من جغرافيتها البشــريّة منذ السّبعينات حتى أصبــــح الكـــرّ والفــرّ بين الشّرطة البلديّة وأصحـــاب الصّناديــــق في محــــــيـــط المــغــــازة العـــامّــــة وشـــــارع شــــارل ديغول مشهدا فولكلوريّا يوميّا يجسّد الصّراع الأزلي بين الفـوضى والنّظام، وهو صراع لم ينته ولم يفض إلى غـــالب ومغلوب، ففي كــلّ يوم يهرب الباعـــةُ ثم يعودون، ويختــفي أعوان البلديّة ثم يرجعون، لم تنظّم السّلطة هؤلاء الباعة كما فعلت مع ماسحي الأحذيــة الذين يجلسون في أمــان تحت الأشجار الممتدّة من شارع قرطاج إلى شـارع الحرّية مرورا بشـارع باريس، فهـــم لا ينافسون في مهنتهـم أحـــدا بينما تقــــضّ البضائع الصّينيــــة والتـــّركـية المهـــرّبة مضاجع أرباب الحوانيت الذين تثقل كاهلهم الضّرائب والإتاوات.
ماذا فعلت السّلطة لتحقّق هذا الإنجاز التّاريخي دون أن تثير حفيظـة المنظّمات الحقوقيّة؟
الإجابةُ تأتي على لسان الكاتب العام لنقابة الباعة المستقلّين في نشرة الأنباء الرّئيسية،لقد عرف الفريق الصّحفي من أين تؤكل الحقيقة، واختصر الطّريق من غير أن يشير حتى إلى أنه قد تعذّر مثلا الحصول على تصريح من الولاية، ليس ذلك مهمّا ولا ضروريّا في غمرة الوفاق التّاريخي الحاصل بين النّظام والفوضى. كهـل لا تخطئه العين بلحيته الكثّة التي تذكّرك بأجواء المساجد الخارجة عن السّيطرة، يتحدثّ باسم هؤلاء الباعة منذ أن صارت لهم نقابة وصار اسمهم «التّجار المستقلّين»، هذه النقـابة ذاتها انتـزعت من السّلطة في ظروف غامضة وعدا بالحصـول على مقرّ الشركة التّونسيـة للتـوزيع في شارع قرطاج المعقل التّاريخي للثّقـافة والفنـون والآداب وجعله سوقا آخر لخردوات النّـظام الدّولي الجديد، ووعدا آخر بتمكينهم من العمل داخل فضاءات مهيأة في الأنهـج الخلفــيّة مطلع العام المقبل مقابل التّنازل عن باب بحر، ولذلك فإن الشّوارع الخالية التي تزيّن واجهـات نشرات الأنباء هي حلول مـؤقّتة لا تعكس انتصـارا للنّظام على الفوضى بقدر ما تمثّـل بداية مرحلة جديدة من التّعايش السلمي بينهما.
باب بحــــر، المنطقة الممتدّة من محطّة قاطرات الضّاحية الشّمالية إلى باب المدينة العتيقة، سمفونية من الأنماط المعمارية ستظلّ شاهدة على حيويّة التّحولات الاجتماعية في تونس عبر العصور، ورغم أن حركة المدّ العمراني قد أفضت إلى ظهور نقاط جذب جديدة على ضفاف البحيرة، فإنّ التّخلّي عن وسط البلد التّاريخي بمثل هذه البساطة سيكون خطأ استراتيجيّا قاتلا ترتكبه الحكومات المتسرّعة،فهي تفرّط في متحف حيّ ولا تفكّر في استثمارات جماليّة ممكنة لفائدة الأجيال المقبلة.
عــامر بــــوعـــزّة
- اكتب تعليق
- تعليق