المؤتمر الخـامس للحزب الدستوري الجديـد (15ـ 19 نوفمـــبر 1955): الـذّكرى المـــغـيـــّـبـة
لا يبدو أنّ الذكرى الحادية والستون للمؤتمر الخامس للحزب الدستوري الجديد ستحظى بالاهتمام، فللبلاد همومها وإشكالياتها فماذا يغنيها العودة إلى ماض لا يزال متنازعا عليه في ما يخصّ الموضوع الرئيسي للمؤتمر والمتمثل في اتفـاقيات 3 جوان 1955 المعروفة باتفاقيات الاستقلال الداخلي وملاحقها الخمسة.
هل كانت هذه الاتفاقيّة خطوة إلى الأمام كما قال الحبيب بورقيبة أم خطوة إلى الوراء كما أصرَّ صالح بن يوسف؟ علينا أوّلا استحضار الأحداث التي أدّت إلى شروخ كبيرة في الحركة الوطنية كادت تؤدي إلى حرب أهلية وثانيا استخلاص العبر منها وتجنّب مخاطر انقسام جديد في المجتمع التونسي في الحاضر كما نبّه إلى ذلك الأستاذ توفيق الحبيب في افتتاحية «ليدرز» بالفرنسية في عددها الأخير.
تلك الاتفاقيات وجد فيها بورقيبة ضالته إذ ألغت الحكم الأجنبي والحماية المفروضة واعترفت لتونس بسيادتها الداخلية ولم تُرض بن يوسف إذ لم تمكّن تونس من سيادتها الخارجيّة وتساهلت مع مصالح الجالية الفرنسية.
لماذا مؤتمر ولماذا صفاقس؟
الجمعة 7 أكتوبر 1955 بجامع الزيتونة المعمور إثر الصلاة خطب صالح بن يوسف واعتبر أنّ الاتفاقيات رُكّزت وشرّعت لكل ما استولى عليه دون حق الاستعمار ودعا إلى الكفاح إلى جانب الجزائر والمغرب إذ أنّ تونس لن تستقلّ إلا معهما.
عمل صالح بن يوسف مند عودته بتاريخ 13 سبتمبر في مناهضة صريحة لبورقيبة على إفشال الاتفاقيات من الداخل حيث أنّ الحملات الخارجية التي تمّ شنّها ضدّه انطلاقا من مصر أو من جنيف لم تأت بالمرجوّ.
الأحد 9 أكتوبر جمع الحبيب بورقيبة الديوان السياسي وحصل بجهد على قرار منه برفت صالح بن يوسف من الحزب الدستوري وإقالته من أمانته العامة وكذلك الدعوة لعقد مؤتمر للنظر في تطورات القضية الوطنية وفصل جوهر الخلاف مع الأمين العام.
بادر صالح بن يوسف بتعبئة القواعد حوله وهو رجل الجهاز مند عدة سنوات والرئيس الفعلي أثناء غياب بورقيبة في الشرق العربي في الفترة 1949-1946 وأثناء اعتقاله في الفترة 1955-1952 وتحصّل على دعم الجامعة الدستورية للعاصمة واتحاد المزارعين والأوساط التقليدية المتأثّرة بالمشاعر والشعارات العروبية والدينية وهو الوتر الحسّاس الذي لعب عليه الزعيم المُقال.
وفي المقابل فإن الحبيب بورقيبة حظي بدعم جهات الساحل والقيروان وصفاقس وبنزرت على وجه الخصوص وكذلك الأوساط الدستورية التقدمية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعية والتجارة لكن لم يكن عقد مؤتمر عام بالأمر الهّين خارج العاصمة لذلك كان خيار صفاقس مُرَحّبًا به فقد كانت دوما موالية له وداعمة لعمله ماليّا وسياسيّا، كما أنّها كانت في شبه حياد من الخلاف بين رئيس الحزب والأمين العام وبعد أن تأكّد من قدرات الوطنيين والنقابيين بصفاقس على تنظيم المؤتمر وحمايته دعا الحبيب بورقيبة إلى عقده بتاريخ 15 نوفمبر 1955.
وصف الأستاذ حامد الزغل في كتابه «جيل الثورة» كيف أقام البنّاؤون سرداقا ضخما في فناء الحي الزيتوني بهياكل من الأخشاب مغطّى بالبيشان وهي الأغطية القطنية المستعملة في النقل وتجهيزه بالإضاءة ومضخّمات الصوت وكل المستلزمات حتّى تتّسع قاعة الجلسات العامة للـ1300 نائب في المؤتمر ومئات الضيوف والملاحظين والصحفيين.
وفي الواقع، فقد تجنّد الأهالي لاستقبال الضيوف وساهموا بصفة فعّالة في تأمين الحاجيات الضرورية للإقامة والإعاشة للمؤتمر خلال أربعة أيام.
أما الحبيب بورقيبة فقد أقام بمنزل الزعيم الهادي شاكر، رفيقه في الكفاح الذي استشهد يوم 13 سبتمبر 1953، والذي يبعد 2 كلم عن مقر المؤتمر بطريق العين.
افتتح المؤتمر يوم الثلاثاء 15 نوفمبر برئاسة الدكتور أحمد علولو رئيس الجامعة الدستورية بصفاقس ورئيس لجنة التنظيم وتميّزت الجلسة الافتتاحية بخطاب الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الذي قام خلال ساعتين من الزمن بتحليل شامل للكفاح الوطني والنتائج المتوصّل اليها، طالبا من المؤتمر أوّلا الفصل في الخلاف الذي جدَّ بينه وبين صالح بن يوسف وثانيا ما يتعيّن على الحزب والحكومة اتباعه من مسالك لبلوغ الانعتاق الكامل والحقيقي للبلاد والكرامة لكل التونسيين.
كما توجّه بورقيبة إلى ضيوف المؤتمر وكان أغلبهم من البلدان العربية والآسيوية إلى جانب ممثلين عن الاشتراكيين الفرنسيين المساندين للقضية التونسية لشرح خاصيات الكفاح التونسي وثوابته المتمثلة في استرجاع السيادة الوطنية وتلافي كل مظاهر الازدواج مع الفرنسيين المقيمين بشأن صيغ بقائهم ومصالحهم وتلافي القطيعة مع فرنسا الحريات والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وأكّد بورقيبة أنّ تونس لم تحظ بدعم خارجي لا من الدول العربية ولا من الأمم المتحدة في كفاحها ولم تصلها ولو خرطوشة واحدة من المشرق إلا أنها تبقى وفيّة لجذورها العربية الإسلامية ومنفتحة على التّعاون مع الجميع وفقا للظروف السياسية والمصالح الاقتصادية.
وبخصوص الاتفاقيات، أشار إلى جوانبها الأساسية وما تتيحه من فرص للتّعجيل ببلوغ الاستقلال التام لكنّ بصورة متدرّجة وبالتعاون مع فرنسا وعلى قدم المساواة خاصّة وأنّ فصولها تتيح إمكانية مراجعتها على ضوء التطورات والحاجيات، مؤكدا وجوب احترامها مشيرا إلى مثال صلح الحديبية بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقريش ومحذّرا من مخاطر الفوضى والاضطرابات.
وعاب الحبيب بورقيبة على صالح بن يوسف مناهضة سياسة الحزب وتقسيم الصفوف الوطنية، مؤكّدا أنَّ عوامل شخصية تدفعه وأنّ ما يدعو إليه من شأنه ضياع الوطن وفرقة شعبه وداعيا إلى التبصر واتباع الحقيقة والابتعاد عن الوهم والمغامرات.
وإثر الخطاب وفي جلسة مغلقة صادق المؤتمر باقتراح من بورقيبة على دعوة صالح بن يوسف ليشرح وجهة نظره أمام الجميع ويفصل بعدها المؤتمر في الخلاف. وتميّزت الجلسة أيضا بانضمام الباهي الأدغم إلى وجهة نظر بورقيبة ممّا جعل مهمّة رئاسة المؤتمر تؤول إليه وكان لموقفه تأثير في ممثلي الجامعة الدستورية لتونس العاصمة الذين اكتفوا بموقف محايد بعد أن كانوا يؤيدون وجهة نظر صالح بن يوسف.
خُصّص اليوم الثاني من المؤتمر للاستماع إلى رؤساء الوفود من البلدان الأجنبية وكذلك رؤساء المنظمات الوطنية ومثلما كان متوقّعا فإن صالح بن يوسف رفض دعوة المؤتمر متعلّلا بوجوب تعليق أشغال المؤتمر مدّة أسبوع لتمكين الشُّعَب المساندة للأمانة العامة من الحضور ومعتبرا أنّ دعوته تقيم الدليل على أنه مازال يُعتبر الأمين العام للحزب الدستوري.
واصل المؤتمر أشغاله في إطار اللجان السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد برز في المجالين الأخيرين الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل أحمد بن صالح ومصطفى الفيلالي. ولا شكّ أن المؤتمر شكّل رجع صدى للحالة العامة للبلاد المتّسمة بارتفاع نسب البطالة والفقر والمرض والجهل وسوء التغذية في صفوف أبناء الشعب، لذلك كان التركيز كبيرا على مطالبة الحزب والحكومة بإيجاد حلول عاجلة وآجلة لهذه الآفات وحاز تأييد المؤتمرين. وصادق المؤتمر في ختام أشغاله على اللائحة السياسية المقدّمة من الحبيب بورقيبة وساند بالتالي الاتفاقيات محور الجدل والخلاف بين الدستوريين. كما صادق على اللائحة الاقتصادية والاجتماعية مؤكدا أنّ الهدف أوّلا وأخيرا هو تحقيق الاستقلال التام وتكوين جيش وطني.
نجح المؤتمر في ظروف صعبة تنظيميا وانتصر سياسيا لفائدة الحبيب بورقيبة، ممّا أدخل البلاد في مواجهات دامية وتدخلات خارجية في الصراع بين الفرقاء أصدقاء ورفاق الكفاح والسجن والمحن بالأمس. ومن المفارقات أن الاتفاقيات موضع الخلاف لم تعمّر طويلا ففي بعض أشهر تبخّرت لتفسح المجال إلى بروتوكول 20 مارس 1956 الذي ألغى معاهدة الحماية واعترف لتونس باستقلالها التام تماما مثل المغرب إذ أن فرنسا ركّزت على مستعمرتها الجزائر ذات الموارد النفطية الهامة وتخلت عن المحميتين ذات الموارد المحدودة.
ويمكن أن نرجع إلى اتفاقيات 3 جوان 1955 لنبيّن الجهد الذي بذله المتفاوضون بتوجيه من الحبيب بورقيبة وخاصة المرحومين المنجي سليم والهادي نويرة ومحمد المصمودي لتثبيت السيادة التونسية والتعامل بما هو ممكن مع المصالح القوية للجهاز الاستعماري. ولأنّ الاستقلال والسيادة الوطنية لم يكونا هدية مَنزّلة فإن معرفة ما حَفّ بالوصول إليهما من أحداث ومواقف من شأنه تقوية العزم الجماعي للمحافظة عليهما في الظروف الدقيقة الحالية المتميّزة بتنامي تيّار العولمة واحتدام الصراعات المُوجَّهَة وإنّه من السهل التفريط فيهما إذا ما تغلّبت الأنانية على المصلحة العامّة في زمن العسر الذي يتطلّب العمل والجهد ونبذ الفرقة والانقسام.
ابو عطف
- اكتب تعليق
- تعليق